قوله تعالى : " أو كصيب من السماء " قال الطبري : " أو " بمعنى الواو ، وقاله الفراء .
وقد زعمت ليلى بأني فاجر *** لنفسي تقاها أو عليها فجورها{[304]}
وقال آخر{[305]} :
نال الخلافة{[306]} أو كانت له قَدَراً *** كما أتى ربه موسى على قدر
أي وكانت . وقيل : " أو " للتخيير أي مثّلوهم بهذا أو بهذا ، لا على الاقتصار على أحد الأمرين ، والمعنى أو كأصحاب صيب . والصيب : المطر . واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل ، قال علقمة :
فلا تعدلي بيني وبين مغمَّرٍ *** سقتكِ روايا المزن حيث تصُوبُ{[307]}
وأصله : صَيوب ، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ، كما فعلوا في ميت وسيد وهين ولين . وقال بعض الكوفيين : أصله صويب على مثال فعيل . قال النحاس : " لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه ، كما لا يجوز إدغام طويل . وجمع صيب صيايب . والتقدير في العربية : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا أو كمثل{[308]} صيب " .
قوله تعالى : " من السماء " السماء تذكر وتؤنث ، وتجمع على أسمية وسموات وسمي ، على فُعول ، قال العجاج :
تلفُّهُ الرياحُ والسُّمِيّ{[309]}
والسماء : كل ما علاك فأظلك ، ومنه قيل لسقف البيت : سماء . والسماء : المطر ، سمي به لنزوله من السماء . قال حسان بن ثابت :
ديارٌ من بني الحسحاس قفرٌ *** تعفيها الروامسُ والسماء
وقال آخر{[310]} :
إذا سقط السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا
ويسمى الطين والكلأ أيضا سماء ، يقال : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم . يريدون الكلأ والطين . ويقال لظهر الفرس أيضا سماء لعلوه ، قال :{[311]}
وأحمرُ كالديباج أما سماؤه *** فَرَيّا وأما أرضه فمُحُولُ
والسماء : ما علا . والأرض : ما سفل ، على ما تقدم .
قوله تعالى : " فيه ظلمات " ابتداء وخبر . " ورعد وبرق " معطوف عليه . وقال : ظلمات بالجمع إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدَّجْن ، وهو الغيم ، ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت . وقد مضى ما فيه من اللغات{[312]} فلا معنى للإعادة ، وكذا كل ما تقدم إن شاء الله تعالى .
واختلف العلماء في الرعد ، ففي الترمذي عن ابن عباس قال : سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو ؟ قال : ( ملك من الملائكة موكل{[313]} بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ) . فقالوا : فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال : ( زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله ) قالوا : صدقت . الحديث بطوله . وعلى هذا التفسير أكثر العلماء . فالرعد : اسم الصوت المسموع ، وقاله علي رضي الله عنه ، وهو المعلوم في لغة العرب ، وقد قال لبيد في جاهليته :
فَجَّعني الرعد والصواعق بال *** فارس يوم الكريهة النَّجِدِ
وروي عن ابن عباس أنه قال : الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت . واختلفوا في البرق ، فروي عن علي وابن مسعود وابن عباس رضوان الله عليهم : البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب .
قلت : وهو الظاهر من حديث الترمذي . وعن ابن عباس أيضا هو سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب . وعنه أيضا البرق ملك يتراءى .
