لقد صنع بنو إسرائيل تلك الآثام كلها ؛ وهم يحسبون أن الله لن يفتنهم بالبلاء ، ولن يأخذهم بالعقاب . حسبوا هذا الحسبان غفلة منهم عن سنة الله ؛ وغرورا منهم بأنهم " شعب الله المختار " !
( وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموًا ) . .
طمس الله على أبصارهم فلا يفقهون مما يرون شيئا ؛ وطمس على مسامعهم فلا يفيدون مما يسمعون شيئا . .
وأدركهم برحمته . . فلم يرعووا ولم ينتفعوا :
( ثم عموا وصموا . كثير منهم . . ) ( والله بصير بما يعملون ) . .
وهو مجازيهم بما يراه ويعلمه من أمرهم . . وما هم بمفلتين . .
ويكفي أن يعرف الذين آمنوا هذا التاريخ القديم عن يهود ، وهذا الواقع الجديد ؛ لتنفر قلوبهم المؤمنة من ولائهم ، كما نفر قلب عبادة بن الصامت ؛ فلا يتولاهم إلا المنافقون من أمثال عبدالله بن أبى بن سلول !
عطف على قوله : { كَذّبوا } [ المائدة : 70 ] و { يقتلون } [ المائدة : 70 ] لبيان فساد اعتقادهم النّاشيء عنه فاسد أعمالهم ، أي فعلوا ما فعلوا من الفظائع عن تعمّد بغرور ، لا عنْ فلتة أو ثائرة نفس حتّى يُنيبُوا ويتوبوا . والضّمائر البارزة عائدة مثل الضّمائر المتقدّمة في قوله { كذّبوا } و { يقتلون } . وظنّوا أنّ فعلهم لا تلحقهم منه فتنة .
والفتنة مَرْج أحوال النّاس واضطرابُ نظامهم من جرّاء أضرار ومصائب متواليّة ، وقد تقدّم تحقيقها عند قوله : { إنَّما نحن فتنة } في سورة البقرة ( 102 ) . وهي قد تكون عقاباً من الله للنّاس جزاء عن سوء فعلهم أو تمحيصاً لصادق إيمانهم لتعلوَ بذلك درجاتهم { إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] الآية . وسمَّى القرآن هاروت وماروت فتنة ، وسمَّى النبيءُ صلى الله عليه وسلم الدجّال فتنة ، وسمَّى القرآن مزالّ الشيطان فتنة { لا يفتننّكم الشيطان } [ الأعراف : 27 ] . فكان معنى الابتلاء ملازماً لها .
والمعنى : وظنّوا أنّ الله لا يُصيبهم بفتنة في الدّنيا جزاء على ما عاملوا به أنبياءهم ، فهنالك مجرور مقدّر دالّ عليه السّياق ، أي ظنّوا أن لا تنزل بهم مصائب في الدّنيا فأمنوا عقاب الله في الدّنيا بعد أن استخفّوا بعذاب الآخرة ، وتوهّموا أنّهم ناجون منه ، لأنّهم أبناء الله وأحبّاؤه ، وأنّهم لن تمسّهم النّار إلاّ أياماً معدودة .
فمن بديع إيجاز القرآن أن أومأ إلى سوء اعتقادهم في جزاء الآخرة وأنّهم نبذوا الفكرة فيه ظهرياً وأنّهم لا يراقبون الله في ارتكاب القبائح ، وإلى سوء غفلتهم عن فتنة الدّنيا وأنّهم ضالّون في كلا الأمرين .
ودلّ قوله : { وحَسبوا أن لا تكون فتنة } على أنّهم لو لم يحسبوا ذلك لارتدعوا ، لأنّهم كانوا أحرص عَلى سلامة الدّنيا منهم على السلامة في الآخرة لانحطاط إيمانهم وضعف يقينهم . وهذا شأن الأمم إذا تطرّق إليها الخِذلان أن يفسد اعتقادهم ويختلط إيمانهم ويصير همّهم مقصوراً على تدبير عاجلتهم ، فإذا ظنّوا استقامة العاجلة أغمضوا أعينهم عن الآخرة ، فتطلّبوا السلامة من غير أسبابها ، فأضاعوا الفوز الأبدي وتعلّقوا بالفوز العاجل فأساؤوا العمل فأصابهم العذابان العاجلُ بالفتنة والآجلُ .
