فإذا بلغن أجلهن : إذا أتممن العدة .
بعد أن أمرَ اللهُ تعالى بأن يكون الطلاق حسب ما أمَرَ به ، وأن يكون طلقة واحدة رجعيّة ، وَمَنَعَ خروج المطلقة من المنزل أو إخراجها إلا إذا أتت بفاحشة ، ونهى عن تعدِّي تلك الحدود حتى لا يحصَلَ الضرر والندم ، خيَّرَ هنا الرجلَ بين أمرين إذا شارفتْ عدةُ امرأته على الانتهاء : إما أن يراجعَها ويعاشرَها بالمعروف والإحسان ، وإما أن يفارقَها مع أداءِ حقوقها التي لها ويُكرمها بقدر
ثم أمر بالإشهادِ على ذلك فقال :
{ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } .
يعني إذا راجع المرء زوجته عليه أن يُشهِد اثنين من العدول ، وإذا فارقَها كذلك . وخاطب الشهودَ بأن يشهدوا على الحق ويؤدوا أمانتهم ، وهي الشهادة ، على وجهها خالصة لله .
{ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } .
هذا الذي أمرتكم به من أمر الطلاق يتعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فيعمل به ولا يخرج عن طاعة الله .
{ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا ً }
ومن ثم يأتي الله تعالى بهذا الكلام اللطيف المطمئن ، يخبر فيه جلّ جلاله أن من يخشى الله ويتقيه ويتقيد بأوامر الشريعة يجعلْ له مخلصا من كل ضيق في الدنيا والآخرة .
وقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : إذا قاربن انقضاء العدة ، لأنهن لو خرجن من العدة ، لم يكن الزوج مخيرًا بين الإمساك والفراق . { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي : على وجه المعاشرة [ الحسنة ] ، والصحبة الجميلة ، لا على وجه الضرار ، وإرادة الشر والحبس ، فإن إمساكها على هذا الوجه ، لا يجوز ، { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي : فراقًا لا محذور فيه ، من غير تشاتم ولا تخاصم ، ولا قهر لها على أخذ شيء من مالها .
{ وَأَشْهِدُوا } على طلاقها ورجعتها { ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : رجلين مسلمين عدلين ، لأن في الإشهاد المذكور ، سدًا لباب المخاصمة ، وكتمان كل منهما ما يلزمه بيانه .
{ وَأَقِيمُوا } أيها الشهداء { الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } أي : ائتوا بها على وجهها ، من غير زيادة ولا نقص ، واقصدوا بإقامتها وجه الله وحده{[1137]} ولا تراعوا بها قريبًا لقرابته ، ولا صاحبًا لمحبته ، { ذَلِكُمْ } الذي ذكرنا لكم من الأحكام والحدود { يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فإن من يؤمن بالله ، واليوم الآخر ، يوجب له ذلك{[1138]} أن يتعظ بمواعظ الله ، وأن يقدم لآخرته من الأعمال الصالحة ، ما يتمكن منها ، بخلاف من ترحل الإيمان عن قلبه ، فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من الشر ، ولا يعظم مواعظ الله لعدم الموجب لذلك ، ولما كان الطلاق قد يوقع في الضيق والكرب والغم ، أمر تعالى بتقواه ، وأن{[1139]} من اتقاه في الطلاق وغيره فإن الله يجعل له فرجًا ومخرجًا .
فإذا أراد العبد الطلاق ، ففعله على الوجه الشرعي ، بأن أوقعه طلقة واحدة ، في غير حيض ولا طهر قد وطئ فيه{[1140]} فإنه لا يضيق عليه الأمر ، بل جعل الله له فرجًا وسعة يتمكن بها من مراجعة النكاح{[1141]} إذا ندم على الطلاق ، والآية ، وإن كانت في سياق الطلاق والرجعة ، فإن العبرة بعموم اللفظ ، فكل من اتقى الله تعالى ، ولازم مرضاة الله في جميع أحواله ، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة .
ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجًا ومخرجًا من كل شدة ومشقة ، وكما أن من اتقى الله جعل له فرجًا ومخرجًا ، فمن لم يتق الله ، وقع في الشدائد والآصار والأغلال ، التي لا يقدر على التخلص منها والخروج من تبعتها ، واعتبر ذلك بالطلاق ، فإن العبد إذا لم يتق الله فيه ، بل أوقعه على الوجه المحرم ، كالثلاث ونحوها ، فإنه لا بد أن يندم ندامة لا يتمكن من استدراكها{[1142]} والخروج منها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإذا بلغن أجلهن} يعني به انقضاء العدة قبل أن تغتسل {فأمسكوهن} إذا راجعتموهن {بمعروف} يعني طاعة الله {أو فارقوهن بمعروف} يعني طاعة الله في غير إضرار فهذا هو الإحسان {وأشهدوا} على الطلاق والمراجعة {ذوي عدل منكم}. ثم قال للشهود {وأقيموا الشهادة لله} على وجهها {ذلكم} الذي ذكر الله تعالى من الطلاق والمراجعة {يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر} يعني يصدق بالله أنه واحد لا شريك له، وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، فليفعل ما أمره الله.
ثم قال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فإذَا بَلَغْنَ أجَلَهُنّ "يقول تعالى ذكره: فإذا بلغ المطلقات اللواتي هنّ في عدة أجلهنّ وذلك حين قرب انقضاء عددهنّ "فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ" يقول: فأمسكوهنّ برجعة تراجعوهن، إن أردتم ذلك "بمعروف" يقول: بما أمرك الله به من الإمساك وذلك بإعطائها الحقوق التي أوجبها الله عليه لها من النفقة والكسوة والمسكن وحُسن الصحبة، "أو فارقوهنّ بمعروف"، أو اتركوهنّ حتى تنقضي عددهنّ، فتبين منكم بمعروف، يعني بإيفائها ما لها من حق قبله من الصداق والمتعة على ما أوجب عليه لها...
وقوله: "وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ": وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهنّ، وذلك هو الرجعة "ذوي عدل منكم"، وهما اللذان يرضى دينهما وأمانتهما...
وقوله: "وأقِيمُوا الشّهادَةَ لِلّهِ" يقول: وأشهدوا على الحقّ إذا استشهدتم، وأدّوها على صحة إذا أنتم دُعيتم إلى أدائها...
وقوله: "ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللّهِ واليَوْمِ الآخِرِ" يقول تعالى ذكره: هذا الذي أمرتكم به، وعرّفتكم من أمر الطلاق، والواجب لبعضكم على بعض عند الفراق والإمساك عظة منا لكم، نعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الاَخر، فيصدّق به.
وعُنِي بقوله: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللّهِ" من كانت صفته الإيمان بالله...
وقوله: "وَمَنْ يَتّق اللّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا" يقول تعالى ذكره: من يخف الله فيعمل بما أمره به، ويجتنب ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجا بأن يعرّفه بأن ما قضى فلا بدّ من أن يكون، وذلك أن المطلق إذا طلّق، كما ندبه الله إليه للعدّة، ولم يراجعها في عدتها حتى انقضت ثم تتبعها نفسه، جعل الله له مخرجا فيما تتبعها نفسه، بأن جعل له السبيل إلى خطبتها ونكاحها، ولو طلقها ثلاثا لم يكن له إلى ذلك سبيل.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(فاذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف) معناه فاذا قاربن أجلهن الذي هو الخروج عن عدتهن، لأنه لا يجوز أن يكون المراد فإذا انقضى أجلهن، لأنه عند انقضاء أجلهن لا يملك رجعتها. وقد ملكت نفسها...
(يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) فالوعظ: معنى يدعو إلى الحق بالترغيب والترهيب. وإنما أضاف الوعظ إلى من يؤمن بالله واليوم الآخر دون غيره، لأنه الذي ينتفع به دون الكافر الجاحد لذلك...
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
يريد بالبلوغ ههنا مقاربة البلوغ، لا انقضاء الأجل، لأن الأجل لو انقضى- وهو انقضاء العدة -لم يجز لهم إمساكهن. وهذا إجماع لا خلاف فيه...
