ويهيّئ له من أسباب الرزق من حيث لا يخطر له على بال .
فالتقوى ملاك الأمر عند الله ، وبها نيطت السعادةُ في الدارين .
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه انه قال : أجمع آيةٍ في القرآن : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } وإن أكبر آية في القرآن فَرَجاً : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .
{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } .
ومن أخَذ بالأسباب وأخلص في عمله وتوكل على الله فإن الله تعالى يكفله ويكفيه ما أهمه في دنياه وأخراه . . وهكذا يجب أن تفهم هذه الآية الكريمة ، فليس معنى التوكل أن يقعد المرء ولا يعمل ويقول توكلت على الله . ولذلك قال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام : « اعقِلها وتوكل » إن الله تعالى بالغٌ مرادَه ، منفذٌ لمشيئته .
وقد جعل لكل شيء وقتا مقدَّرا بزمانه وبمكانه ، وبملابساته وبنتائجه وأسبابه ، وليس في هذا الكون شيء تمّ مصادفة ، ولا جزافا ، { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] . { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [ الرعد : 8 ] .
قرأ حفص : بالغ أمره بضم الغين وكسر الراء من أمره على الإضافة . والباقون : بالغٌ أمرَه بضم الغين والتنوين ، ونصب أمره .
وقوله { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } أي : يسوق الله الرزق للمتقي ، من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به .
{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : في أمر دينه ودنياه ، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ، ويثق به في تسهيل ذلك { فَهُوَ حَسْبُهُ } أي : كافيه الأمر الذي توكل عليه به ، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي [ العزيز ] الرحيم ، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء ، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له ؛ فلهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } أي : لا بد من نفوذ قضائه وقدره ، ولكنه { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } أي : وقتًا ومقدارًا ، لا يتعداه ولا يقصر عنه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ "يقول: ويسبب له أسباب الرزق من حيث لا يشعر، ولا يعلم...
وقوله: "وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" يقول تعالى ذكره: ومن يتق الله في أموره، ويفوّضها إليه فهو كافيه.
وقوله: "إنّ اللّهَ بالِغُ أمْرِهِ" منقطع عن قوله "وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ". ومعنى ذلك: إن الله بالغ أمره بكل حال توكل عليه العبد أو لم يتوكل عليه... عن مسروق "وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنّ اللّهَ بالِغُ أمْرِهِ" توكل عليه أو لم يتوكل عليه، غير أن المتوكل يُكَفّرْ عنه سيئاته، ويُعْظِم له أجرا...
وقوله: "قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْرا" يقول تعالى ذكره: قد جعل الله لكلّ شيء من الطلاق والعدّة وغير ذلك حدّا وأجلاً وقدرا يُنتهى إليه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
جاز أن يكون المعنى من قوله: {ومن يتق الله} في ما بين له من الحدود، فلم يضيعه {يجعل له مخرجا} في ما لم يبين له وفي ما اشتبه من الحد، أو يجوز أن يكون المعنى من قوله تعالى: {ومن يتق الله} أي جاهد في ما أمره، ونهاه {يجعل له مخرجا} في أن يهديه، ويبين له السبيل...
أو يجوز أن يكون قوله: {ومن يتق الله} يعني يتق عقابه {يجعل له مخرجا} من الشدة في الدنيا ومن سكرات الموت وغمراته ومن شدائد الآخرة وأهوالها. ويجوز أن يكون قوله: {ومن يتق الله} في مكاسبه {يجعل له مخرجا} من الشبه والحرمات، فيسلم منها. ويجوز أن يكون قوله: {ومن يتق الله} في ما بين له من الحدود في هذه الآيات المتقدمة، فحفظها في صحبة النساء على ما أمر به {يجعل له مخرجا} مما أهمه من ناحيتهن {ويرزقه من حيث لا يحتسب}. يجوز أن يكون هذا في ما بيّن له من الحدود إذا حفظها أن يرزقه ما وصفنا من المرأة والمال. ويجوز أن يكون هذا في جميع الأمور من المكاتبة والتجارات لأن التجار يظنون أنهم إنما يرزقون الفضل والربح لما يدخلون فيها من الشبه والحرمات وأنها إذا نفيت من تجارتهم تلك الشبه والحرمات رزقهم من حيث لم يحتسبوا...
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} يجوز أن يكون معناه: أي من يعتمده في كل نائبة، ويفوض إليه كل نازلة. والوكيل، هو الموكول إليه الأمور. وقيل: الوكيل، هو الحافظ، فكأنه قال: ومن يعتمد على الله في ما نابه كفى به وكيلا موكولا إليه أمره، وكفى به حافظا وناصرا ومعينا. وقوله تعالى: {إن الله بالغ أمره} أي في ما أخبر من حكمه ووعده ووعيده أن ينزل بهم...
{قد جعل الله لكل شيء قدرا} قال الحسن: {لكل شيء} من أعمال العباد {قدرا} ثوابا في الآخرة. والوجه عندنا {قد جعل الله لكل شيء} مما كان، ويكون إلى يوم القيامة من حسن وقبيح في الحكمة {قدرا}. ألا ترى إلى أفعال العباد أنها كيف تخرج عن تدبيرهم من زمان ومكان ونحو ذلك ليعلم أن الله تعالى، هو الذي قدّر ذلك المكان والزمان والفعل حتى خرج هذا العبد عن تقريره، الذي قدّره...
ثم ليس في قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} له تخصيص، أي من لا يتّقه يرزقه من حيث لا يحتسب، لأنه قد نرى في الشاهد من يرزقه من حيث لا يحتسب، اتقاه، أو لم يتقه. فثبت أن فائدة التخصيص ليست تعني غير المقصود، ولكن فائدة تخصيص المتلقي بالذكر، هي أنه يرزقه من حيث يطيب له، ولا يلام عليه، وليس ذلك في غير المتقي...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(ويرزقه من حيث لا يحتسب) أي من حيث لا يتوقعه ولا يظنه (ومن يتوكل على الله) أي من أسند أمره إلى الله ووثق بحكمه وسكن إلى رحمته (فهو حسبه) أي كافيه جميع ذلك (إن الله بالغ أمره) أي يبلغ ما يريد ويشاء من أمره وتدبيره (قد جعل الله لكل شيء قدرا) أي قدر الله لكل شيء مقدارا وأجلا، لا زيادة فيه ولا نقصان.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. لم يقل: ومَنْ يتوكل على الله فتوكُّلُه حَسْبُه، بل قال: {فَهُوَ حَسْبُهُ}؛ أي فاللَّهُ حَسْبُه أي كافيه. {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}. إذا سَبَقَ له شيءٌ من التقدير فلا محالةَ يكون، وبتَوَكُّله لا يتغير المقدور ولا يستأخر، ولكنَّ التوكَّل بنيانه على أنْ يكون العبدُ مُرَوَّحَ القلب غيرَ كارهٍ... وهذا من أَجَلِّ النِّعم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي: يثق بالله ويفوض أمره إليه: ويقال: التوكل على الله هو الرضا بقضائه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَيَرْزُقْهُ} من وجه لا يخطره بباله ولا يحتسبه إن أوفى المهر وأدى الحقوق والنفقات وقل ماله.
{قَدْراً} تقديراً وتوقيتاً. وهذا بيان لوجوب التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه؛ لأنه إذا علم أنّ كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته: لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}، الآيات كلها عظة لجميع الناس، والحسب: الكافي المرضي، وقال ابن مسعود هذه أكثر الآيات حضّاً على التفويض، ....
... {إن الله بالغ أمره} بيان وحض على التوكل،... أي لا بد من نفوذ أمر الله توكلت أيها المرء أو لم تتوكل قاله مسروق. فإن توكلت كفاك وتعجلت الراحة والبركة، وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك، وأمره في الوجهين نافذ،...
لطيفة: وهي أن التقوى في رعاية أحوال النساء مفتقرة إلى المال، فقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} وقريب من هذا قوله: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره)...
.فالله بالغ أمره. فما قدر وقع، وما شاء كان؛ فالتوكل عليه توكل على قدرة القادر، وقوة القاهر. الفعال لما يريد. البالغ ما يشاء. والنص عام. والمقصود به هو إنشاء التصور الإيماني الصحيح في القلب، بالنسبة لإرادة الله وقدره.. ولكن وروده هنا بمناسبة أحكام الطلاق له إيحاؤه في هذا المجال وأثره. (قد جعل الله لكل شيء قدرا).. فكل شيء مقدر بمقداره، وبزمانه، وبمكانه، وبملابساته، وبنتائجه وأسبابه. وليس شيء مصادفة، وليس شيء جزافا. في هذا الكون كله ....
...ولكن ذكر هذه الحقيقة الكلية هنا يربط بها ما قدره الله عن الطلاق وفترته، والعدة ووقتها، والشهادة وإقامتها. ويطبع هذه الأحكام بطابع السنة الإلهية النافذة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{من حيث لا يحتسب} احتراس لئلا يتوهَّم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل مالاً ينفق منه، فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهيئ له أسباباً غير مرتقبة...
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بالغ أمره}. تكملة للتي قبلها فإن تقوى الله سبب تفريج الكُرَب والخَلاص من المضائق، وملاحظةُ المسلم ذلك ويقينُه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى يحقق وعد الله إياه بأن يجعل له مخرجاً ويرزقَه من حيث لا يحتسب...