واستعير { عَمُوا وصَمُّوا } للإعراض عن دلائل الرشاد من رسلهم وكتبهم لأنّ العمى والصمم يوقعان في الضلال عن الطريق وانعدام استفادة ما ينفع . فالجمع بين العمى والصمم جمع في الاستعارة بين أصناف حرمان الانتفاع بأفضلِ نافع ، فإذا حصل الإعراض عن ذلك غلب الهوى على النّفوس ، لأنّ الانسياق إليه في الجبلّة ، فتجنّبه محتاج إلى الوازع ، فإذا انعدم الوازع جاء سوء الفعل ، ولذلك كان قوله : { فعموا وصمّوا } مراداً منه معناه الكنائي أيضاً ، وهو أنّهم أساءوا الأعمال وأفسدوا ، فلذلك استقام أن يعطف عليه قوله { ثُمّ تاب الله عليهم } . وقد تأكّد هذا المراد بقوله في تذييل الآية { والله بصير بما يعملون } .
وقوله : { ثُمّ تاب الله عليهم } أي بعد ذلك الضّلال والإعْراض عن الرّشد وما أعقبه من سوء العمل والفساد في الأرض .
وقد استفيد من قوله : { أن لا تكون فتنة } وقوله : { ثُمّ تاب الله عليهم } أنّهم قد أصابتهم الفتنة بعد ذلك العمى والصمم وما نشأ عنها عقوبة لهم ، وأنّ الله لمّا تاب عليهم رفع عنهم الفتنة ، { ثم عَمُوا وصموا } ، أي عادوا إلى ضلالهم القديم وعملهم الذّميم ، لأنّهم مصرّون على حُسبان أن لا تكون فتنة فأصابتهم فتنة أخرى .
وقد وقف الكلام عند هذا العمى والصمم الثّاني ولم يُذكر أنّ الله تاب عليهم بعده ، فدلّ على أنّهم أعرضوا عن الحَقّ إعراضاً شديداً مرّة ثانية فأصابتهم فتنة لم يتب الله عليهم بعدها .
ويتعيّن أنّ ذلك إشارة إلى حادثين عظيمين من حوادث عصور بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام ، والأظهر أنّهما حادث الأسْر البابِلي إذ سلّط الله عليهم ( بخنتصر ) ملك ( أشُور ) فدخل بيت المقدّس مرات سنة 606 وسنة 598 وسنة 588 قبل المسيح . وأتى في ثالثتها على مدينة أورشليم فأحرقها وأحرق المسجد وحَمَل جميع بني إسرائيل إلى بابل أسارى ، وأنّ توبة الله عليهم كان مظهرها حين غلب ( كُورش ) ملك ( فَارس ) على الأشوريين واستولى على بابل سنة 530 قبل المسيح فأذن لليهود أن يرجعوا إلى بلادهم ويعمّروها فرجعوا وبنوا مسجدهم .
وحادث الخراب الواقع في زمن ( تِيطس ) القائد الرّوماني ( وهو ابن الأنبراطور الرّوماني ( وسبسيانوس ) فإنّه حاصر ( أورشليم ) حتّى اضطرّ اليهود إلى أكل الجلود وأن يأكل بعضُهم بعضاً من الجوع ، وقتَل منهم ألفَ ألفِ رجلٍ ، وسبى سبعة وتسعين ألفاً ، على ما في ذلك من مبالغة ، وذلك سنة 69 للمسيح . ثمّ قفّاه الأنبراطور ( أدريان ) الرّوماني من سنة 117 إلى سنة 138 للمسيح فهدَم المدينة وجعلها أرضاً وخلط ترابها بالمِلح . فكان ذلك انقراض دولة اليهود ومدينتهم وتفرّقَهم في الأرض .
