الشعوب : جمع شعب وهو الحيّ العظيم المنتسب إلى أصل واحد كربيعة ومُضَر ، والقبيلة دونه ، وسُمي الشَعب شَعباً لتشعب القبائل منه كتشعب الأغصان من الشجرة .
بعد أن أدّب الله تعالى المؤمنين بالآداب الرفيعة بيّن هنا أن الناسَ جميعاً من أبٍ واحد وأمٍ واحدة ، فكيف يسخَر الأخ من أخيه أو يغتابه أو يظلمه ! ؟ وبين للناس أن القرآن يدعو إلى أمةٍ إنسانية واحدة ، وعالمٍ واحدٍ يسوده العدل والمحبة ، وأعلن هنا حقوقَ الإنسان بصرف النظرِ عن لونه وجنسه ، فالناس إخوة في النسَب ، كرامتُهم محفوظة ، والإنسان مخلوق الله المختار ، وهو خليفته في الأرض .
يا أيها الناس : إنّا خلقناكم متساوين من أصلٍ واحد هو آدم وحواء ، وجعلناكم جموعا عظيمة ، شعوباً وقبائل متعددة ، لتتعارفوا وتتعاونوا على ما فيه خيرُكم وصلاحكم ، إن أكرَمَكُم عند الله وأرفعَكم منزلة في الدنيا والآخرة هو اتقاكم له وأنفعكم لخلْقِه ، { إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ } بكم وبأعمالكم وبباطن أحوالكم ، فاجعلوا التقوى زادَكم لمعادِكم .
{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } أي كلكم بنو أب واحد وأم واحدة فلا تفاضل بينكم في النسب { وجعلناكم شعوبا } وهي رؤوس القبائل كربيعة ومضر { وقبائل } وهي دون الشعوب كبكر من ربيعة وتميم من مضر { لتعارفوا } ليعرف بعضكم بعضا في قرب النسب وبعده لا لتتفاخروا بها ثم أعلم أن أرفعهم عنده منزلة أتقاهم فقال { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } الآية
{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } الذكر والأنثى هنا آدم وزوجه قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد الجنس كأنه قال إنا خلقنا كل واحد منكم من ذكر وأنثى والأول أظهر وأصح لقوله صلى الله عليه وسلم : " أنتم من آدم وآدم من التراب " ومقصود الآية التسوية بين الناس والمنع مما كانت العرب تفعله من التفاخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب فبين الله أن الكرم والشرف عند الله ليس بالحسب والنسب إنما هو بالتقوى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله " ، وروي أن سبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا : كيف نزوج بناتنا لموالينا .
{ وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا } الشعوب جمع شعب بفتح الشين وهو أعظم من القبيلة وتحته القبيلة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة وهم القرابة الأدنون فمضر وربيعة ، وأمثالهما شعوبا ، وقريش قبيلة ، وبنو عبد مناف بطن ، وبنو هاشم فخذ ، ويقال بإسكان الخاء فرقا بينه وبين الجارحة وبنو عبد المطلب فصيلة . وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل ومعنى لتعارفوا ليعرف بعضكم بعضا .
ولما ذكر سبحانه الأخوة الدينية تذكيراً بالعاطف الموجب للإكرام ، المانع من الانتقام{[60889]} ، ونهى عن أمور يجر إليها الإعجاب بالنفس من جهة التعظيم بالآباء والعراقة في النسب العالي ، أسقط ذلك-{[60890]} مبيناً أن لا نسب إلا ما يثمره الإيمان الذي بدأ به من التقوى ، وعبر بما يدل على الذبذبة والاضطراب إشارة إلى سفول رتبة من افتخر بالنسب ، وإلى أن-{[60891]} من لم-{[60892]} يتعظ بما مضى فيعلو عن رتبة الذين آمنوا فقد سفل سفولاً عظيماً : { يا أيها الناس } أي كافة المؤمن وغيره { إنا } على عظمتنا {[60893]}وقدرتنا{[60894]} { خلقناكم } أي أوجدناكم عن العدم على ما أنتم عليه من المقادير في صوركم وما أنتم عليه من التشعب الذي{[60895]} يفوت الحصر ، وأخرجنا كل واحد منكم{[60896]} { من ذكر } هو المقصود بالعزم والقوة { وأنثى } هي موضع{[60897]} الضعف والراحة ، لا مزية لأحد منكم في ذلك على آخر ، ولا فخر في نسب .
