الأولى : قوله تعالى : " يا أيها الرسول لا يحزنك " الآية في سبب نزولها ثلاثة أقوال : قيل نزلت في بني قريظة والنضير ، قتل قرظي نضيريا وكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يقيدوهم ، وإنما يعطونهم الدية على ما يأتي بيانه ، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم بالتسوية بين القرظي والنضيري ، فساءهم ذلك ولم يقبلوا . وقيل : إنها نزلت في شأن أبي لبابة حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فخانه حين أشار إليهم أنه الذبح{[5587]} . وقيل : إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرجم ، وهذا أصح الأقوال . رواه الأئمة مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود . قال أبو داود عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ( ائتوني بأعلم رجلين منكم ) فجاؤوا بابني صوريا فنشدهما الله تعالى ( كيف تجدان أمر هذين في التوراة ) ؟ قالا : نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة رجما . قال : ( فما يمنعكم أن ترجموهما ) ، قالا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالشهود{[5588]} ، فجاؤوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما . وفي غير الصحيحين عن الشعبي عن جابر بن عبدالله قال : زنى رجل من أهل فدك ، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا عن ذلك ، فإن أمركم بالجلد فخذوه ، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه ، فسألوه فدعا بابن صوريا وكان عالمهم وكان أعور ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنشدك الله كيف تجدون حد الزاني في كتابكم ) ، فقال ابن صوريا : فأما إذ ناشدتني الله فإنا نجد في التوراة أن النظر زنية ، والاعتناق زنية ، والقبلة زنية ، فإن شهد أربعة بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هو ذاك ) . وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما{[5589]} مجلودا ، فدعاهم فقال : هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ) قالوا : نعم . فدعا رجلا من علمائهم فقال : ( أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ ) قال : لا - ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك - نجده الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، قلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) فأمر به فرجم ، فأنزل الله تعالى : " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " إلى قوله : " إن أوتيتم هذا فخذوه " يقول : ائتوا محمدا ، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، فأنزل الله عز وجل : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " [ المائدة 44 ] ، " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " [ المائدة : 45 ] ، " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " [ المائدة : 47 ] في الكفار كلها . هكذا في هذه الرواية ( مر على النبي صلى الله عليه وسلم ) ، وفي حديث ابن عمر : أتي بيهودي ويهودية فد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود ، قل : ( ما تجدون في التوراة على من زنى ) الحديث . وفي رواية : أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجل وامرأة قد زنيا . وفي كتاب أبي داود من حديث ابن عمر قال : أتى نفر من اليهود ، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف{[5590]} فأتاهم في بيت المدراس{[5591]} فقالوا : يا أبا القاسم ، إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بيننا . ولا تعارض في شيء من هذا كله ، وهي كلها قصة واحدة ، وقد ساقها أبو داود من حديث أبي هريرة سياقة حسنة فقال : زنى رجل من اليهود وامرأة ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي ، فإنه نبي بعث بالتخفيفات ، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله ، وقلنا فتيا نبي من أنبيائك . قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه . فقالوا : يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى بيت مدراسهم ، فقام على الباب ، فقال : ( أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ) ، فقالوا : يحمم وجهه ويجبَّه ويجلد ، والتجبيه : أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف به . قال : وسكت شاب منهم ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ{[5592]} به النشدة . فقال : اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم . وساق الحديث إلى أن قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإني أحكم بما في التوراة ) فأمر بهما فرجما .
