الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱلَّذِينَ لَا يَدۡعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقۡتُلُونَ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَا يَزۡنُونَۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ يَلۡقَ أَثَامٗا} (68)

قوله تعالى : " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان ، وقتلهم النفس بوأد البنات ، وغير ذلك من الظلم والاغتيال ، والغارات ، ومن الزنى الذي كان عندهم مباحا . وقال من صرف هذه الآية عن ظاهرها من أهل المعاني : لا يليق بمن أضافهم الرحمن إليه إضافة الاختصاص ، وذكرهم ووصفهم من صفات المعرفة والتشريف وقوع هذه الأمور القبيحة منهم حتى يمدحوا بنفيها عنهم لأنهم أعلى وأشرف ، فقال : معناها لا يدعون الهوى إلها ، ولا يذلون أنفسهم بالمعاصي فيكون قتلا لها . ومعنى " إلا بالحق " أي إلا بسكين الصبر وسيف المجاهدة فلا ينظرون إلى نساء ليست لهم بمحرم بشهوة فيكون سفاحا ، بل بالضرورة فيكون كالنكاح . قال شيخنا أبو العباس : وهذا كلام رائق غير أنه عند السبر مائق . وهي نبعة باطنية ونزعة باطلية وإنما صح تشريف عباد الله باختصاص الإضافة بعد أن تحلوا بتلك الصفات الحميدة وتخلوا عن نقائض ذلك من الأوصاف الذميمة ، فبدأ في صدر هذه الآيات بصفات التحلي تشريفا لهم ، ثم أعقبها بصفات التخلي تبعيدا لها ، والله أعلم .

قلت : ومما يدل على بطلان ما ادعاه هذا القائل من أن تلك الأمور ليست على ظاهرها ما روى مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : ( أن تدعو لله ندا وهو خلقك ) قال : ثم أي ؟ قال : ( أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم ) قال : ثم أي ؟ قال : ( أن تزاني حليلة جارك ) فأنزل الله تعالى تصديقها : " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن يفعل ذلك يلق أثاما " . والأثام في كلام العرب العقاب ، وبه قرأ ابن زيد وقتادة هذه الآية . ومنه قول الشاعر :

جزى الله ابن عروة حيث أمسى *** عقوقا والعقوق له أثامُ

أي جزاء وعقوبة . وقال عبد الله بن عمرو وعكرمة ومجاهد : إن " أثاما " واد في جهنم جعله الله عقابا للكفرة . قال الشاعر :

لقيت المهالك في حربنا *** وبعد المهالك تلقى أثاما

وقال السدي : جبل فيها . قال :

وكان مُقامُنا ندعو عليهم *** بأبطح ذي المجاز له أثامُ

وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، وهو يخبرنا بأن لما عملنا كفارة ، فنزلت : " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما " . ونزل : " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " [ الزمر : 53 ] الآية . وقد قيل : إن هذه الآية ، " يا عبادي الذين أسرفوا " نزلت في وحشي قاتل حمزة ، قاله سعيد بن جبير وابن عباس . وسيأتي في " الزمر " بيانه . قوله تعالى : " إلا بالحق " أي بما يحق أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان ، على ما تقدم بيانه في " الأنعام " {[12170]} . " ولا يزنون " فيستحلون الفروج بغير نكاح ولا ملك يمين . ودلت هذه الآية على أنه ليس بعد الكفر أعظم من قتل النفس بغير الحق ثم الزنى ؛ ولهذا ثبت في حد الزنا القتل لمن كان محصنا أو أقصى الجلد لمن كان غير محصن .


[12170]:راجع ج 7 ص 1333 طبعة أولى أو ثانية.