وقد أشار القرآن إلى هذين الحديثين بقوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفْسِدُنّ في الأرض مرّتَيْن ولتَعَلُنّ عُلُوّاً كبيراً فإذا جاء وعد أُولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولِي بأسٍ شديد فجاسوا خِلال الدّيار وكان وَعْداً مفعولاً ثُمّ رددنا لكم الكَرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنِين وجعلناكم أكثر نَفيراً إنْ أحسنتُم أحسنتم لأنفسكم وإنْ أسأتم فلها فإذا جاء وعْد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تتبيراً عسى ربّكم أن يرحمكم } [ الإسراء : 4 ، 8 ] وهذا هو الّذي اختاره القفّال . وفي الآية أقوال أخر استقصاها الفخر .
وقد دلّت { ثمّ } على تراخي الفعلين المعطوفين بها عن الفعلين المعطوف عليهما وأنّ هنالك عَمَيَيْنِ وصَمَمَيْنِ في زمنين سابقٍ ولاحقٍ ، ومع ذلك كانت الضّمائر المتّصلة بالفعلين المعطوفين عينَ الضمائر المتّصلة بالفعلين المعطوف عليهما ، والّذي سوّغ ذلك أنّ المراد بيان تكرّر الأفعال في العصور وادّعاءُ أنّ الفاعل واحد ؛ لأنّ ذلك شأن الأخبار والصفات المثبتة للأمم والمسجّل بها عليهم تَوَارُثُ السجايا فيهم من حَسَن أو قبيح ، وقد علم أنّ الّذين عَمُوا وصَمُّوا ثانية غير الّذين عَمُوا وصَمُّوا أوّل مرّة ، ولكنّهم لمّا كانوا خلفاً عن سلف ، وكانوا قد أورَثُوا أخلاقهم أبناءَهم اعتُبروا كالشيء الواحد ، كقولهم : بنو فلان لهم تِرات مع بني فلان .
وقوله : { كثير منهم } بدل من الضّمير في قوله : { ثمّ عَمُوا وصَمّوا } ، قصد منه تخصيص أهل الفضل والصّلاح منهم في كلّ عصر بأنّهم بُرآء ممّا كان عليه دهماؤهم صدعاً بالحق وثناء على الفضل .
وإذ قد كان مرجع الضّميرين الأخيرين في قوله : { ثمّ عمُوا وصمّوا } هو عين مرجع الضميرين الأوّلين في قوله : { فَعَمُوا وصمّوا } كان الإبدال من الضميرين الأخيرين المفيدُ تخصيصاً من عمومهما ، مفيداً تخصيصاً من عموم الضميرين الّذين قبلهما بحكم المساواة بين الضّمائر ، إذ قد اعتُبرت ضمائر أمّة واحدة ، فإنّ مرجع تلك الضّمائر هو قوله { بني إسرائيل } [ المائدة : 70 ] . ومن الضّروري أنّه لا تخلوا أمّة ضالّة في كلّ جيل من وجود صالحين فيها ، فقد كان في المتأخّرين منهم أمثالُ عبد الله بن سَلام ، وكان في المتقدّمين يُوشَعُ وكالب اللّذيْن قال الله في شأنها { قال رجلان من الّذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب } [ المائدة : 23 ] .
