وهذه أكبرُ شهادة من عند ربّ العالمين ، وهل هناك أعظمُ من هذه الشهادة للرسول الأمين ، الذي طُبع على الحياء والكرم والشجاعة والصفْح والحِلم وكل خلُق كريم ! .
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍّ قطّ ، ولا قال لشيءٍ فعلتُه لِمَ فعلتَهُ ؟ ولا لشيء لم أفعلُه ألا فعلتَه ؟ » .
وروى الإمام أحمد عن عائشةَ رضي الله عنها قالت : «ما ضرب رسولُ الله بيدِه خادماً قطّ ولا ضرب امرأةً ، ولا ضرب بيدِه شيئا قط إلا أن يُجاهِد في سبيل الله ، ولا خُيِّر بين شيئين قطّ إلا كان أحبُّهما إليه أيسَرَهما . وكان أبعدَ الناس عن الإثم ، ولا انتقمَ لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتَهك حرماتُ الله » .
وقوله { وإنك لعلى خلق عظيم } هذا أيضاً داخل في حيز المقسم عليه وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم لعلى خلق أي أدب عظيم حيث أدبه ربه فكيف لا يكون أكمل الخلق أدباً وسيرته وما خوطب به في القرآن من مثل خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين . ومثل وشاورهم في الأمر ومثل لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك إلى غير ذلك من الآداب الرفيعة التي أدب الله بها رسوله مما جعله أكمل الناس أدباً وخلقاً وقد سئلت عائشة عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن وقال هو عن نفسه أدبني ربي فأحسن تأديبي وقال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .
- بيان كمال الرسول صلى الله عليه وسلم في أدبه وأخلاقه وجعله قدوة في ذلك .
الأولى- قوله تعالى : " وإنك لعلى خلق عظيم " قال ابن عباس ومجاهد : على خلق ، على دين عظيم من الأديان ، ليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه . وفي صحيح مسلم عن عائشة : أن خلقه كان القرآن . وقال علي رضي الله عنه وعطية : هو أدب القرآن . وقيل : هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم . وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه . وقيل : أي إنك على طبع كريم . الماوردي : وهو الظاهر . وحقيقة الخلق في اللغة : هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب يسمى خلقا ؛ لأنه يصير كالخلقة فيه . وأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخِيم ( بالكسر ) : السجية والطبيعة ، لا واحد له من لفظه . وخيم : اسم جبل . فيكون الخلق الطبع المتكلف . والخيم الطبع الغريزي . وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال :
وإذا ذُو الفضول ضنَّ على المولى *** وعادت لخِيمِها الأخلاق
قلت : ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال . وسئلت أيضا عن خلقه عليه السلام ، قرأت " قد أفلح المؤمنون{[15223]} " [ المؤمنون : 1 ] إلى عشر آيات ، وقالت : ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال لبيك ، ولذلك قال الله تعالى " وإنك لعلى خلق عظيم " . ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر . وقال الجنيد : سمي خلقه عظيما ؛ أنه لم تكن له همة سوى الله تعالى . وقيل سمي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ، يدل عليه قوله عليه السلام : ( إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق ) . وقيل : لأنه امتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين{[15224]} " [ الأعراف : 199 ] . وقد روي عنه عليه السلام أنه قال : ( أدبني ربي تأديبا حسنا إذ قال : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " [ الأعراف : 199 ] فلما قبلت ذلك منه قال : " إنك لعلى خلق عظيم " .
الثانية- روى الترمذي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) . قال حديث حسن صحيح . وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء ) . قال : حديث حسن صحيح . وعنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق ، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم ) . قال : حديث غريب من هذا الوجه . وعن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ فقال : ( تقوى الله وحسن الخلق ) . وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ؟ فقال : ( الفم والفرج ) قال : هذا حديث صحيح غريب . وعن عبدالله بن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال : هو بسط الوجه ، وبذل المعروف ، وكف الأذى . وعن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا - قال - وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون ) . قالوا : يا رسول الله ، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون{[15225]} ، فما المتفيهقون ؟ قال : ( المتكبرون ) . قال : وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه{[15226]} .