وقالت الفلاسفة : الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب . والبرق ما ينقدح من اصطكاكها . وهذا مردود لا يصح به نقل ، والله أعلم . ويقال : أصل الرعد من الحركة ، ومنه الرعديد للجبان . وارتعد : اضطرب ، ومنه الحديث : ( فجيء بهما ترعد فرائصهما ) الحديث . أخرجه أبو داود . والبرق أصله من البريق والضوء ، ومنه البراق : دابة ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وركبها الأنبياء عليهم السلام قبله . ورعدت السماء من الرعد ، وبرقت من البرق . ورعدت المرأة وبرقت : تحسنت وتزينت . ورعد الرجل وبرق : تهدد وأوعد ، قال ابن أحمر :
يا جُلَّ ما بعدت عليك بلادنا *** وطِلابُنا فابرُق بأرضك وارعُدِ
وأرعد القوم وأبرقوا : أصابهم رعد وبرق . وحكى أبو عبيدة وأبو عمرو : أرعدت السماء وأبرقت ، وأرعد الرجل وأبرق إذا تهدد وأوعد ، وأنكره الأصمعي . واحتج عليه بقول الكميت :
أبرِق وأرعد يا يزي *** د فما وعيدك لي بضائر
فائدة : روى ابن عباس قال : كنا مع عمر بن الخطاب في سفرة بين المدينة والشام ومعنا كعب الأحبار ، قال : فأصابتنا ريح وأصابنا رعد ومطر شديد وبرد ، وفرق الناس . قال : فقال لي كعب : إنه من قال حين يسمع الرعد : سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ، عوفي مما يكون في ذلك السحاب والبرد والصواعق . قال : فقلتها أنا وكعب ، فلما أصبحنا واجتمع الناس قلت لعمر : يا أمير المؤمنين ، كأنا كنا في غير ما كان فيه الناس قال : وما ذاك ؟ قال : فحدثته حديث كعب . قال : سبحان الله أفلا قلتم لنا فنقول كما قلتم ! في رواية ، فإذا بردة{[314]} قد أصابت أنف عمر فأثرت به . وستأتي هذه الرواية في سورة " الرعد{[315]} " إن شاء الله . ذكر الروايتين أبو بكر بن علي بن ثابت الخطيب في روايات الصحابة عن التابعين رحمة الله عليهم أجمعين . وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال : ( اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ) .
قوله تعالى : " يجعلون أصابعهم في آذانهم " جعلهم أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد عليه السلام ، وذلك عندهم كفر والكفر موت . وفي واحد الأصابع خمس لغات : إصبع بكسر الهمزة وفتح الباء ، وأصبع بفتح الهمزة وكسر الباء ، ويقال بفتحهما جميعا ، وضمهما جميعا ، وبكسرهما جميعا ، ومؤنثة . وكذلك الأذن وتخفف وتثقل وتصغر ، فيقال : أذينة . ولو سميت بها رجلا ثم صغرته . قلت : أذين ، فلم تؤنث لزوال التأنيث عنه بالنقل إلى المذكر فأما قولهم : أذينة في الاسم العلم فإنما سمي به مصغرا ، والجمع آذان . وتقول : أذنته إذا ضربت أذنه . ورجل أذُن : إذا كان يسمع كلام كل أحد ، يستوي فيه الواحد والجمع . وأذاني : عظيم الأذنين . ونعجة أذناء ، وكبش آذن . وأذّنت النعل وغيرها تأذينا : إذا جعلت لها أذنا . وأذنت الصبي : عركت أذنه .
قوله تعالى : " من الصواعق " أي من أجل الصواعق . والصواعق جمع صاعقة . قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : إذا اشتد غضب الرعد الذي هو الملك طار النار من فيه وهي الصواعق . وكذا قال الخليل ، قال : هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد ، يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه . وقال أبو زيد : الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد . وحكى الخليل عن قوم : الساعقة ( بالسين ) . وقال أبو بكر النقاش : يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد . وقرأ الحسن : من " الصواقع " ( بتقديم القاف ) ، ومنه قول أبي النجم :
يحكون بالمصقولة القواطع *** تَشَقُّق البرق عن الصواقع
قال النحاس : وهي لغة تميم وبعض بني ربيعة . ويقال : صعقتهم السماء إذا ألقت عليهم . الصاعقة . والصاعقة أيضا صيحة العذاب ، قال الله عز وجل : " فأخذتهم صاعقة{[316]} العذاب الهون " [ فصلت : 17 ] ويقال : صعق الرجل صعقة وتصعاقا ، أي غشي عليه ، وفي قوله تعالى : " وخر موسى صعقا{[317]} " [ الأعراف : 143 ] فأصعقه غيره . قال ابن مقبل :
ترى النُّعَرات الزُّرْقَ تحت لَبانِه *** أُحادَ ومَثْنَى أصعقتها صواهلُه{[318]}
وقوله تعالى : " فصعق{[319]} من في السموات ومن في الأرض " [ الزمر : 68 ] أي مات . وشبه الله تعالى في هذه الآية أحوال المنافقين بما في الصيب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق . فالظلمات مثل لما يعتقدونه من الكفر ، والرعد والبرق مثل لما يخوفون به . وقيل : مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم ، والعمى هو الظلمات ، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد ، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا أن تبهرهم هو البرق . والصواعق ، مثل لما في القرآن من الدعاء إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل . وقيل : الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة وغيرهما .
