الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} (45)

قوله تعالى : " اتل " أمر من التلاوة والدؤوب عليها وقد مضى في " طه " {[12412]} الوعيد فيمن أعرض عنها وفي مقدمة الكتاب{[12413]} الأمر بالحض عليها والكتاب يراد به القرآن . " وأقم الصلاة " الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته وإقامة الصلاة أداؤها في أوقاتها بقراءتها وركوعها وسجودها وقعودها وتشهدها وجميع شروطها وقد تقدم بيان ذلك في " البقرة " {[12414]} فلا معنى للإعادة .

قوله تعالى : " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " يريد إن الصلوات الخمس هي التي تكفر ما بينها من الذنوب ، كما قال عليه السلام : ( أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء ) قالوا : لا يبقى من درنه شيء ، قال : ( فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ) خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة ، وقال فيه حديث حسن صحيح وقال ابن عمر : الصلاة هنا القرآن . والمعنى : الذي يتلى في الصلاة ينهى عن الفحشاء والمنكر وعن الزنى والمعاصي .

قلت : ومنه الحديث الصحيح : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) يريد قراءة الفاتحة ، وقال حماد بن أبي سليمان وابن جريج والكلبي : العبد ما دام في صلاته لا يأتي فحشاء ولا منكرا ، أي إن الصلاة تنهى ما دمت فيها قال ابن عطية : وهذه عجمة وأين هذا مما رواه أنس بن مالك قال : كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن الصلاة ستنهاه ) فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألم أقل لكم ) وفي الآية تأويل ثالث ، وهو الذي ارتضاه المحققون وقال به المشيخة الصوفية وذكره المفسرون ، فقيل المراد ب " أقم الصلاة " إدامتها والقيام بحدودها ثم أخبر حكما منه بأن الصلاة تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر ، وذلك لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة والصلاة تشغل كل بدن المصلي ، فإذا دخل المصلي في محرابه وخشع وأخبت لربه وادكر أنه واقف بين يديه ، وأنه مطلع عليه ويراه صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى وظهرت على جوارحه هيبتها ، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حالة فهذا معنى هذه الأخبار لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون .

قلت : لا سيما وإن أشعر نفسه أن هذا ربما يكون آخر عمله وهذا أبلغ في المقصود وأتم في المراد ، فإن الموت ليس له سن محدود ولا زمن مخصوص ولا مرض معلوم ، وهذا مما لا خلاف فيه ، وروي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه ، فكلم في ذلك فقال : إني واقف بين يدي الله تعالى وحق لي هذا مع ملوك الدنيا ، فكيف مع ملك الملوك ، فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر ، ومن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل كصلاتنا - وليتها تجزي- فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان ، فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تعالى ، تركته الصلاة يتمادى على بعده ، وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن والأعمش قولهم : ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا ) وقد روي أن الحسن أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك غير صحيح السند . قال ابن عطية : سمعت أبي رضي الله عنه يقول : فإذا قررناه ونظر معناه فغير جائز أن يقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من الله ، حتى كأنها معصية وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من الله ، بل تتركه على حال ومعاصيه من الفحشاء والمنكر والبعد ، فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان سبيله ، فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن الله ، وقيل لابن مسعود : إن فلانا كثير الصلاة فقال : إنها لا تنفع إلا من أطاعها .

قلت : وعلى الجملة فالمعنى المقصود بالحديث : ( لم تزده من الله إلا بعدا ولم يزدد بها من الله إلا مقتا ) إشارة إلى أن مرتكب الفحشاء والمنكر لا قدر لصلاته ؛ لغلبة المعاصي على صاحبها . وقيل : هو خبر بمعنى الأمر أي لينته المصلي عن الفحشاء والمنكر والصلاة بنفسها لا تنهى ، ولكنها سبب الانتهاء وهو كقوله تعالى : " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق " [ الجاثية : 29 ] وقوله : " أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون " [ الروم : 35 ] .

قوله تعالى : " ولذكر الله أكبر " أي ذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم قال معناه ابن مسعود وابن عباس وأبو الدرداء وأبو قرة وسلمان والحسن ، وهو اختيار الطبري ، وروي مرفوعا من حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قول الله عز وجل : " ولذكر الله أكبر " قال : ( ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ) وقيل : ذكركم الله في صلاتكم وفي قراءة القرآن أفضل من كل شيء وقيل : المعنى ، إن ذكر الله أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر . وقال الضحاك : ولذكر الله عند ما يحرم فيترك أجلّ الذكر وقيل : المعنى ولذكر الله للنهي عن الفحشاء والمنكر أكبر أي كبير وأكبر يكون بمعنى كبير . وقال ابن زيد وقتادة : ولذكر الله أكبر من كل شيء أي أفضل من العبادات كلها بغير ذكر . وقيل : ذكر الله يمنع من المعصية فإن من كان ذاكرا له لا يخالفه . قال ابن عطية : وعندي أن المعنى ولذكر الله أكبر على الإطلاق أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل في غير الصلاة ؛ لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر الله مراقب له وثواب ذلك أن يذكره الله تعالى ، كما في الحديث ( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ) والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهيٍ . والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله ، وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى ، وذكر الله تعالى للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه وذلك ثمرة لذكر العبد ربه قال الله عز وجل : " فاذكروني أذكركم " [ البقرة : 152 ] وباقي الآية ضرب من الوعيد والحث على المراقبة .