الثانية : والحاصل من هذه الروايات أن اليهود حكمت النبي صلى الله عليه وسلم ، فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة . واستند في ذلك إلى قول ابني صوريا ، وأنه سمع شهادة اليهود وعمل بها ، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان . فهذه مسائل أربع . فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام ، فإن كان ما رفعوه ظلما كالقتل والعدوان والغصب حكم بينهم ، ومنعهم منه بلا خلاف . وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي ، غير أن مالكا رأى الإعراض عنهم{[5593]} أولى ، فإن حكم حكم بينهم{[5594]} بحكم الإسلام . وقال الشافعي : لا يحكم بينهم في الحدود . وقال أبو حنيفة : يحكم بينهم على كل حال ، وهو قول الزهري وعمر بن عبدالعزيز والحكم ، وروي عن ابن عباس وهو أحد قولي الشافعي ؛ لقوله تعالى : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " [ المائدة : 49 ] على ما يأتي بيانه بعد{[5595]} ، احتج مالك بقوله تعالى : " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " [ المائدة : 42 ] وهي نص في التخيير . قال ابن القاسم : إذا جاء الأساقفة والزانيان فالحاكم مخير ؛ لأن إنفاذ الحكم حق للأساقفة والمخالف يقول : لا يلتفت إلى الأساقفة . قال ابن العربي : وهو الأصح ؛ لأن مسلمين لو حكما بينهما رجلا لنفذ ، ولم يعتبر رضا الحاكم . فالكتابيون بذلك أولى . وقال عيسى عن ابن القاسم : لم يكونوا أهل ذمة إنما كانوا أهل حرب . قال ابن العربي : وهذا الذي قال عيسى عنه إنما نزع به لما رواه الطبري وغيره : أن الزانيين كانا من أهل خيبر أو فدك ، وكانوا حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . واسم المرأة الزانية بسرة ، وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة يقولون لهم اسألوا محمدا عن هذا ، فإن أفتاكم بغير الرجم فخذوه منه{[5596]} واقبلوه ، وإن أفتاكم به فاحذروه{[5597]} ؛ الحديث . قال ابن العربي : وهذا لو كان صحيحا لكان مجيئهم بالزانيين وسؤالهم عهدا وأمانا ، وإن لم يكن عهد وذمة ودار لكان له حكم الكف عنهم والعدل فيهم ، فلا حجة لرواية عيسى في هذا ، وعنهم أخبر الله تعالى بقوله : " سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " ولما حكموا النبي صلى الله عليه وسلم نفذ الحكم عليهم ولم يكن لهم الرجوع ، فكل من حكم رجلا في الدين وهي :
الثالثة : فأصله هذه الآية . قال مالك : إذا حكم رجلا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه ، إلا أن يكونوا جورا بينا . وقال سحنون : يمضيه إن رآه صوابا{[5598]} . قال ابن العربي : وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب ، فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان ، والضابط أن كل حق اختص به الخصمان جاز التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكم فيه ، وتحقيقه أن التحكيم بين الناس إنما هو حقهم لا حق الحاكم بيد أن الاسترسال على التحكيم خرم لقاعدة الولاية ، ومؤد إلى تهارج الناس كتهارج{[5599]} الحمر ، فلا بد من فاصل ، فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج ، وأذن في التحكيم تخفيفا عنه وعنهم في مشقة الترافع لتتم المصلحتان وتحصل الفائدة . وقال الشافعي وغيره : التحكيم جائز وإنما هو فتوى . وقال بعض العلماء : إنما كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود بالرجم إقامة لحكم كتابهم ، لما حرفوه وأخفوه وتركوا العمل به ؛ ألا ترى أنه قال : ( اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) وأن ذلك كان حين قدم المدينة ، ولذلك استثبت ابني صوريا عن حكم التوراة واستحلفهما على ذلك . وأقوال الكفار في الحدود وفي شهادتهم عليها غير مقبولة بالإجماع ، لكن فعل ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به . وقد يحتمل أن يكون حصول طريق العلم بذلك الوحي ، أو ما ألقى الله في روعه من تصديق ابني صوريا فيما قالاه من ذلك لا قولهما مجردا ، فبين له النبي{[5600]} صلى الله عليه وسلم ، وأخبر بمشروعية الرجم ، ومبدؤه ذلك الوقت ، فيكون أفاد بما فعله إقامة حكم التوراة ، وبين أن ذلك حكم شريعته ، وأن التوراة حكم الله سبحانه ؛ لقوله تعالى : " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا " {[5601]} [ المائدة : 44 ] وهو من الأنبياء . وقد قال عنه أبو هريرة : ( فإني أحكم بما في التوراة ) والله أعلم .
