سورة القمر مكية وآياتها خمس وخمسون ، نزلت بعد سورة الطارق . وهي كباقي السور المكية في معالجتها أصول الدين ، ولكن بطابع خاص ، وفي عرضها للموضوعات عرضا خاصا فيه التهديد والوعيد . وفيها حملة عنيفة على المكذبين بآيات القرآن المبين . وقد جاءت الآية الأولى من هذه السورة تنبه الأسماع إلى اقتراب القيامة ، وتحذّر الناس من أمرها ، ثم جاءت آيات بعدها توضح موقف الكفار من المعجزات ، وإصرارهم على التكذيب ، وتطلب على الرسول الكريم الإعراض عن المشركين وإمهالهم إلى يوم يخرجون فيه من قبورهم كأنهم جراد منتشر .
ثم تتابع الآيات بعد ذلك بالنذر والصبر ، وتعرض أطرافا من أحوال الأمم السابقة مثل قوم نوح ، وعاد وثمود ، وقوم لوط ، وفرعون وملئه ، والعذاب الذي حاق بهم . وبين كل قصة وأخرى تنبه الأذهان إلى أن القرآن الكريم ميسّر لمن يطلب العظة والاعتبار .
ثم تنتهي إلى بيان أن كفار مكة ليسوا أقوى ولا أشد من الأمم السابقة ، وأنه ليس لهم أمان من العذاب . ثم تُختتم السورة بتهديد المكذبين المعاندين بمصيرهم يوم يُسحبون إلى النار على وجوههم ، ويقال لهم : { ذوقوا مسّ سقر } ، وتبيّن مآل السعداء المتقين ، وأنهم في منازلهم في جنات النعيم . ويظهر الفرق بالمقارنة بين الفجار المعاندين ، والمؤمنين المتقين المصدقين : { إن المتقين في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر } .
يخبرنا الله تعالى باقترابِ يوم القيامة ، ونهايةِ الدنيا وانقضائها ، وأنّ الكونَ يختلُّ كثيرٌ من نظامه عند ذاك ، كما جاء في قوله تعالى : { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ وَإِذَا النجوم انكدرت } [ التكوير : 1-2 ] ، والتكدُّر هو الانتثار ، فعبّر بالماضي ، وهنا التعبير جاء بالماضي ، وكما قال في آخر سورة النجم { أَزِفَتِ الآزفة } [ النجم : 57 ] .
وقد روى الإمام أحمد عن سهلِ بن سعد ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « بُعثتُ أنا والساعةُ هكذا ، وأشار بأصبعَيه السبّابةِ والوسطَى » .
وهنا يقول : اقتربت القيامة ، وسينشقُّ القمرُ لا محالة . وتشير الأبحاثُ الفلكية إلى أن القمر يدنو من الأرض ويستمرُّ بالدنوّ منها حتى يبلغَ درجةً يتمزقُ عندها ويصير قِطعاً كلّ واحدةٍ تدور في فلكها الخاص . وهذا طبعاً سيحدُث عند انتهاء هذه الحياةِ الدنيا ، ولا يعلم وقتَ ذلك إلا الله .
ويقول المفسّرون الأقدمون : إن انشقاق القمر قد حدَث فعلا ، ويرون عدة أحاديث أسندوها إلى أنس بن مالك وعبد الله بن عباس ، وجبير بن مطعم ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم . ويقول ابن كثير : قد كان هذا في زمان رسول الله كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة .
والروايةُ عن خمسة من الصحابة فقط فكيف تكون متواترة ؟ واللهُ أعلم .
{ 1-5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ }
يخبر تعالى أن الساعة وهي القيامة اقتربت وآن أوانها ، وحان وقت مجيئها ، ومع ذلك ، فهؤلاء المكذبون لم يزالوا مكذبين بها ، غير مستعدين لنزولها ، ويريهم الله من الآيات العظيمة الدالة على وقوعها ما يؤمن على مثله البشر ، فمن أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على [ صحة ما جاء به و ] صدقه ، أشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر بإذن الله تعالى ، فانشق فلقتين ، فلقة على جبل أبي قبيس ، وفلقة على جبل قعيقعان ، والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الآية الكبرى{[921]} الكائنة في العالم العلوي ، التي لا يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل .
قوله عز وجل : { اقتربت الساعة } دنت القيامة ، { وانشق القمر } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، أنبأنا بشر بن المفضل ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما " . وقال شيبان عن قتادة : فأراهم انشقاق القمر مرتين . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى عن شعبة وسفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن ابن مسعود قال : " انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل و فرقة دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اشهدوا " . وقال أبو الضحى عن مسروق قال : انشق القمر بمكة . وقال مقاتل : انشق القمر ثم التأم بعد ذلك . وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت قريش : سحركم ابن أبي كبشة ، فاسألوا السفار ، فسألوهم ، فقالوا : نعم قد رأيناه ، فأنزل الله عز وجل : { اقتربت الساعة وانشق القمر } .
مكية كلها في قول الجمهور . وقال مقاتل : إلا ثلاث آيات : " أم يقولون نحن جميع منتصر ، سيهزم الجمع ويولون الدبر ، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " ولا يصح على ما يأتي . وهي خمس وخمسون آية .
قوله تعالى : " اقتربت الساعة وانشق القمر " " اقتربت " أي قربت مثل " أزفت الآزفة{[14445]} " [ النجم : 57 ] على ما بيناه . فهي بالإضافة إلى ما مضى قريبة ؛ لأنه قد مضى أكثر الدنيا كما روى قتادة عن أنس قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادت الشمس تغيب فقال : ( ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى ) وما نرى من الشمس إلا يسيرا . وقال كعب ووهب : الدنيا ستة آلاف سنة . قال وهب : قد مضى منها خمسة آلاف سنة وستمائة سنة . ذكره النحاس .
