الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَهُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَم مَّنۡ خَلَقۡنَآۚ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّن طِينٖ لَّازِبِۭ} (11)

قوله تعالى : " فاستفتهم " أي سلهم يعني أهل مكة ؛ مأخوذ من استفتاء المفتي . " أهم أشد خلقا أم من خلقنا " قال مجاهد : أي من خلقنا من السموات والأرض والجبال والبحار . وقيل : يدخل فيه الملائكة ومن سلف من الأمم الماضية . يدل على ذلك أنه أخبر عنهم " بمن " قال سعيد بن جبير : الملائكة . وقال غيره : " من " الأمم الماضية وقد هلكوا وهم أشد خلقا منهم . نزلت في أبي الأشد بن كلدة ، وسمي بأبى الأشد لشدة بطشه وقوته . وسيأتي في " البلد " ذكره . ونظير هذه : " لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس " غافر : 57 ] وقوله : " أأنتم أشد خلقا أم السماء " [ النازعات : 27 ] . " إنا خلقناهم من طين لازب " أي لاصق ، قاله ابن عباس . ومنه قول علي رضي الله عنه :

تعلَّم فإن الله زادك بسطةً *** وأخلاقَ خيرٍ كلُّها لكَ لازِبُ

وقال قتادة وابن زيد : معنى " لازب " لازق . الماوردي : والفرق بين اللاصق واللازق أن اللاصق : هو الذي قد لصق بعضه ببعض ، واللازق : هو الذي يلتزق بما أصابه . وقال عكرمة : " لازب " لزج . سعيد بن جبير : أي جيد حر يلصق باليد . مجاهد : " لازب " لازم . والعرب تقول : طين لازب ولازم ، تبدل الباء من الميم . ومثله قولهم : لا تب ولازم . على إبدال الباء بالميم . واللازب الثابت ، تقول : صار الشيء ضربة لازب ، وهو أفصح من لازم . قال النابغة :

ولا تَحْسَبُونَ الخيرَ لا شَرَّ بعدَه *** ولا تَحْسَبُونَ الشَّرَّ ضربةَ لاَزِبِ

وحكى الفراء عن العرب : طين لاتب بمعنى لازم . واللاتب الثابت ، تقول منه : لتَبَ يلتُبُ لَتْبًا ولُتُوبا ، مثل لزب يلزُب بالضم لزوبا ، وأنشد أبو الجراح في اللاتب :

فإن يك هذا من نبيذٍ شَرِبْتُهُ *** فإنِّي من شُرْبِ النَّبِيذِ لتائبُ

صُدَاعٌ وتوصِيم العظامِ وفَتْرَةٌ *** وغَمٌّ مع الإشراق في الجَوْفِ لاَتِبُ{[13245]}

واللاتب أيضا : اللاصق مثل اللازب ، عن الأصمعي حكاه الجوهري . وقال السدي والكلبي في اللازب : إنه الخالص . مجاهد والضحاك : إنه المنتن .


[13245]:قوله: وغم مع الإشراق كرواية اللسان. ورواية الطبري: وغثى مع الإشراق.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَهُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَم مَّنۡ خَلَقۡنَآۚ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّن طِينٖ لَّازِبِۭ} (11)

ولما كان المقصود من هذا الكتاب الأعظم بيان الأصول الأربعة : التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر ، ودل سبحانه بهذه المذكورات على وجوده وكمال علمه وتمام قدرته على الأفعال الهائلة وبديع حكمته اللازم منه إثبات وحدانيته تفصيلاً لبعض إجمال { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض } فكان ما دونها من الأفعال أولى ، سبب عن ذلك لإثبات الحشر الذي أخبر به هذا القرآن الذي حرسه عن تلبيس الجان بزينة الكواكب التي أنشأ منها الشهب الثواقب قوله تهكماً بهم : { فاستفتهم } أي سلهم أن يتفتوا بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث ، وأصله من الفتوة وهي الكرم : { أهم أشد } أي أقوى وأشق وأصعب { خلقاً } أي من جهة إحكام الصنعة وقوتها وعظمها { أم من } ولما كان المراد الإعلام بأنه لا شيء من الموجودات إلا وهو خلقه سبحانه ، عبر بما يدل على ذلك دون ذكرنا ، وليكون أعم ، وحذف المفعول لأنه مفهوم ، ولئلا يلبس إذا ذكر ضمير المستفتين ، فقال : { خلقنا } أي من هذه الأشياء التي عددناها من الحي وغيره من الجن الذين أعطيناهم قدرة التوصل إلى الفلك وغيرهم ، وعبر ب " من " تغليباً للعاقل من الملائكة وغيرهم مما بين السماوات والأرض .

ولما كان الجواب قطعاً أن هذه المخلوقات أشد خلقاً منهم وأنهم هم من أضعف الخلائق خلقاً ، قال دالاً على إرادة التهكم بهم في السؤال ، مؤكداً إشارة إلى أن إنكارهم البعث لاستبعادهم تمييز التراب من التراب يلزم منه إنكار ابتداء الخلق على هذا الوجه : { إنا خلقناهم } أي على عظمتنا { من طين } أي تراب رخو مهين { لازب * } أي شديد اختلاط بعضه ببعض فالتصق وضمر وتضايق وتلازم بعضه لبعض ، وقل واشتد ودخل بعض التراب أجزائه في بعض ، وصلب وثبت فصار تمييز بعضه من بعض أصعب من تمييزبعض التراب المنتثر من بعض ، قال ابن الجوزي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الطين الحر الجيد اللزق .

وإنما كانوا من طين لأن أباهم آدم كان منه من غير أب ولا أم ، فصاروا بهذا التقدير بعض الطين الذي هو بعض خلقه الذي عدده قبل ذلك سبحانه وتعالى ، ومن المعلوم أن الحال الطين مباعدة لحالهم ، ولكنهم كانوا بقدرته سبحانه الذاتية التي لا يمتنع عليها مقدور ، ولا يعجزها مأمور ، فدل ابتداء خلقهم وخلق ما هو أشد منهم وأعظم على القدرة على إعادتهم قطعاً بل بطريق الأولى من غير وجه ، وحسن هذا الاستقتاء كل الحسن ختم الكلام قبله بمن بلغوا السماء تكبراً وعلواً ، وهموا بما لم ينالوا تجبراً وعلواً ، وسلط عليهم ما يردهم مقهورين مبعدين مدحورين ، واستثنى منهم من { خطف } ليعلم أنه غير محال ما تعلقت به منهم الآمال ، هذا مع ذكره في خلقهم من الطين اللازب الذي من شأنه الرسوب لثقله والسفول كما أن من شأن من ختم بهم ما قبله العلو لخفتهم والصعود .