ولما ثبت بهذا العقل مع ما أفاده من الفضل ، وكان الذي يؤجر قد يكون في أدنى رتب العقل ، بين أنه صلى الله عليه وسلم في أعلاها بقوله مؤكداً لما مضى : { وإنك } وزاد في التأكيد لزيادتهم في المكابرة فقال : { لعلى خلق } ولما أفهم{[67369]} السياق التعظيم ، صرح به فقال : { عظيم * } وهو الإسلام الذي دعا إليه القرآن لا بالبلاء ينحرف ، ولا بالعطاء ينصرف{[67370]} ، لأن خلقه - بشهادة أعرف الناس به زوجه أم المؤمنين الصديقة عائشة بنت الصديق ، أبي بكر رضي الله عنهما - القرآن ، فلا يتحرك ولا يسكن إلا بأمره ونهيه ، فهذا الخلق نتيجة الهدى والهدى نتيجة العقل ، وهو سبب السعادة ، فأفهم ذلك عدم{[67371]} سعادتهم لعدم عقولهم ، و{[67372]}قال الواسطي : أظهر الله قدرته في عيسى عليه الصلاة السلام ونفاذه في آصف ، وسخطه وقهره في عصى موسى عليه الصلاة والسلام ، وأطهر أخلاقه ونعوته في محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان متخلقاً بأخلاق الله تعالى ، والتخلق بأخلاقه أن ينزه علمه عن الجهل وجوده عن البخل وعدله عن الظلم وحلمه عن السفه ، واعلم أن الخلق والخلق صورتان : الخلق صورة الظاهر ، والخلق صورة الباطن ؛ فتناسب{[67373]} الأعضاء الظاهرة يعبر به عن الخلق الحسن ، وتناسب المعاني الباطنة يعبر به عن الخلق الحسن ، ثم الخلق الحسن تارة مع الله ، وتارة مع حكم الله ، وتارة مع الخلق ، فمع الله بالتعظيم والإجلال ، ومع حكمه {[67374]}بالصبر{[67375]} في الضراء والبأساء{[67376]} والشكر في الرخاء والامتثال للأوامر والانزجار عن النواهي عن طيب قلب مسارعة وسماحة ، وحسن الخلق مع الخلق بث النصفة في المعاملة وحسن المجاملة في العشرة{[67377]} ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه{[67378]} قال :
" الخلق وعاء الدين ، لأن من الخلق يخرج الدين ، وهو الخضوع والخشوع وبذل النفس لله واحتمال المكروه " .
ولما كان الإسلام أشرف الأديان ، أعطاه الله تعالى أقوى الأخلاق وأشرفها وهو الحياء ، كما روي أن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء ، ومن الحياء حياة القلب ، فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ العفو{[67379]} ويأمر بالعرف{[67380]} ويعرض عن الجاهلين ولا يجزي {[67381]}بالسيئة السيئة{[67382]} لكن يعفو ويصفح ويحسن مع ذلك ، ويجذب{[67383]} بردته حتى يؤثر في عنقه فيلتفت وهو يضحك ويقضي حاجة الجاذب{[67384]} ويحسن إليه ، فقد اشتمل الكلام التدبيري المشار إليه بالنون والقضاء الكلي التأثيري{[67385]} المشار إليه بالقلم والقدر المبرم التفصيلي الواقع على وقف القضاء المشار إليه بالسطر ، ومثال ذلك أن{[67386]} من أراد بناء دولاب احتاج أولاً{[67387]} إلى مهندس يدبر له بعلمه موضع {[67388]}البئر والمدار{[67389]} وموضع المحلة{[67390]} وموضع السهم وموضع الجداول ونحو ذلك ، وهو الحكم التدبيري{[67391]} ، وثانياً إلى صانع يحفر البئر ويبني ونجار يركب الأخشاب على وفق حكمة المهندس ، وهو القضاء التأثيري ، وثالثاً إلى إقامة الثور في موضعه ، ودوران المحلة بما عليها من القواديس ، وجري الماء في الجداول على وفق القضاء وهو القدر ، ويحتاج رابعاً وخامساً إلى بيان انقسام المقدر له إلى شقي وسعيد ، فالحكم باطن وهو سر من أسراره سبحانه وتعالى - {[67392]}سبحان من لا يعلم قدره غيره{[67393]} .