وقوله : { والله بصير بما يعملون } تذييل . والبصير مبالغة في المُبصر ، كالحَكيم بمعنى المُحْكم ، وهو هنا بمعنى العَليم بكلّ ما يقع في أفعالهم الّتي من شأنها أن يُبصرها النّاس سواء ما أبصره النّاس منها أم مَا لم يبصروه ، والمقصود من هذا الخبر لازم معناه ، وهو الإنذار والتّذكير بأنّ الله لا يخفى عليه شيء ، فهو وعيد لهم على ما ارتكبوه بعد أن تاب الله عليهم .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وأبو جعفر { أن لا تكونَ } بفتح نون تكون على اعتبار ( أنْ ) حرف مصدر ناصب للفعل . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، ويعقوبُ ، وخَلَف بضم النّون على اعتبار ( أنْ ) مخفّفة من ( أنّ ) أخت ( إنّ ) المكسورةِ الهمزة ، وأنّ إذا خفّفت يبطل عملها المعتاد وتصير داخلة على جملة . وزعم بعض النّحاة أنّها مع ذلك عاملة ، وأنّ اسمها ملتزَم الحذف ، وأنّ خبرها ملتزم كونه جملة . وهذا توهّم لا دليل عليه . وزاد بعضهم فزعم أنّ اسمها المحذوف ضمير الشأن . وهذا أيضاً توهّم على توهّم وليس من شأن ضمير الشأن أن يكون مَحذوفاً لأنّه مجْتلب للتّأكيد ، على أنّ عدم ظهوره في أي استعمال يفنّد دعوى تقديره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وحسبوا ألا تكون فتنة}، يعني اليهود، حسبوا ألا يكون شرك ولا يبتلوا ولا يعاقبوا بتكذيبهم الرسل وبقتلهم الأنبياء، أن لا يبتلوا بالبلاء والشدة من قحط المطر، {فعموا} عن الحق، فلم يبصروه، {وصموا} عن الحق، فلم يسمعوه، {ثم تاب الله عليهم}، يقول: تجاوز عنهم، فرفع عنهم البلاء فلم يتوبوا بعد رفع البلاء، {ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون} من قتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى: وظنّ هؤلاء الإسرائيليون الين وصف تعالى ذكره صفتهم أنه أخذ ميثاقهم وأنه أرسل إليهم رسلاً، وأنهم كانوا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذّبوا فريقا وقتلوا فريقا، أن لا يكون من الله لهم ابتلاء واختبار بالشدائد من العقوبات بما كانوا يفعلون. فَعَمُوا وصَمّوا يقول: فعموا عن الحقّ والوفاء بالميثاق الذي أخذته عليهم من إخلاص عبادتي، والانتهاء إلى أمري ونهيي، والعمل بطاعتي بحسبانهم ذلك وظنهم، وصموا عنه. ثم تبت عليهم، يقول: ثم هديتهم بلطف مني لهم، حتى أنابوا ورجعوا عما كانوا عليهم من معاصيّ وخلاف أمري، والعمل بما أكرهه منهم إلى العمل بما أحبه، والانتهاء إلى طاعتي وأمري ونهيي. ثُمّ عَمُوا وصَمّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ يقول: ثم عموا أيضا عن الحقّ والوفاء بميثاقي الذي أخذته عليهم من العمل بطاعتي والانتهاء إلى أمري واجتناب معاصيّ، وَصمّوا كَثِيرٌ منهم يقول: عمي كثير من هؤلاء الذين كنت أخذت ميثاقهم من بني إسرائيل باتباع رسلي والعمل بما أنزلت إليهم من كتبي عن الحقّ، وصموا بعد توبتي عليهم واستنقاذي إياهم من الهلكة. وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ يقول: بصير فيرى أعمالهم خيرها وشرّها، فيجازيهم يوم القيامة بجميعها، إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {وحسبوا ألا تكون فتنة} ولم يبين ما الفتنة التي حسبوا ألا تكون؟ فأهل التأويل اختلفوا فيها: قال قائلون: الفتنة المحنة التي فيها الشدة؛ حسبوا ألا يأتيهم الرسل بامتحانهم على خلاف هواهم. بل جاءهم الرسل ليمتحنوا على خلاف ما أحدثوا من هوى أنفسهم. وقال بعضهم: قوله تعالى: {وحسبوا ألا تكون فتنة} أي هلاك وعذاب تكذيبهم الرسل وقصدهم قصد قتلهم. وقال ابن عباس رضي الله عنه ألا يكون شر. وقيل: {وحسبوا ألا تكون فتنة} أي حسبوا ألا يبتلوا بتكذيبهم الرسل وبقتلهم الأنبياء بالبلاء والقحط {فعموا} عن الهدى، فلم يبصروه {وصموا} عن الهدى فلم يسمعوا لما لم ينتفعوا به. [وقوله تعالى:] {ثم تاب الله} فدفع عنهم البلاء، فلم يتوبوا بعد وقع البلاء. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا} ما ذكره في آية أخرى، وهو قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن في الأرض مرتين ولتلعن علوا كبيرا} إلى قوله تعالى: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} الآية [الإسراء: 4 و5 و7]. تابوا مرة، ثم رجعوا، ثم تابوا. فذلك قوله تعالى: {فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا} الآية.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {ثم تاب الله عليهم}، ببعث عيسى عليه السلام. قوله تعالى: {ثم عموا وصموا كثير منهم}، بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {والله بصير بما يعملون}.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى في هذه الآية: وظن هؤلاء الكفرة والعصاة من بني إسرائيل أن لا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا وتمحيص فلجوا في شهواتهم وعموا فيها إذ لم يبصروا الحق شبهوا بالصم، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حبك الشيء يعمي ويصم».
وقوله تعالى: {ثم تاب الله عليهم} قالت جماعة من المفسرين: هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ورد ملكهم وحالهم، ثم عموا وصموا بعد ذلك حتى أخرجوا الخرجة الثانية ولم ينجبروا أبداً، وقالت جماعة ثم تاب الله عليهم ببعث عيسى عليه السلام إليهم، وقالت جماعة: توبته تعالى عليهم بعث محمد عليه السلام وخص بهذا العمى كثيراً منهم لأن منهم قليلاً آمن...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى:"وحسبوا ألا تكون فتنة" المعنى: ظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد، اغترارا بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وإنما اغتروا بطول الإمهال.
.. قوله تعالى: "فعموا "أي عن الهدى. "وصموا" أي عن سماع الحق؛ لأنهم لم ينتفعوا بما رأوه ولا سمعوه. "ثم تاب الله عليهم" في الكلام إضمار، أي أوقعت بهم الفتنة فتابوا فتاب الله عليهم بكشف القحط، أو بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الله يتوب عليهم إن آمنوا، فهذا بيان "تاب الله عليهم" أي يتوب عليهم إن آمنوا وصدقوا لا أنهم تابوا على الحقيقة. "ثم عموا وصموا كثير منهم" أي عمي كثير منهم وصم بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، فارتفع "كثير" على البدل من الواو...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والفتنة: الاختبار بالشدائد كتسلط الأمم القوية عليهم بالقتل والتخريب والاضطهاد، وقيل المراد بها القحط والجوائح؛ ولس بظاهر هنا. وإنما المتبادر أن المراد بما أجمل هنا هو ما جاء مفصلا في أوائل سورة الإسراء – التي تسمى سورة بني إسرائيل أيضا- من قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في كتاب: لتفسدن في الأرض مرتين} – إلى قوله – {عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا} [الإسراء:44] فالفساد مرتين هنالك هو المشار إليه هنا بقوله تعالى: {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ} أي فعموا عن آيات الله في كتبه الدالة على عقاب الله للأمم المفسدة الظالمة، وعن سننه في خلقه المصدقة لها، وصموا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها الرسل، وأنذروهم بها الرسل، وأنذروهم بها عقاب الله لمن نقض