ولما كان تفضيلهم إلى فرق لكل منهما تعرف به-{[60898]} أمراً باهراً ، عبر فيه{[60899]} بنون العظمة فقال : { وجعلناكم } أي بعظمتنا { شعوباً } تتشعب{[60900]} من أصل واحد ، جمع شعب بالفتح وهو-{[60901]} الطبقة الأولى من الطبقات الست من طبقات النسب التي عليها العرب { وقبائل } تحت الشعوب ، وعمائر تحت القبائل ، وبطوناً تحت العمائر ، وأفخاذاً تحت البطون{[60902]} ، وفصائل تحت الأفخاذ ، والعشائر تحت الفصائل ، خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصيّ بطن ، وعبد مناف فخذ ، وهاشم فصيلة ، والعباس عشيرة ، قال البغوي{[60903]} : وليس بعد العشيرة حي يوصف به - انتهى . واقتصر على الأولين لأنهما أقصى ما يسهل على الآدمي معرفته فما دونه أولى ، ثم ذكر علة التشعب ليوقف عندها فقال : { لتعارفوا } أي ليعرف الإنسان من يقاربه في النسب ليصل من رحمه ما يحق له ، لا لتواصفوا وتفاخروا .
ولما كانت فائدة التفاخر بالتواصف{[60904]} عندهم الإكرام لمن كان أفخر ، فكانت الآية السالفة التي ترتبت{[60905]} عليها هذه آمرة بالتقوى كان التقدير : فتتقوا الله في أقاربكم وذوي أرحامكم ، فقال مبطلاً للتفاخر بالأنساب معللاً لما أرشد إلى تقديره السياق مؤكداً لأجل ما عندهم من أن الكرم إنما هو بالنسب : { إن أكرمكم } أيها المتفاخرون { عند الله } أي الملك الذي لا أمر لأحد معه ولا كريم إلا من أكرمكم بكرمه ولا كمال لأحد سواه { أتقاكم } فذلك هو الذكر الذي يصح أصله باقتدائه بأبيه آدم عليه السلام فلم يمل إلى الأنوثة وإن كان أدناكم نسباً ولذلك{[60906]} أكده ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا " أي علموا{[60907]} بأن{[60908]} كانت لهم ملكة الفقه فعملوا بما علموا كما قال الحسن رحمه الله : إنما الفقيه العامل بعلمه . وقد تقدم أن هذا هو-{[60909]} المراد بقوله تعال :
{ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }[ الزمر : 9 ] لما دل عليه سياقها وسباقها ، والأتقى لا يفتخر على غيره لأنه لا يعتقد أنه أتقى ، قال الرازي في اللوامع : أكرم الكرم التقوى ، وهو مجمع الفضائل الإنسانية ، وألأم اللؤم الفجور ، وذلك أن الكرم اسم للأفعال المحمودة ، وهذه الأفعال إنما تكون محمودة إذا كانت عن علم ، وقصد بها الله ، وهذا هو التقوى ، فليس التقوى إلا العلم وتحري الأفعال المحمودة - انتهى . وذلك لأن{[60910]} التقوى تثبت الكمالات وتنفي النقائص فيصير صاحبها بشرياً ملكياً .
ولما كان هذا مركوزاً في طبائعهم مغروزاً في جبلاتهم متوارثاً{[60911]} عندهم أن الفخر إنما هو بالأنساب ، وأن الكريم إنما هو من طاب أصله ، وكان قلع ذلك من نفوسهم فيما أجرى به سبحانه العادة في دار الأسباب يتوقف على تأكيد ، أكد سبحانه معللاً قوله لإخباره بالأكرم : { إن الله } أي المحيط علماً وقدرة { عليم } أي بالغ العلم بالظواهر { خبير * } محيط العلم بالبواطن والسرائر أيضاً ، روى البغوي{[60912]} بسند من طريق عبد الله بن حميد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته ليستلم الأركان بمحجنه ، فلما خرج لم يجد مناخاً فنزل على أيدي الرجال ، ثم قام فخطبهم ثم حمد الله وأثنى عليه وقال :
" الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها بآبائها ، إنما الناس رجلان : برّ تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله - ثم تلا " يا أيها الناس " الآية ، ثم قال : أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم " وأخرجه أبو داود{[60913]} والترمذي{[60914]} وحسنه-{[60915]} والبيهقي - قال المنذري{[60916]} ، بإسناد حسن ، و-{[60917]} اللفظ له - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال : " إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، الناس بنو آدم وآدم من تراب ، مؤمن تقي وفاجر شقي ، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو{[60918]} ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها " .