( قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها ) . .
إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت و الجاهلية ، التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة للّه وحده ، والتي يتخذ الناس فيها أرباباً من دون اللّه يقرون لهم بسلطان اللّه . . إن الذي يعود إلى هذه الملة - بعد إذ قسم اللّه له الخير وكشف له الطريق ، وهداه إلى الحق ، وأنقذه من العبودية للعبيد - إنما يؤدي شهادة كاذبة على اللّه ودينه . شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة اللّه خيراً فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت ! أو مؤداها - على الأقل - أن لملة الطاغوت حقاً في الوجود ، وشرعية في السلطان ؛ وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان باللّه . فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن باللّه . . وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى ، ولم يرفع راية الإسلام . شهادة الاعتراف براية الطغيان . ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان اللّه في الحياة !
وكذلك يستنكر شعيب - عليه السلام - ما يتهدده به الطغاة من إعادته هو والذين آمنوا معه إلى الملة التي أنجاهم اللّه منها :
( وما يكون لنا أن نعود فيها ) . .
وما من شأننا أصلاً ؛ وما ينبغي لنا قطعاً أن نعود فيها . . يقولها وأمامه التهديد الذي يزاوله الطاغوت في كل أرض مع الجماعة المسلمة ، التي تعلن خروجها عن سلطانه ، ودينونتها للّه وحده بلا شريك معه أو من دونه .
إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة للّه وحده - مهما عظمت وشقت - أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت ! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة - مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق ! - إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة ! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته فهذه " الإنسانية " لا توجد ، والإنسان عبد للإنسان - وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان ؟ ! . . وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به ، ورضاه أو غضبه عليه ؟ ! . . وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته ؟ ! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان ؟ !
على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة . . إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس - في حكم الطواغيت - أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج . كما يكلفهم أولادهم إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات . فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها ، فيذبحهم على مذبح هواه ، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه ! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية . . حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت ، سواء في صورة الغصب المباشر - كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ - أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهباً مباحاً للشهوات تحت أي شعار ! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار . . والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون اللّه . إنما يعيش في وهم ، أو يفقد الإحساس بالواقع !
إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال . . ومهما تكن تكاليف العبودية للّه ، فهيأربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة . فضلاً على وزنها في ميزان اللّه . .
يقول السيد أبو الأعلى المودودي في كتاب : " الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية " :
" . . . وكل من له أدنى بصيرة بمسائل الحياة الإنسانية ، لا يخفى عليه أن المسألة - التي تتوقف عليها قضية صلاح الشؤون البشرية وفسادها - إنما هي مسألة زعامة الشؤون البشرية ومن بيده زمام أمرها . وذلك كما تشاهد في القطار أنه لا يجري إلا إلى الجهة التي يوجهه إليها سائقه ، وأنه لا بد للركاب أن يسافروا - طوعاً أو كرهاً - إلى تلك الجهة نفسها . فكذلك لا يجري قطار المدنية الإنسانية إلا إلى جهة يوجهه إليها من بأيديهم زمام أمر تلك المدنية . ومن الظاهر البين أن الإنسانية بمجموعها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تأبى السير على تلك الخطة التي رسمها لهم الذين بأيديهم وسائل الأرض وأسبابها طراً ، ولهم الهيمنة كل الهيمنة على أزمة الأمر ، وبيدهم السلطة المطلقة في تدبير شؤون الإنسانية ، وتتعلق بأذيالهم نفوس الجماهير وآمالهم ، وهم يملكون أدوات تكوين الأفكار والنظريات وصوغها في قوالب يحبونها ، وإليهم المرجع في تنشئة الطباع الفردية ، وإنشاء النظام الجماعي ، وتحديد القيم الخلقية . فإذا كان هؤلاء الزعماء والقواد ممن يؤمنون باللّه ويرجون حسابه . . فلا بد لنظام الحياة بأسره أن يسير على طريق من الخير والرشد والصلاح ، وأن يعود الخبثاء الأشرار إلى كنف الدين ويصلحوا شؤونهم . وكذلك تنمو الحسنات ويزكو غراسها ، وأقل ما يكون من تأثير المجتمع في السيئات أنها لا تربو . إن لم تمحق وتنقرض آثارها . وأما إذا كانت هذه السلطة - سلطة الزعامة والقيادة والإمامة - بأيدي رجال انحرفوا عن اللّه ورسوله ، واتبعوا الشهوات ، وانغمسوا في الفجور والطغيان ، فلا محالة أن يسير نظام الحياة بقضه وقضيضه على البغي والعدوان والفحشاء ، ويدب دبيب الفساد والفوضى في الأفكار والنظريات والعلوم والآداب والسياسة والمدنية والثقافة والعمران والأخلاق والمعاملات والعدالة والقانون برمتها ، وتنمو السيئات ويستفحل أمرها . . . "
. . . " والظاهر أن أول ما يطالب به دين اللّه عباده ، أن يدخلوا في عبودية الحق كافة مخلصين له الطاعة والانقياد ، حتى لا يبقى في اعناقهم قلادة من قلائد العبودية لغير اللّه تعالى . ثم يتطلب منهم ألا يكون لحياتهم قانون إلا ما أنزله اللّه تعالى ، وجاء به الرسول الأمي الكريم - [ ص ] - ثم إن الإسلام يطالبهم أن ينعدم من الأرض الفساد ، وتستأصل شأفة السيئات والمنكرات الجالبة على العباد غضب اللّه تعالى وسخطه . وهذه الغايات السامية لا يمكن أن يتحقق منها شيء ما دامت قيادة أبناء البشر وتسيير شؤونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال ؛ ولا يكون من أمر أتباع الدين الحق وأنصاره إلا أن يستسلموا لأمر هؤلاء وينقادوا لجبروتهم ، يذكرون اللّه قابعين في زواياهم ، منقطعين عن الدنيا وشؤونها ، مغتنمين ما يتصدق به هؤلاء الجبابرة عليهم من المسامحات والضمانات ! ومن هنا يظهر ما للإمامة الصالحة وإقامة نظام الحق من أهمية خطيرة تجعلها من غايات الدين وأسسه . والحق أن الإنسان لا يمكنه أن يبلغ رضي اللّه تعالى بأي عمل من أعماله إذا تناسى هذه الفريضة وتقاعس عن القيام بها . . ألم تروا ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر الجماعة ولزومها والسمع والطاعة ، حتى إن الإنسان ليستوجب القتل إذا خرج من الجماعة - ولو قيد شعرة - وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم . وهل لذلك من سبب سوى أن غرض الدين الحقيقي وهدفه إنما هو إقامة نظام الحق ، والإمامة الراشدة وتوطيد دعائمه في الأرض . وكل ذلك يتوقف تحققه على القوة الجماعية ، والذي يضعضع القوة الجماعية ويفت في عضدها ، يجني على الإسلام وأهله جناية لا يمكن جبرها وتلافيها بالصلاة ولا بالإقرار بكلمة التوحيد . . ثم انظروا إلى ما كسب " الجهاد " من المنزلة العالية والمكانة الرفيعة في الدين ، حتى إنالقرآن ليحكم " بالنفاق " على الذين ينكلون عنه ويثاقلون إلى الأرض . ذلك أن " الجهاد " هو السعي المتواصل والكفاح المستمر في سبيل إقامة نظام الحق ، ليس غير . وهذا الجهاد هو الذي يجعله القرآن ميزاناً يوزن به إيمان الرجل وإخلاصه للدين . وبعبارة أخرى أنه من كان يؤمن باللّه ورسوله لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل ، أو يقعد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة نظام الحق . . فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب ، فاعلم أنه مدخول في إيمانه ، مرتاب في أمره ، فكيف ينفعه عمل من أعماله بعد ذلك ؟ " . . .
. . . " إن إقامة الإمامة الصالحة في أرض اللّه لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام . فكل من يؤمن باللّه ورسوله ويدين دين الحق ، لا ينتهي عمله بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام ، ولا تبرأ ذمته من ذلك فحسب ، بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكافرين والفجرة والظالمين حتى يتسلمه رجال ذوو صلاح ممن يتقون اللّه ، ويرجون حسابه ، ويقوم في الأرض ذلك النظام الحق المرضيّ عند اللّه الذي به صلاح أمور الدنيا وقوام شؤونها " . .