الرابعة : والجمهور على رد شهادة الذمي ؛ لأنه ليس من أهلها فلا تقبل على مسلم ولا على كافر ، وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين وغيرهم إذ لم يوجد مسلم على ما يأتي بيانه آخر السورة فإن قيل : فقد حكم بشهادتهم ورجم{[5602]} الزانيين ؟ فالجواب أنه إنما نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به ، على نحو ما عملت به بنو إسرائيل إلزاما للحجة عليهم ، وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم ، فكان منفذا لا حاكما{[5603]} . وهذا على التأويل الأول ، وعلى ما ذكر من الاحتمال فيكون ذلك خاصا بتلك الواقعة ، إذ لم يسمع في الصدر الأول من قبل شهادتهم في مثل ذلك . والله أعلم .
الخامسة : قوله تعالى : " لا يحزنك " قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي ، والباقون بفتح الياء وضم الزاي . والحزن والحزن خلاف السرور ، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين ، وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ، ومحزون بني عليه . قال اليزيدي : حزنه لغة قريش ، وأحزنه لغة تميم ، وقد قرئ بهما . واحتزن وأحزن بمعنى . والمعنى في الآية تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم : أي لا يحزنك مسارعتهم إلى الكفر ، فإن الله قد وعدك النصر عليهم .
السادسة : قوله تعالى : " من الذين قالوا آمنا بأفواههم " وهم المنافقون " ولم تؤمن قلوبهم " أي لم يضمروا في قلوبهم الإيمان كما نطقت به ألسنتهم " ومن الذين هادوا " يعني يهود المدينة ويكون هذا تمام الكلام ، ثم ابتدأ فقال " سماعون للكذب " أي هم سماعون ، ومثله " طوافون عليكم " {[5604]} [ النور : 58 ] . وقيل الابتداء من قوله : " ومن الذين هادوا " ومن الذين هادوا قوم سماعون للكذب ، أي قابلون لكذب رؤسائه من تحريف التوراة . وقيل : أي يسمعون كلامك يا محمد ليكذبوا عليك ، فكان فيهم من يحضر النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكذب عليه عند عامتهم ، ويقبح صورته في أعينهم ، وهو معنى قوله : " سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " وكان في المنافقين من يفعل هذا . قال الفراء ويجوز سماعين وطوافين ، كما قال : " ملعونين أينما ثقفوا{[5605]} " وكما قال : " إن المتقين في جنات ونعيم " . [ الطور : 17 ] ثم قال : " فاكهين " " آخذين{[5606]} " . وقال سفيان بن عيينة : إن الله سبحانه ذكر الجاسوس في القرآن بقوله : " سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " ولم يعرض النبي صلى الله علبه وسلم لهم مع علمه بهم ؛ لأنه لم يكن حينئذ تقررت الأحكام ولا تمكن الإسلام . وسيأتي حكم الجاسوس في " الممتحنة " {[5607]} إن شاء الله تعالى .
السابعة : قوله تعالى : " يحرفون الكلم من بعد مواضعه " أي يتأولونه على غير تأويله بعد أن فهموه عنك وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عز وجل ، وبين أحكامه ، فقالوا : شرعه ترك الرجم ، وجعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين تغييرا لحكم الله عز وجل . و " يحرفون " في موضع الصفة لقوله " سماعون " وليس بحال من الضمير الذي في " يأتوك " لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا ، والتحريف إنما هو ممن يشهد ويسمع فيحرف . والمحرفون من اليهود بعضهم لا كلهم ، ولذلك كان حمل المعنى على " من الذين هادوا " فريق سماعون أشبه " " يقولون " في موضع الحال من المضمر في " يحرفون " " إن أوتيتم هذا فخذوه " أي إن أتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلى فأقبلوا وإلا فلا .
الثامنة : قوله تعالى : " ومن يرد الله فتنته " أي ضلالته في الدنيا وعقوبته في الآخرة " فلن تملك له من الله شيئا " أي فلن تنفعه " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " بيان منه عز وجل أنه قضى عليهم بالكفر . ودلت الآية على أن الضلال بمشيئة الله تعالى ردا على من قال خلاف ذلك على ما تقدم ؛ أي لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من الطبع عليها والختم كما طهر قلوب المؤمنين ثوابا لهم " لهم في الدنيا خزي " قيل : هو فضيحتهم حين أنكروا الرجم ، ثم أحضرت التوراة فوجد فيها الرجم وقيل : خزيهم في الدنيا أخذ الجزية والذل . والله أعلم .