لطائف الإشارات للقشيري - القشيري [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

أَهم يَقْسمون - يا محمد - رحمةَ ربك في التخصيص بالنبوة ؟ أيكون اختيارُ اللَّهِ - سبحانه- عَلَى مقتضى هواهم ؟ بئس ما يحكمون !

{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم . . . } فلم نجعل القسمة في الحياة الدنيا لهم . . فكيف نجعل قسمة النبوة إلى هؤلاء ؟ ! .

والإشارة من هذا : أن الحقَّ - سبحانه- لم يجعل قسمةَ السعادةِ والشقاوةِ إلى أحد ، وإنما المردودُ مَنْ ردّه بحكمه وقضائه وقَدَرِه ، والمقبولُ - من جملة عباده - مَنْ أراده وقَبِلَه- لا لِعلَّةٍ أَو سبب ، وليس الردُّ أو القبولُ لأمرِ مُكتَسب . . .

ثمَّ إنه قَسَمَ لِبعْضِ عِباده النعمةَ والغنى ، وللبعض القلّةَ والفقر ، وجعل لكلِّ واحدٍ منهم سكناً يسكنون إليه يستقلون به ؛ فللأغنياء وجودُ الإنعام وجزيل الأقسام . . فشكروا واستبشروا ، وللفقراء شهودُ المُنْعم والقَسَّام . . فَحَمدوا وافتخروا . الأغنياءُ وجدوا النعمة فاستغنوا وانشغلوا ، والفقراء سمعوا قوله : " نحن " فاشتغلوا .

وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : " أما ترضون أن يرجع الناس بالغنى ؛ وأنتم ترجعون بالنبي إلى أَهليكم ؟ " .

{ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً . . . } : لو كانت المقاديرُ متساويةً لَتَعَطَّلت المعايشُ ، ولَبَقِيَ كلٌّ عندَ حاله ؛ فجعل بعضَهُم مخصوصين بالرّفَه والمال ، وآخرين مخصوصين بالفقر ورقة الحال . . حتى احتاج الفقير في جبر حاجته إلى أن يعمل للغني كي يرتفق من جهته بأجرته فيَصْلُحُ بذلك أمرُ الغنيِّ والفقير جميعاً .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

قال اللّه ردا لاقتراحهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } أي : أهم الخزان لرحمة اللّه ، وبيدهم تدبيرها ، فيعطون النبوة والرسالة من يشاءون ، ويمنعونها ممن يشاءون ؟

{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أي : في الحياة الدنيا ، والحال أن رَحْمَةَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الدنيا .

فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد اللّه تعالى ، وهو الذي يقسمها بين عباده ، فيبسط الرزق على من يشاء ، ويضيقه على من يشاء ، بحسب حكمته ، فرحمته الدينية ، التي أعلاها النبوة والرسالة ، أولى وأحرى أن تكون بيد اللّه تعالى ، فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته .

فعلم أن اقتراحهم ساقط لاغ ، وأن التدبير للأمور كلها ، دينيها ودنيويها ، بيد اللّه وحده . هذا إقناع لهم ، من جهة غلطهم في الاقتراح ، الذي ليس في أيديهم منه شيء ، إن هو إلا ظلم منهم ورد للحق .

وقولهم : { لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } لو عرفوا حقائق الرجال ، والصفات التي بها يعرف علو قدر الرجل ، وعظم منزلته عند اللّه وعند خلقه ، لعلموا أن محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب صلى اللّه عليه وسلم ، هو أعظم الرجال قدرا ، وأعلاهم فخرا ، وأكملهم عقلا ، وأغزرهم علما ، وأجلهم رأيا وعزما وحزما ، وأ كملهم خلقا ، وأوسعهم رحمة ، وأشدهم شفقة ، وأهداهم وأتقاهم .

وهو قطب دائرة الكمال ، وإليه المنتهى في أوصاف الرجال ، ألا وهو رجل العالم على الإطلاق ، يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه ، فكيف يفضل عليه المشركون من لم يشم مثقال ذرة من كماله ؟ ! ، ومن جرمه ومنتهى حمقه أن جعل إلهه الذي يعبده ويدعوه ويتقرب إليه صنما ، أو شجرا ، أو حجرا ، لا يضر ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، وهو كل على مولاه ، يحتاج لمن يقوم بمصالحه ، فهل هذا إلا من فعل السفهاء والمجانين ؟

فكيف يجعل مثل هذا عظيما ؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم صلى اللّه عليه وسلم ؟ ولكن الذين كفروا لا يعقلون .

وفي هذه الآية تنبيه على حكمة اللّه تعالى في تفضيل اللّه بعض العباد على بعض في الدنيا { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } أي : ليسخر بعضهم بعضا ، في الأعمال والحرف والصنائع .

فلو تساوى الناس في الغنى ، ولم يحتج بعضهم إلى بعض ، لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم .

وفيها دليل على أن نعمته الدينية خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في الآية الأخرى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

قوله : { أهم يقسمون رحمت ربّك } الاستفهام للإنكار . وذلك رد لاعتراض المشركين على بعث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله وحده الذي يصطفي من عباده من يشاء لحمل الرسالة ، وليكون للناس بشيرا ونذيرا ، و الله جل وعلا أعلم حيث يجعل رسالته ، فليس ذلك من شأن هؤلاء المشركين الجاهلين .

قوله : { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا } أي كما قسم الله رحمته وكرامته بين من شاء من عباده الأخيار ليكونوا نبيين ومرسلين كذلك قسم الله بين العباد معيشتهم في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأموال ومختلف أنواع النعم ، فيكون فيهم الكيّس والخامل ، والغبي والفطن ، والعيي واللّسن ، والأغنياء والفقراء . فكان الناس بذلك مختلفين في الطاقات والقدرات ، والمواهب والاستعدادات ، ليكونوا بذلك متفاوتين في الدرجات . وهو قوله سبحانه : { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } أي فاضل الله بين عباده فجعل بعضهم أفضل من بعض في حاجات الدنيا وفي مظاهرها ومتاعها ، كالرزق والرياسة والعلم والفهم ، فهم في ذلك كله متفاوتون متباينون ، فإن فيهم الغني والفقير ، والذكي والغبي ، والعالم والجاهل ، والناشط والعاجز ، ، والشجاع والخائر . وفيهم ذو الهمة المترفع والصفيق المتبلّد . وهكذا الناس جميعا مختلفون في جبلاتهم وطبائعهم واستعدادتهم . وذلك يفضي بالضرورة إلى الاختلاف والتفاوت في أرزاق العباد ، وفي درجاتهم في الحياة الدنيا { ليتّخذ بعضهم بعضا سخريّا } أي ليستخدم بعضهم بعضا ، فيستخدم الغني الفقير ، والرئيس المرءوس ، والقوي الضعيف ، والعالم الجاهل ، والذكي من دونه من أولي الغباوة وهوان العقل .

قوله : { ورحمت ربّك خير مما يجمعون } المراد بالرحمة ما كتبه الله لعباده الصالحين من وجوه النعم وعظيم الجزاء في الآخرة . لا جرم أن ذلك خير مما يجمعه الغافلون من الأموال وأوجه المتاع في حياتهم الدنيا .