قوله تعالى : " وانشق القمر " أي وقد انشق القمر . وكذا قرأ حذيفة " اقتربت الساعة وقد انشق القمر " بزيادة " قد " وعلى هذا الجمهور من العلماء ؛ ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن مسعود وابن عمر وأنس وجبير بن مطعم وابن عباس رضي الله عنهم . وعن أنس قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية ، فانشق القمر بمكة مرتين فنزلت : " اقتربت الساعة وانشق القمر " إلى قوله : " سحر مستمر " يقول ذاهب ، قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . ولفظ البخاري عن أنسى قال : انشق القمر فرقتين . وقال قوم : لم يقع انشقاق القمر بعد وهو منتظر ، أي اقترب قيام الساعة وانشقاق القمر ، وأن الساعة إذا قامت انشقت السماء بما فيها من القمر وغيره . وكذا قال القشيري . وذكر الماوردي : أن هذا قول الجمهور ، وقال : لأنه إذا انشق ما بقي أحد إلا رآه ؛ لأنه آية والناس في الآيات سواء . وقال الحسن : اقتربت الساعة فإذا جاءت انشق القمر بعد النفخة الثانية . وقيل : " وانشق القمر " أي وضح الأمر وظهر ، والعرب تضرب بالقمر مثلا فيما وضح ، قال :
أقيموا بني أمِّي صدورَ مَطِيِّكُم *** فإني إلى حَيٍّ سواكم لأَمْيَلُ
فقد حُمَّتِ الحاجات والليل مُقْمِرٌ *** وشُدَّت لِطَيَّاتٍ مَطَايَا وأرْحَلُ
وقيل : انشقاق القمر هو انشقاق{[14446]} الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها ، كما يسمى الصبح فلقا ؛ لانفلاق الظلمة عنه . وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه كما قال النابغة :
فلما أدبروا ولهم دَوِيٌّ *** دعانا عند شَقِّ الصُّبْحِ دَاعِ
قلت : وقد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة ، وهو ظاهر التنزيل ، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها ؛ لأنها كانت آية ليلية ، وأنها كانت باستدعاء النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى عند التحدي . فروي أن حمزة بن عبدالمطلب حين أسلم غضبا من سب أبي جهل الرسول صلى الله عليه وسلم طلب أن يريه آية يزداد بها يقينا في إيمانه . وقد تقدم في الصحيح أن أهل مكة هم الذين سألوا وطلبوا أن يريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر فلقتين كما في حديث ابن مسعود وغيره . وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال : ألا إن الساعة قد اقتربت ، وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم صلى الله عليه وسلم . وقد قيل : هو على التقديم والتأخير ، وتقديره انشق القمر واقتربت الساعة ، قاله ابن كيسان . وقد مر عن الفراء أن الفعلين إذا كانا متقاربي المعنى فلك أن تقدم وتؤخر عند قوله تعالى : " ثم دنا فتدلى{[14447]} " [ النجم : 8 ] .
هذه السورة مكية وآياتها خمس وخمسون . وهي سورة عجيبة بفرط إيقاعها وحلاوة رنينها المثير . وهي فيها من عظيم المعاني وألوان التذكير ما يستنفر الحس ، ويثير المشاعر ، ويهيج القلب والوجدان .
والسورة بعجيب إيقاعها وروعة أجراسها وجمال ألفاظها ومقاطعها وخواتيم آياتها العجاب تثير البال وتستوقف الخاطر وتشده الحس شدها . ويأتي في طليعة ذلك كله حرف الراء . هذا الحرف الشجي النفاذ الذي يمس بجرسه الخيال والجنان فيهيج فيهما الإيناس والسكينة والحبور مما ليس له في الكلام نظير . إنه إيناس وسكينة وجمال لا يجده المتدبر في أنغام الملاهي وآلات الموسيقى المصنوعة . وذلك ضرب من ضروب الإعجاز في هذا الكاب الحكيم .
وقد تضمنت السورة من أخبار القيامة وأهوالها وشدائدها ما ينشر في الذهن والخيال ظلالا من الترويع والفزع .
إلى غير ذلك من أخبار الأمم السالفة التي طغت وفسقت عن مر الله فحق عليها القول من الله بالتدمير والاستئصال .
على أن السورة مبدوءة بخير مطلع وأكرم استهلال وذلك بالإخبار عن دنو الساعة وانشقاق القمر .
{ اقتربت الساعة وانشق القمر 1 وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر 2 وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر 3 ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر 4 حكمة بالغة فما تغن النذر 5 فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر 6 خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر 7 مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر } .
يخبر الله عن دنو الساعة وأن وقوعها بات قريبا . وهو قوله سبحانه : { اقتربت الساعة وانشق القمر } وقد أخبرت السنة كذلك بدنو الساعة واقتراب أجلها . فقد روى الإمام أحمد عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بعثت أنا والساعة هكذا " وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى .
أما انشقاق القمر ، فهذه واحدة من المعجزات الحسية المنظورة التي تحقق وقوعها زمن النبوة ، ليستيقن المشركون ويعلموا أن النبي حق وأنه مبعوث إليهم من ربه . وفي ذلك روى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فريقين ، فرقة على هذا الجبل . فقالوا : سحرنا محمد . فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم .
وفي رواية عن عبد الله مسعود قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر فأخذت فرقة خلف الجبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اشهدوا اشهدوا "
وروى البهيقي عن عبد الله بن مسعود قال : انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين فقال كفار قريش أهل مكة : هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة – يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم – انظروا السّفّار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به . فسئل السفار وقد قدموا من كل جهة فقالوا : رأينا . وغير ذلك من الأخبار في انشقاق القمر كثير .