وجملة {إن الله بالغ أمره} في موضع العلة لجملة {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة فإن الله إذا وعد وعداً فقد أراده وإذا أراد الله أمراً يسَّر أسبابه...
{قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شيء قدرا}. لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت. فهذه الجملة لها موْقع الاستئناف البياني ناشئ عما اشتملت عليه جمل {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}، إلى قوله: {إن الله بالغ أمره} لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل بعرضها على ارتباك أحْواله، أو يتردد يقينه فيقول: أين أنا من تحصيل هذا، حين يُتبع نظره فيرى بَوْنا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس. فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيراً بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدراً...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} فإذا ضاق به رزقه، وأغلقت عنه مداخله ومخارجه من خلال الوسائل التي يملكها في ساحته العملية، فإن عليه أن لا يستغرق في حدود هذه الوسائل، بل يفكر بطريقةٍ إيمانيةٍ...
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} لأنه الذي يملك الأمر كله، فهو يملك الناس كلهم، والحياة كلها، ويملك ما يملكه الآخرون...
فلا يمنعه من تنفيذ إرادته مانع في الأرض ولا في السماء، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]...
وقد نلاحظ في وقفةٍ تأمليةٍ أمام هذه الآية أنها تؤكد للإنسان المؤمن عدة نقاطٍ في حركة حياته:
الشعور الدائم بأنّ الله لا يخذله في ما يواجهه من صعوبات الحياة...
أن يبقى الإنسان مشدوداً إلى مسألة الرزق على أساس أن أمره بيد الله، فإذا أغلق عنه باب، فهناك أكثر من باب مفتوح في علم الله...
الثقة بالله في وعده، من خلال الإيمان بأنه بالغ أمره، وبأنه الكافي لمن توكّل عليه، ولا كافي غيره...
الإحساس بأن الحياة في انتصاراتها وهزائمها وفي أفراحها وأحزانها لا تتحرك في أجواء الفوضى، بل تخضع لنظامٍ كونيٍّ متوازنٍ، يضع كل شيءٍ في موضعه، ويقدر لكل حدثٍ قدره...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ويرزقه من حيث لا يحتسب) ولا يتصوّر تحصيله. (ومن يتوكّل على الله فهو حسبه) وسيكفيه ما يهمّه من أموره. (إنّ الله بالغ أمره) لأنّ الله عزّ وجلّ قادر مطلق، وأمره نافذ في كلّ شيء وتخضع جميع الكائنات لمشيئته وإرادته... ولهذا يحذّر النساء والرجال والشهود أن لا يخافوا قول الحقّ، ويحثّهم على الاعتماد عليه واللجوء إليه في تيسير الصعوبات، لأنّه قد تعهّد بأن ييسّر للمتّقين أمرهم، ويجعل لهم مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون. لقد تعهّد الله أن لا يترك من توكّل عليه يتخبّط في حيرته، وإنّه لقادر على الوفاء بهذا التعهّد. ورغم أنّ هذه الآيات نزلت بشأن الطلاق والأحكام المتعلّقة به، لكنّها تحتوي مفاهيم واسعة ومعاني عظيمة تشمل جميع المجالات التي يعاهد الله بها المتّقين، ويبعث في نفوسهم الأمل بأنّه سيشملهم بلطفه ورعايته، فينجيهم من المآزق، ويرشدهم إلى الصواب، ويفتح أمامهم الآفاق الرحبة، ويرفع عنهم مشاكل الحياة وصعوباتها، ويبدّد الغيوم السوداء التي تلبّد سماء سعادتهم. وفي إشارة لطيفة إلى النظام العامّ الذي يحكم التكوين والتشريع، يقول تعالى: (قد جعل الله لكلّ شيء قدراً) فكلّ هذه الأحكام والأوامر التي فرضها الله في شأن الطلاق، إنّما كانت ضمن حساب دقيق ومقاييس عامّة شاملة لا يغيب عنها شيء. وهكذا يجب أن يلتزم الناس في جميع المشاكل التي تنتاب حياتهم وليس فقط في مسألة الطلاق بالموازين والأحكام الشرعية، وأن يواجهوا تلك الأمور بالتقوى والصبر وطلب التوفيق من الله، لا أن يطلقوا ألسنتهم بالشكوى وارتكاب الذنوب، وما إلى ذلك ويتوسّلون بالطرق غير المشروعة لحلّ مشاكلهم...