ميثاقه، وخرج عن هداية دينه، فاتبع هواه، وظلم نفسه الناس، فلما عموا وصموا وانهمكوا في الظلم والفساد، سلط الله تعالى عليهم البابليين فجاسوا خلال الديار وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا الأموال، وسبوا الأمة وسلبوا الملك والاستقلال، ثم رحمهم الله تعالى وتاب عليهم، وأعاد إليهم ملكهم وعزهم، ثم عموا وصموا مرة أخرى وعادوا إلى ظلمهم وإفسادهم في الأرض، وقتل الأنبياء بغير حق، فسلط الله تعالى عليهم الفرس ثم الروم (الرومانيين) فأزالوا ملكهم واستقلالهم. أما قوله تعالى: (كثير منهم) فهو بدل من فاعل عموا وصموا، أو هو الفاعل والواو علامة الجمع على لغة بعض العرب من الأزد التي يعبر النحاة بكلمة واحد من أهلها قال: (أكلوني البراغيث) والمراد أن عمى البصيرة والختم على السمع لم يكن عاما مستغرقا لكل فرد من أفرادهم، وإنما كان هو الكثير الغالب عليهم. وتقدم قريبا في تفسير {كثير منهم يعلمون} [المائدة: 66] بيان حكمة التدقيق في القرآن بنسبة الفساد للكثير أو الأكثر في الأمة. وإنما يعاقب الله الأمم بالذنوب إذا كثرت وشاعت فيها، لأن العبرة بالغالب، والقليل النادر لا تأثير له في الصلاح أو الفساد العام، ولذلك قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم} [الأنفال: 25] وهذا هو الواقع وعلته ظاهرة، وحكمته باهرة. {وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} الآن من الكيد لخاتم الرسل، فإتباع الهوى قد أعماهم وأصمهم مرة أخرى، فتركهم لا يبصرون ما جاء به من النور والهدى، وما هو عليه من النعوت والصفات التي أشار إليها النبيون في بشارتهم به، ولا يسمعون ما يتلو عليهم من الآيات، وما فيها من الحجج والبينات، وسيعاقبهم الله تعالى على ذلك بمثل ما عاقبهم على ما قبله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. والفتنة: مَرْج أحوال النّاس واضطرابُ نظامهم من جرّاء أضرار ومصائب متواليّة، وقد تقدّم تحقيقها عند قوله: {إنَّما نحن فتنة} في سورة البقرة (102). وهي قد تكون عقاباً من الله للنّاس جزاء عن سوء فعلهم أو تمحيصاً لصادق إيمانهم لتعلوَ بذلك درجاتهم {إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] الآية. وسمَّى القرآن هاروت وماروت فتنة، وسمَّى النبيءُ صلى الله عليه وسلم الدجّال فتنة، وسمَّى القرآن مزالّ الشيطان فتنة {لا يفتننّكم الشيطان} [الأعراف: 27]. فكان معنى الابتلاء ملازماً لها.
والمعنى: وظنّوا أنّ الله لا يُصيبهم بفتنة في الدّنيا جزاء على ما عاملوا به أنبياءهم، فهنالك مجرور مقدّر دالّ عليه السّياق، أي ظنّوا أن لا تنزل بهم مصائب في الدّنيا فأمنوا عقاب الله في الدّنيا بعد أن استخفّوا بعذاب الآخرة، وتوهّموا أنّهم ناجون منه، لأنّهم أبناء الله وأحبّاؤه، وأنّهم لن تمسّهم النّار إلاّ أياماً معدودة.
فمن بديع إيجاز القرآن أن أومأ إلى سوء اعتقادهم في جزاء الآخرة وأنّهم نبذوا الفكرة فيه ظهرياً وأنّهم لا يراقبون الله في ارتكاب القبائح، وإلى سوء غفلتهم عن فتنة الدّنيا وأنّهم ضالّون في كلا الأمرين.
ودلّ قوله: {وحَسبوا أن لا تكون فتنة} على أنّهم لو لم يحسبوا ذلك لارتدعوا، لأنّهم كانوا أحرص عَلى سلامة الدّنيا منهم على السلامة في الآخرة لانحطاط إيمانهم وضعف يقينهم. وهذا شأن الأمم إذا تطرّق إليها الخِذلان أن يفسد اعتقادهم ويختلط إيمانهم ويصير همّهم مقصوراً على تدبير عاجلتهم، فإذا ظنّوا استقامة العاجلة أغمضوا أعينهم عن الآخرة، فتطلّبوا السلامة من غير أسبابها، فأضاعوا الفوز الأبدي وتعلّقوا بالفوز العاجل فأساؤوا العمل فأصابهم العذابان العاجلُ بالفتنة والآجلُ.
واستعير {عَمُوا وصَمُّوا} للإعراض عن دلائل الرشاد من رسلهم وكتبهم لأنّ العمى والصمم يوقعان في الضلال عن الطريق وانعدام استفادة ما ينفع. فالجمع بين العمى والصمم جمع في الاستعارة بين أصناف حرمان الانتفاع بأفضلِ نافع، فإذا حصل الإعراض عن ذلك غلب الهوى على النّفوس، لأنّ الانسياق إليه في الجبلّة، فتجنّبه محتاج إلى الوازع، فإذا انعدم الوازع جاء سوء الفعل، ولذلك كان قوله: {فعموا وصمّوا} مراداً منه معناه الكنائي أيضاً، وهو أنّهم أساءوا الأعمال وأفسدوا، فلذلك استقام أن يعطف عليه قوله {ثُمّ تاب الله عليهم}. وقد تأكّد هذا المراد بقوله في تذييل الآية {والله بصير بما يعملون}.
وقوله: {ثُمّ تاب الله عليهم} أي بعد ذلك الضّلال والإعْراض عن الرّشد وما أعقبه من سوء العمل والفساد في الأرض.
وقد استفيد من قوله: {أن لا تكون فتنة} وقوله: {ثُمّ تاب الله عليهم} أنّهم قد أصابتهم الفتنة بعد ذلك العمى والصمم وما نشأ عنها عقوبة لهم، وأنّ الله لمّا تاب عليهم رفع عنهم الفتنة، {ثم عَمُوا وصموا}، أي عادوا إلى ضلالهم القديم وعملهم الذّميم، لأنّهم مصرّون على حُسبان أن لا تكون فتنة فأصابتهم فتنة أخرى.
وقد وقف الكلام عند هذا العمى والصمم الثّاني ولم يُذكر أنّ الله تاب عليهم بعده، فدلّ على أنّهم أعرضوا عن الحَقّ إعراضاً شديداً مرّة ثانية فأصابتهم فتنة لم يتب الله عليهم بعدها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولعل تقديم «عموا» على «وصمّوا» يعني أن عليهم أوّلا أن يبصروا آيات الله ومعجزات رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ يستمعوا إلى تعاليمه ويستوعبوها. وورود عبارة (كثير منهم) بعد تكرار (عموا وصمّوا) جاء لتوضيح أنّ حالة الغفلة والجهل والعمى والصمم تجاه الحقائق لم تكن عامّة، بل كان بينهم بعض الأقلية من الصالحين، وفي هذا دليل على أن تنديد القرآن باليهود لا ينطوي على أي جانب عنصري أو طائفي، بل هو موجّه إلى أعمالهم فحسب. هل أن تكرار عبارة (عموا وصمّوا) ذو طابع عام تأكيدي، أم للإِشارة إلى حادثتين مختلفتين؟ يرى بعض المفسّرين أنّ التكرار يشير إلى واقعتين مختلفتين حدثتا لبني إِسرائيل، الأولى: الغزو البابلي لهم، والثّانية: غزو الإِيرانيين والروم، والقرآن أشار إِليها بشكل عابر في بداية سورة بني إِسرائيل. ولا يستبعد أيضاً أنّ بني إِسرائيل قد تعرضوا مرات عديدة لهذه الحالات فحينما يشاهدون نتائج أعمالهم الشريرة، كانوا يتوبون، ثمّ ينقضون توبتهم، وقد حدث هذا عدّة مرّات لا مرّتين فقط. في نهاية الآية جملة قصيرة عميقة المعنى تقول: إنّ الله لا يغفل أبداً عن أعمالهم، إِذ أنّه يرى كل ما يعملون: (والله بصير بما يعملون).