قوله : " حذر الموت " حذر وحذار بمعنى ، وقرئ بهما . قال سيبويه : هو منصوب ، لأنه موقوع له أي مفعول من أجله ، وحقيقته أنه مصدر ، وأنشد سيبويه :
وأغفرُ عوراءَ الكريم ادَّخَارَهُ *** وأعرضُ عن شتم اللئيم تكرُّما{[320]}
وقال الفراء : هو منصوب على التمييز والموت : ضد الحياة . وقد مات يموت ، ويمات أيضا ، قال الراجز :
بنيتي سيدة البنات*** عيشي ولا يؤمن أن تَمَاتِي
فهو ميت وميت ، وقوم موتى وأموات وميتون وميتون . والموات ( بالضم ) : الموت . والموات ( بالفتح ) : ما لا روح فيه . والموات أيضا : الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد . والمَوَتان ( بالتحريك ) : خلاف الحيوان ، يقال : اشتر الموتان ، ولا تشتر الحيوان ، أي اشتر الأرضين والدور ، ولا تشتر الرقيق والدواب . والمُوتان ( بالضم ) : موت يقع في الماشية ، يقال : وقع في المال موتان . وأماته الله وموته ، شدد للمبالغة . وقال :
فعروة مات موتا مستريحا *** فهأنذا أُمَوَّتُ كل يوم
وأماتت الناقة إذا مات ولدها ، فهي مميت ومميتة . قال أبو عبيد : وكذلك المرأة ، وجمعها مماويت . قال ابن السكيت : أمات فلان إذا مات له ابن أو بنون . والمتماوت من صفة الناسك المرائي . وموت مائت ، كقولك : ليل لائل ، يؤخذ من لفظه ما يؤكد به . والمستميت للأمر : المسترسل له ، قال رؤبة :
وزَبَدُ البحر له كَتِيتُ *** والليل فوق الماء مستميتُ{[321]}
المستميت أيضا : المستقتل الذي لا يبالي في الحرب من الموت ، وفي الحديث : ( أرى القوم مستميتين ) وهم الذين يقاتلون على الموت . والمُوتة ( بالضم ) : جنس من الجنون والصرع يعتري الإنسان ، فإذا أفاق عاد إليه كمال عقله كالنائم والسكران . ومُؤتة ( بضم الميم وهمز الواو ) : اسم أرض{[322]} قتل بها جعفر بن أبي طالب عليه السلام .
قوله تعالى : " والله محيط بالكافرين " ابتداء وخبر ، أي لا يفوتونه . يقال : أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة ، قال الشاعر :
أحطنا بهم حتى إذا ما تيَقَّنوا *** بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السِّلْمِ
ومنه قوله تعالى : " وأحيط{[323]} بثمره " [ الكهف : 42 ] . وأصله محيط ، نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت . فالله سبحانه محيط بجميع المخلوقات ، أي هي في قبضته وتحت قهره ، كما قال : " والأرض جميعا قبضته يوم القيامة{[324]} " [ الزمر : 67 ] . وقيل : " محيط بالكافرين " أي عالم بهم . دليله : " وأن الله قد أحاط بكل شيء علما{[325]} " [ الطلاق : 12 ] . وقيل : مهلكهم وجامعهم . دليله قوله تعالى : " إلا أن يحاط بكم{[326]} " [ يوسف : 66 ] أي إلا أن تهلكوا جميعا . وخص الكافرين بالذكر لتقدم ذكرهم في الآية . والله أعلم .