{ ويرزقه من حيث لا يحتسب } ويروى أن هذا نزل في عوف بن مالك الأشجعي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ان العدو أسر ابني وشكا اليه الفاقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة الا بالله ففعل الرجل ذلك فبينا هو في بيته اذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو وأصاب ابلا لهم وغنما فساقها الى أبيه { ومن يتوكل على الله } ما أهمه يتوثق به ويسكن قلبه اليه { فهو حسبه } كافيه { إن الله بالغ أمره } يبلغ أمره فيما يريد وينفذه { قد جعل الله لكل شيء قدرا } ميقاتا وأجلا
" ويرزقه من حيث لا يحتسب " من حيث لا يرجو . وقال ابن عيينة : هو البركة في الرزق . وقال أبو سعيد الخدري : ومن يبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله يجعل له مخرجا مما كلفه بالمعونة له . وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم . وقال أبو ذر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنى لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم - ثم تلا - " ومن يق الله يجعل له مخرجا . ويرزقه من حيث لا يحتسب " ) . فما زال يكررها ويعيدها .
وقال ابن عباس : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " ومن يتق الله يجعل له مخرجا . ويرزقه من حيث لا يحتسب " قال : ( مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة ) . وقال أكثر المفسرين فيما ذكر الثعلبي : إنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي . روي الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن ابني أسره العدو وجزعت الأم . وعن جابر بن عبدالله : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنا له يسمى سالما ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الفاقة وقال : إن العدو أسر ابني وجزعت الأم ، فما تأمرني ؟ فقال عليه السلام : ( اتق الله واصبر وآمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ) . فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله . فقالت : نعم ما أمرنا به . فجعلا يقولان ، فغفل العدو عن ابنه ، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه ، وهي أربعة آلاف شاة . فنزلت الآية ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأغنام له . في رواية : أنه جاء وقد أصاب إبلا من العدو وكان فقيرا . قال الكلبي : أصاب خمسين بعيرا . وفي رواية : فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ، ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه . وقال مقاتل : أصاب غنما ومتاعا فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني ؟ قال : ( نعم ) . ونزلت : " ومن يتق الله يجعل له مخرجا . ويرزقه من حيث لا يحتسب " . فروي الحسن عن عمران بن الحصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤونة ورزقه من حيث لا يحتسب . ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ) . وقال الزجاج : أي إذا اتقى وآثر الحلال والتصبر على أهله ، فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة ورزقه من حيث لا يحتسب . وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب ) .
قوله تعالى : " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " أي من فوض إليه أمره كفاه ما أهمه . وقيل : أي من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه ، فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية . ولم يرد الدنيا ؛ لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل . " إن الله بالغ أمره " قال مسروق{[15087]} : أي قاض{[15088]} أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه ، إلا أن من توكل عليه فيكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا . وقراءة العامة " بالغ " منونا . " أمره " نصبا . وقرأ عاصم " بالغ أمره " بالإضافة وحذف التنوين استخفافا . وقرأ المفضل " بالغا أمره " على أن قوله : " قد جعل الله " خبر " إن " و " بالغا " حال . وقرأ داود بن أبي هند " بالغ أمره " بالتنوين ورفع الراء . قال الفراء : أي أمره بالغ . وقيل : " أمره " مرتفع " ببالغ " والمفعول محذوف ، والتقدير : بالغ أمره ما أراد . " قد جعل الله لكل شيء قدرا " أي لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه . وقيل تقديرا . وقال السدي : هو قدر الحيض في الأجل والعدة . وقال عبدالله بن رافع : لما نزل قوله تعالى : " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه ، فنزلت : " إن الله بالغ أمره " فيكم وعليكم . وقال الربيع بن خيثم : إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجاه ، ومن دعاه أجاب له . وتصديق ذلك في كتاب الله : " ومن يؤمن بالله يهد قلبه{[15089]} " [ التغابن : 11 ] . " ومن يتوكل على الله فهو حسبه{[15090]} " [ الطلاق : 3 ] . " إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم{[15091]} " [ التغابن : 17 ] . " ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم{[15092]} " [ آل عمران : 101 ] . " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان{[15093]} " [ البقرة : 186 ] .
قوله : { ويرزقه من حيث لا يحتسب } أي يؤتيه الله من فضله ما لم يكن يدري ، أو يرجو أو يؤمل .
قوله : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } يعني من يعتمد على الله في شأنه كله ويفوض كل أموره إلى الله كافيه ما أهمه { إن الله بالغ أمره } الله بالغ ما يريد من الأمر فلا يفوته أو يعجزه شيء .
قوله : { قد جعل الله لكل شيء قدرا } أي جعل لكل شيء مقدارا أو وقتا لا يتعداه . فجعل لكل من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه{[4563]} .