قال أبو عمر: في قول الله- عز وجل: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، وقوله: {ممن ترضون من الشهداء}، دليل على أنه لا يجوز أن يقبل إلا العدل الرضي، وان من جهلت عدالته لم تجز شهادته حتى تعلم الصفة المشترطة. وقد اتفقوا في الحدود، والقصاص، وكذلك كل شهادة، وبالله التوفيق. (س: 22/33)...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(فأمسكوهن بمعروف) أي: راجعوهن بمعروف، ومعناه: على أمر الله تعالى. ويقال: المعروف هاهنا: هو أن يراجعها ليمسكها لا أن يراجعها فيطلقها، فيطول العدة عليها على ما كان يفعله أهل الجاهلية...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{ومن يتق الله يجعل له مخرجا} من الإشكالات والشبه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} لوجهه خالصاً، وذلك أن تقيموها لا للمشهود له ولا للمشهود عليه، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«المفارقة بالمعروف»: هو أداء المهر والتمتيع ودفع جميع الحقوق والوفاء بالشروط وغير ذلك... وقوله تعالى: {ذلكم يوعظ به} إشارة إلى إقامة الشهادة، وذلك أن جميع فصول الأحكام والأمور فإنما تدور على إقامة الشهادة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل منكم، وأقيموا الشهادة لله. ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر. ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره. قد جعل الله لكل شيء قدرا)...
وبلوغ الأجل آخر فترة العدة. وللزوج ما دامت المطلقة لم تخرج من العدة -على آجالها المختلفة التي سبق بيانها- أن يراجعها فتعود إلى عصمته بمجرد مراجعتها -وهذا هو إمساكها- أو أن يدع العدة تمضي فتبين منه ولا تحل له إلا بعقد جديد كالزوجة الجديدة. وسواء راجع أم فارق فهو مأمور بالمعروف فيهما. منهي عن المضارة بالرجعة، كأن يراجعها قبيل انتهاء العدة ثم يعود فيطلقها الثانية ثم الثالثة ليطيل مدة بقائها بلا زواج! أو أن يراجعها ليبقيها كالمعلقة، ويكايدها لتفتدي منه نفسها -وكان كلاهما يقع عند نزول هذه السورة...
وفي حالتي الفراق أو الرجعة تطلب الشهادة على هذه وذاك. شهادة اثنين من العدول. قطعا للريبة...
(وأقيموا الشهادة لله).. فالقضية قضية الله، والشهادة فيها لله، هو يأمر بها، وهو يراقب استقامتها، وهو يجزي عليها. والتعامل فيها معه لا مع الزوج ولا الزوجة ولا الناس! (ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر). والمخاطبون بهذه الأحكام هم المؤمنون المعتقدون باليوم الآخر. فهو يقول لهم: إنه يعظهم بما هو من شأنهم. فإذا صدقوا الإيمان به وباليوم الآخر فهم إذن سيتعظون ويعتبرون. وهذا هو محك إيمانهم، وهذا هو مقياس دعواهم في الإيمان! (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب).. مخرجا من الضيق في الدنيا والآخرة،
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإمساك: اعتزام المراجعة عبر عنه بالإمساك للإيماء إلى أن المطلقة الرجعية لها حكم الزوجة فيما عدا الاستمتاع فكأنه لما راجعها قد أمسكها أن لا تفارقه فكأنه لم يفارقها لأن الإِمساك هو الضن بالشيء وعدم التفريط فيه...
وأنه إذا لم يراجعها فكأنه قد أعاد فراقها وقسا قلبه. ومن أجل هذه النكتة جعل عدم الإمساك فراقاً جديداً في قوله: {أو فارقوهن بمعروف}. والأمر في {فأمسكوهن} {أو فارقوهن} للإِباحة، و {أو} فيه للتخيير. والباء في {بمعروف} للملابسة أي ملابسة كل من الإِمساك والفراق للمعروف. والمعروف: هو ما تعارفه الأزواج من حسن المعاملة في المعاشرة وفي الفراق...
وتقديم الإِمساك أعني المراجعة على إمضاء المفارقة، إيماء إلى أنه أرضى لله تعالى وأَوفَقُ بمقاصد الشريعة مع ما تقدم من التعبير عن المراجعة بالإمساك، ففهم أن المراجعة مندوب إليها لأن أبْغض الحلال إلى الله الطلاق...
{وَأَقِيمُواْ الشهادة لله}. عطف على {وأشهدوا ذوي عدل منكم}. والخطاب موجه لكل من تتعلق به الشهادة من المشهود عليهم والشهود كلٌ يأخذ بما هو حظه من هذين الخطابين...
فالكل مأمورون بإقامة الشهادة...