[12412]:راجع ج 11 ص 258 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
[12413]:راجع ج 1 ص 1 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة.
[12414]:راجع ج 1 ص 164 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} (45)

ولما أفاد هذا الخبر كله القرآن الذي لا حق أحقّ منه ، ودل على أن فهم أمثاله يحتاج إلى مزيد علم ، وأن مفتاح العلم به سبحانه رسوخ الإيمان ، خاطب رأس أهل الإيمان لأنه أعظم الفاهمين له ليقتدي به الأتباع فقال : { اتل ما } أي تابع قراءته ؛ ودل على شرفه لا ختصاصه به بقوله : { أوحي إليك } إذ الوحي الإلقاء سراً { من الكتاب } أي الجامع لكل خير ، فإنه المفيد للإيمان ، مع أنه أحق الحق الذي خلقت السماوات والأرض لأجله ، والإكثار في تلاوته يزيد بصيرة في أمره ، ويفتح كنوز الدقائق من علمه ، وهو أكرم من أن ينيل قارئه فائده وأجلّ من أن يعطي قياد فوائده ويرفع الحجاب عن جواهره وفرائده في أول مرة ، بل كلما ردده القارىء بالتدبر حباه بكنز من أسراره ، ومهما زاد زاده من لوامع أنواره ، إلى أن يقطع بأن عجائبه لا تعد ، وغرائبه لا تحد .

ولما أرشد إلى مفتاح العلم ، دل قانون العمل الذي لايصح إلا بالقرآن ، وهو ما يجمع الهم ، فيحضر القلب ، فينشرح الصدر ، فينبعث الفكر في رياض علومه ، فقال : { وأقم الصلاة } أي التي هي أحق العبادات ، ثم علل ذلك بقوله دالاً بالتأكيد على فخامة أمرها ، وأنه مما يخفى على غالب الناس : { إن الصلاة تنهى } أي توجد النهي وتجدده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها { عن الفحشاء } أي الخصال ألتي بلغ قبحها { والمنكر } أي الذي فيه نوع قبح وإن دق ، وأقل ما فيها من النهي النهي عن تركها الذي هو كفر ، ومن انتهى عن ذلك انشرح صدره ، واتسع فكره ، فعلم من أسرار القرآن ما لا يعلمه غيره

{ واتقوا الله ويعلمكم الله }[ البقرة : 282 ] .

ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله ، أتبع ذلك الحث على روح الصلاة والمقصد الأعظم منها ، وهو المراقبة لمن يصلي له حتى كأنه يراه ليكون بذلك في أعظم الذكر بقوله : { ولذكر الله } أي ولأن ذكر المستحق لكل صفة كمال { أكبر } أي من كل شيء ، فمن استحضر ذلك بقلبه هان عنده كل شيء سواه " إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه " أو يكون المراد أن من واظب على الصلاة ذكر الله ، ومن ذكره أوشك أن يرق قلبه ، ومن رق قلبه استنار لبه ، فأوشك أن ينهاه هذا الذكر المثمر لهذه الثمرة عن المعصية ، فكان ذكر الذاكر له سبحانه أكبر نهياً له عن المنكر من نهي الصلاة له ، وكان ذكره له سبحانه كبيراً ، كما قال تعالى { فاذكروني أذكركم } وإذا كان هذا شأن ذكر العبد لمولاه ، فما ظنك بذكر مولاه له كلما أقبل عليه بصلاة فإنه جدير بأن يرفعه إلى حد لا يوصف ، ويلبسه من أنواره ملابس لا تحصر .

ولما كان ذلك يحتاج إلى علاج لمعوج الطباع ومنحرف المزاج ، وتمرن على شاق الكلف ، ورياضة لجماح النفوس ، وكان صلى الله عليه وسلم قد نزه عن ذلك كله بما جبل عليه من أصل الفطرة ، ثم بما غسل به قلبه من ماء الحكمة ، وغير ذلك من جليل النعمة ، عدل إلى خطاب الأتباع يحثهم على المجاهدة فقال : { والله } أي المحيط علماً وقدرة { يعلم } أي في كل وقت { ما تصنعون* } من الخير والشر ، معبراً بلفظ الصنعة الدال على ملازمة العمل تنبيهاً على أن إقامة ما ذكر تحتاج إلى تمرن عليه وتدرب ، حتى يصير طبعاً صحيحاً ، ومقصوداً صريحاً .

 
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي - تفسير الجلالين [إخفاء]  
{ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} (45)

{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون }

{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب } القرآن { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } شرعاً : أي من شأنها ذلك ما دام المرء فيها { ولذكر الله أكبر } من غيره من الطاعات { والله يعلم ما تصنعون } فيجازيكم به .