ولمّا كان أمر الطلاق غير خال من حرج وغم يعرض للزوجين وأمر المراجعة لا يخلو في بعض أحواله من تحمل أحدهما لبعض الكره من الأحوال التي سببت الطلاق، أعلمهما الله بأنه وعد المتقين الواقفين عند حدوده بأن يجعل لهم مخرجاً من الضائقات، شبه ما هم فيه من الحرج بالمكان المغلق على الحالّ فيه وشبه ما يمنحهم الله به من اللطف وإجراء الأمور على ما يلائم أحوالهم بجعلِ منفذ في المكان المغلق يتخلص منه المتضائق فيه...
ولما كان من دواعي الفراق والخلاف بين الزوجين ما هو من التقتير في الإِنفاق لضيق ذات اليد فكان الإحجام عن المراجعة عارضاً كثيراً للناس بعد التطليق، أُتبع الوعد بجعل المخرَج للمتقين بالوعد بمخرج خاص وهو مخرج التوسعة في الرزق...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ هذه الآية تطرح أهمّ الأواصر المرتبطة بالحياة الزوجية وأكثرها نضجاً، وهي: إمّا أن يعيش الرجل مع المرأة بإحسان ومعروف وتوافق، أو أن ينفصلا بإحسان. فالانفصال ينبغي أن يتمّ بعيداً عن الهياج والعربدة، وعلى أصول صحيحة، ويجب أن تحفظ فيه الحقوق واللياقات لكي تكون أرضية صالحة ومهيّأة للعودة والرجوع إذا ما قرّرا الرجوع إلى الحياة المشتركة فيما بعد، فإنّ العودة إذا تمّت في جو مظلم ملبّد بالخلافات والتعديّات، فسوف لا تكون عودة موفّقة تستطيع الاستمرار مدّة طويلة. هذا إضافة إلى أنّ الانفصال بالطريقة غير اللائقة قد يترك آثاراً، ليس فقط على الزوج والزوجة، وإنّما قد تتعدّى إلى عشيرة وأقرباء كلّ منهما، وتقطع طريق المساعدة لهما في المستقبل. ومن اللطيف حقّاً أن تحاط كلّ الصداقات والعلاقات المشتركة بين الناس بجوّ من الإحسان والاحترام المتبادل للحقوق والشعور بالمسؤولية، وحتّى لو وقع الطلاق فيجب أن يتمّ أيضاً بإحسان ودون مشاكل، فإنّ ذلك يعتبر بحدّ ذاته نوعاً من الانتصار والموفّقية لكلا الطرفين. ويتّضح ممّا سبق أنّ الإمساك بالمعروف والطلاق بالمعروف له معنى واسع يشمل جميع الواجبات والمستحبّات والآداب والأخلاق التي تقتضيها تلك العلاقة...
ولتأكيد الأحكام السابقة جميعاً تقول الآية الكريمة: (ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر)...
هذا التعبير دليل على الأهمية القصوى التي يولّيها القرآن الكريم لأحكام الطلاق، التي إذا تجاوزها أحد ولم يتّعظ بها فكأنّه أنكر الإيمان بالله واليوم الآخر...
{ فإذا بلغن أجلهن } قاربن انقضاء العدة { فأمسكوهن } برجعة تراجعونهن بها { بمعروف } وهو أن لا يريد بالرجعة ضرارها { أو فارقوهن بمعروف } أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فتبين ولا تضاروهن بمراجعتهن { وأشهدوا ذوي عدل منكم } على الرجعة أو الفراق { ومن يتق الله } يعطه فيما يأمره وينهاه { يجعل له مخرجا } من الشدة الى الرخاء ومن الحرام الى الحلال ومن النار الى الجنة يعني من صبر على الضيق واتقى الحرام جعل الله له مخرجا من الضيق
قوله تعالى : " فإذا بلغن أجلهن " أي قاربن انقضاء العدة ، كقوله تعالى : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن{[15079]} " [ البقرة : 231 ] أي قربن من انقضاء الأجل . " فأمسكوهن بمعروف " يعني المراجعة بالمعروف ، أي بالرغبة من غير قصد المضارة في الرجعة تطويلا لعدتها . كما تقدم في " البقرة{[15080]} " . " أو فارقوهن بمعروف " أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن . وفي قوله تعالى : " فإذا بلغن أجلهن " ما يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا ادعت ذلك ، على ما بيناه في سورة " البقرة " عند قوله تعالى : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " [ البقرة : 228 ] الآية{[15081]} .
الأولى- قوله تعالى : " وأشهدوا " أمر بالإشهاد{[15082]} على الطلاق . وقيل : على الرجعة . والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق . فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء . وقيل : المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا . وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة ، كقوله تعالى : " وأشهدوا إذا تبايعتم{[15083]} " [ البقرة : 282 ] . وعند الشافعي واجب في الرجعة ، مندوب إليه في الفرقة . وفائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد ، وإلا يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية{[15084]} ليرث .
الثانية- الإشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب . وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة ، وتكلم بالرجعة يريد به الرجعة فهو مراجع عند مالك ، وإن لم يرد بذلك الرجعة فليس بمراجع . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قبل أو باشر أو لامس بشهوة فهو رجعة . وقالوا : والنظر إلى الفرج رجعة . وقال الشافعي وأبو ثور : إذا تكلم بالرجعة فهو رجعة . وقد قيل : وطؤه مراجعة على كل حال ، نواها أو لم ينوها . وروي ذلك عن طائفة من أصحاب مالك . وإليه ذهب الليث . وكان مالك يقول : إذا وطئ ولم ينو الرجعة فهو وطء فاسد ، ولا يعود لوطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد ، وله الرجعة في بقية العدة الأولى ، وليس له رجعة في هذا الاستبراء .
الثالثة- أوجب الإشهاد في الرجعة أحمد بن حنبل في أحد قوليه ، والشافعي كذلك لظاهر الأمر . وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر : إن الرجعة لا تفتقر إلى القبول ، فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق ، وخصوصا حل الظهار بالكفارة . قال ابن العربي : وركب أصحاب الشافعي على وجوب الإشهاد في الرجعة أنه لا يصح أن يقول : كنت راجعت أمس وأنا أشهد اليوم على الإقرار بالرجعة ، ومن شرط الرجعة الإشهاد فلا تصح دونه . وهذا فاسد مبني على أن الإشهاد في الرجعة تعبد . ونحن لا نسلم فيها ولا في النكاح بأن نقول : إنه موضع للتوثق ، وذلك موجود في الإقرار كما هو موجود في الإنشاء .
الرابعة- من ادعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة ، فإن صدقته جاز وإن أنكرت حلفت ، فإن أقام بينة أنه ارتجعها في العدة ولم تعلم بذلك لم يضره جهلها بذلك ، وكانت زوجته ، وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها ثم أقام الأول البينة على رجعتها فعن مالك في ذلك روايتان : إحداهما : أن الأول أحق بها . والأخرى : أن الثاني أحق بها . فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول إليها .
الخامسة- قوله تعالى : " ذوي عدل منكم " قال الحسن : من المسلمين . وعن قتادة : من أحراركم . وذلك يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث ؛ لأن " ذوي " مذكر . ولذلك قال علماؤنا : لا مدخل للنساء فيما عدا الأموال . وقد مضى ذلك في سورة " البقرة{[15085]} " .
السادسة- " وأقيموا الشهادة لله " أي تقربا إلى الله في إقامة الشهادة على وجهها ، إذا مست الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير . وقد مضى في سورة " البقرة " معناه عند قوله تعالى : " وأقوم للشهادة{[15086]} " [ البقرة : 282 ] . " ذلكم يوعظ به " أي يرضى به . " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " فأما غير المؤمن فلا ينتفع بهذه المواعظ .
قوله تعالى : " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عمن طلق ثلاثا أو ألفا هل له من مخرج ؟ فتلاها . وقال ابن عباس والشعبي والضحاك : هذا في الطلاق خاصة ، أي من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة ، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة . وعن ابن عباس أيضا " يجعل له مخرجا " ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة . وقيل : المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه ، قاله علي بن صالح . وقال الكلبي : " ومن يتق الله " بالصبر عند المصيبة . " يجعل له مخرجا " من النار إلى الجنة . وقال الحسن : مخرجا مما نهى الله عنه . وقال أبو العالية : مخرجا من كل شدة . الربيع بن خيثم : " يجعل له مخرجا " من كل شيء ضاق على الناس . الحسين بن الفضل : " ومن يتق الله " في أداء الفرائض ، " يجعل له مخرجا " من العقوبة . " ويرزقه " الثواب " من حيث لا يحتسب " أي يبارك له فيما آتاه . وقال سهل بن عبدالله : " ومن يتق الله " في اتباع السنة " يجعل له مخرجا " من عقوبة أهل البدع ، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب . وقيل : " ومن يتق الله " في الرزق بقطع العلائق يجعل له مخرجا بالكفاية . وقال عمر بن عثمان الصدفي : " ومن يتق الله " فيقف عند حدوده ويجتنب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال ، ومن الضيق إلى السعة ، ومن النار إلى الجنة .
قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الأخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا 2 ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا } .
المراد ببلوغ الأجل ، قرب انقضاء العدة . يعني إذا شارفت المطلقات على انقضاء عدتهن { فأمسكوهن بمعروف } يعني راجعوهن بالرغبة والرفق والتسامح والإحسان من غير مضارّة أو مشاتمة أو مقابحة . وعلى هذا إذا شارفت المطلقة على انقضاء عدتها فالزوج حينئذ بالخيار . فإما أن يعزم على إرجاعها إلى عصمة نكاحه فيحسن صحبتها وإما أن يعزم على مفارقتها بمعروف دون إساءة أو تعنيف أو إيذاء ، بل يطلقها بالرفق والحسنى .
قوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } يعني أشهدوا على إمساكهن - وهي المراجعة - شاهدي عدل من المسلمين ، موصوفين بالدين والأمانة والصدق احتياطيا من التجاحد بينهما . وروي عن ابن عباس قوله : إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين . وقيل : الأمر بالإشهاد هنا يراد به على الطلاق . لكن الأظهر رجوعه إلى الإمساك وهو الرجعة وليس الطلاق .
على أن الإشهاد على الرجعة أو الفرقة مندوب إليه عند الحنفية ، فأيتهما اختيار الزوج ندب له أن يشهد ذوي عدل من المسلمين . وإذا لم يشهد على الفرقة أو الإمساك ( الرجعة ) صح منه ذلك وخالف به السنة ، وذهب الإمام الشافعي إلى وجوب الإشهاد على الرجعة ، ومنذوب إليه في المفارقة . على أن الإشهاد مندوب إليه عند أكثر العلماء .
أما كيفية الرجعة إنما تتم بالكلام عند الشافعي . فلا تصح عند المراجعة إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها . وتتم المراجعة عند الإمام مالك بغير القول مما يدل على إرادة الرجعة . وذلك كما لو قبّل أو باشر ، يريد بذلك ، الرجعة . وعند أبي حنيفة ، لو قبّل أو لامس بشهوة أو نظر إلى الفرج فذلك كله رجعة .
قوله : { وأقيموا الشهادة لله } يعني اشهدوا على الحق ، وأدوا الشهادة إذا استشهدتم بصدق واستقامة { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } الإشارة إلى ما تقدم ذكره من الأحكام عند الفراق والإمساك ، من الأمر بالإشهاد وإقامة الشهادة لله . فذلك موعظة من الله لعباده يتعظ بها المؤمنون الذين آمنوا بالله واليوم الآخر فهم الذين ينتفعون بها دون غيرهم من غير المؤمنين .
قوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي . وذلك أن المشركين أسروا ابنا له فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الفاقة . وقال : إن العدو أسر ابني وجزعت الأم فما تأمرني ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اتق الله واصبر ، وآمرك وأياها أن تستكثروا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله " فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله . فقالت : نعم ما أمرنا به . فجعلا يقولان ، فغفل العدو عن ابنه ، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة ، فنزلت الآية{[4562]} .
ويستفاد من عموم الآية أن التقوى سبيل الخلاص والنجاة من الآفات والأزمات والكروب . والمؤمن الموصول القلب بالله فلا يذعن لأحد سواه ولا يرتضي بغير شرعه ودينه أيما شرع أو منهاج ، لا جرم أن الله منجّيه من محن الدهر ونائبات الأيام .
قال ابن عباس في تأويل قوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } أي مخرجا من كل كرب في الدنيا والآخرة . وقيل : { يجعل له مخرجا } من النار إلى الجنة . وقيل : { يجعل له مخرجا } أي مخرجا من كل شدة . أو من كل شيء ضاق على الناس على أن عموم الآية يتناول كل هذه المعاني . فالمؤمن التقي ذو القلب الخاشع لله ، المنيب إليه لا يخذله الله ولا يسلمه للشدائد والنوائب ، وإنما ينجيه مما ينزل به من الكروب والمصائب .