إن الإسلام حين يدعو الناس إلى انتزاع السلطان من أيدي غاصبيه من البشر ورده كله للّه ، إنما يدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم وتحرير رقابهم من العبودية للعبيد ؛ كما يدعوهم إلى إنقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم . . إنه يكلفهم أعباء المعركة مع الطاغوت - تحت رايته - بكل ما فيها من تضحيات ؛ ولكنه ينقذهم من تضحيات أكبر وأطول ، كما أنها أذل وأحقر ! . . إنه يدعوهم للكرامة ، وللسلامة ، في آن . .
لذلك قالها شعيب عليه السلام مدوية حاسمة :
( قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها ، وما يكون لنا أن نعود فيها )
ولكن شعيباً بقدر ما يرفع رأسه ، وبقدر ما يرفع صوته ، في مواجهة طواغيت البشر من الملأ الذين استكبروا من قومه . . بقدر ما يخفض هامته ، ويسلم وجهه في مواجهة ربه الجليل ، الذي وسع كل شيء علماً . فهو في مواجهة ربه ، لا يتألى عليه ولا يجزم بشيء أمام قدره ، ويدع له قياده وزمامه ، ويعلن خضوعه واستسلامه :
( إلا أن يشاء اللّه ربنا ، وسع ربنا كل شيء علماً ) . .
إنه يفوض الأمر للّه ربه ، في مستقبل ما يكون من أمره وأمر المؤمنين معه . . إنه يملك رفض ما يفرضه عليه الطواغيت ، من العودة في ملتهم ؛ ويعلن تصميمه والمؤمنين معه على عدم العودة ؛ ويعلن الاستنكار المطلق للمبدأ ذاته . . ولكنه لا يجزم بشيء عن مشيئة اللّه به وبهم . . فالأمر موكول إلى هذه المشيئة ، وهو والذين آمنوا معه لا يعلمون ، وربهم وسع كل شيء علماً . فإلى علمه ومشيئته تفويضهم واستسلامهم .
إنه أدب ولي اللّه مع اللّه . الأدب الذي يلتزم به أمره ، ثم لا يتألى بعد ذلك على مشيئته وقدره . ولا يتأبى على شيء يريده به ويقدره عليه .
وهنا يدع شعيب طواغيت قومه وتهديدهم ووعيدهم ، ويتجه إلى وليه بالتوكل الواثق ، يدعوه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق :
( على اللّه توكلنا . ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق . وأنت خير الفاتحين ) . .
وهنا نشهد ذلك المشهد الباهر : مشهد تجلي حقيقة " الألوهية " في نفس ولي اللّه ونبيه . .
إنه يعرف مصدر القوة ، وملجأ الأمان . ويعلم أن ربه هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والطغيان . ويتوكل على ربه وحده في خوض المعركة المفروضة عليه وعلى المؤمنين معه ، والتي ليس منها مفر . إلا بفتح من ربه ونصر .
فصل جملة { قال . . } لوقوعها في سياق المحاورة .
والاستفهام مستعمل في التعجب تعجباً من قولهم : { أو لتعودن في ملّتنا } المؤذنِ ما فيه من المؤكّدات بأنّهم يُكرهونهم على المصير إلى ملّة الكفر ، وذلك التعجب تمهيد لبيان تصميمه ومن معه على الإيمان ، ليعلم قومه أنّه أحاط خبراً بما أرادُوا من تخييره والمؤمنين معه بين الأمرين : الإخراج أو الرجوع إلى ملّة الكفر ، شأنَ الخصم اللبيب الذي يأتي في جوابه بما لا يغادر شيئاً مما أراده خصمه في حوارِه ، وفي كلامه تعريض بحماقة خصومه إذ يحاولون حمله على ملّتهم بالإكراه ، مع أن شأن المُحقّ أن يشرك للحق سلطانه على النفوس ولا يتوكّأ على عصا الضّغط والإكراه ، ولذا قال الله تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ } [ البقرة : 256 ] . فإن التزام الدين عن إكراه لا يأتي بالغرض المطلوب من التّديّن وهو تزكية النفس وتكثير جند الحق والصلاح المطلوب .
والكاره مشتق من كره الذي مصدره الكَرهُ بفتح الكاف وسكون الراء وهو ضد المحبة ، فكاره الشيء لا يدانيه إلاّ مغصوباً ويقال للغصب إكراه ، أي مُلجَئين ومغصوبين وتقدم في قوله تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كُرهٌ لكم } في سورة البقرة ( 216 ) .
و ( لو ) وصلية تفيد أن شرطها هو أقصى الأحوال التي يحصل معها الفعل الذي في جوابها ، فيكون ما بعدها أحرى بالتعجب . فالتقدير : أتعيدوننا إلى ملّتكم ولو كنا كارهين . وقد تقدم تفصيل ( لو ) هذه عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة آل عمران ( 91 ) . وتقدم معنى الواو الداخلة عليها وأنها واو الحال .
واستأنف مرتقياً في الجواب ، فبيّن استحالة عودهم إلى ملّة الكفر بأن العود إليها يستلزم كذبَه فيما بلّغه عن الله تعالى من إرساله إليهم بالتوحيد فذلك كذب على الله عن عمد ، لأن الذي يرسله الله لا يرجع إلى الكفر ، ويستلزم كذب الذين آمنوا به على الله حيث أيقنوا بأن شعيباً مبعوث من الله بما دلهم على ذلك من الدلائل ، ولذلك جاء بضمير المتكلّم المشارك في كل من قوله : { افترينا } و { عدنا } و { نجانا } و { نعود } و { ربُنا } و { توكّلنا } .
والربط بين الشرط وجوابه ربط التّبيّن والانكشاف . لأنه لا يصح تعليق حصول الافتراء بالعود في ملة قومه ، فإن الافتراء المفروض بهذا المعنى سابق متحقق وإنّما يكشفه رجوعهم إلى ملّة قومهم ، أي إنْ يَقع عودنا في ملتكم فقد تبين أننا افترينا على الله كذباً ، فالماضي في قوله : { افترينا } ماض حقيقي كما يقتضيه دخول { قد } عليه ، وتقديمه على الشرط لأنه في الحالتين لا تقلبه ( إن ) للاستقبال ، أما الماضي الواقع شرطاً ل ( إن ) في قوله : { إن عدنا } فهو بمعنى المستقبل لأن ( إنْ ) تقلب الماضي للمستقبل عكس ( لم ) .
وقوله : { بعد إذ نجّانا الله منها } على هذا الوجه ، معناه : بعد إذ هدانا الله للدين الحق الذي اتبعناه بالوحي فنجانا من الكفر ، فذكر الإنجاء لدلالته على الإهداء والإعلان بأن مفارقة الكفر نجاة ، فيكون في الكلام إيجاز حذف أو كناية .
وهذه البعدية ليست قيداً ل { افترينا } ولا هي موجب كون العود في ملّتهم دالاً على كذبه في الرسالة ، بل هذه البعدية متعلقة ب { عُدْنَا } يقصد منها تفظيع هذا العود وتأييس الكافرين من عود شعيب وأتباعه إلى ملّة الكفر ، بخلاف حالهم الأولى قبلَ الإيمان فإنهم يوصفون بالكفر لا بالافتراء إذ لم يظهر لهم وجه الحق ، ولذلك عقبه بقوله : { وما يكون لنا أن نعود فيها } أي لأن ذلك لا يقصده العاقل فيلقي نفسه في الضلال والتعرض للعذاب .
وانتصاب { كذباً } على المفعولية المطلقة تأكيداً ل { افترينا } بما هو مساو له أو أعم منه ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة المائدة ( 103 ) .
وقد رَتّب على مقدمة لزوم الافتراء نتيجةَ تأييس قومه من أن يعود المؤمنون إلى ملّة الكفر بقوله : { وما يكون لنا أن نعود فيها } فنفي العود نفياً مؤكداً بلام الجحود وقد تقدم بيان تأكيد النفي بلام الجحود في قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الخ في سورة آل عمران ( 79 ) .
وقوله : { إلاّ أن يشاء الله ربّنا } تأدب مع الله وتفويضُ أمره وأمرِ المؤمنين إليه ، أي : إلاّ أن يقدّر الله لنا العود في ملّتكم فإنّه لا يسأل عمّا يفعل ، فأمَا عود المؤمنين إلى الكفرِ فممكن في العقل حصوله وليس في الشرعِ استحَالته ، والارتداد وقع في طوائف من أمم .
وأمّا ارتداد شعيب بعد النبوءَةِ فهو مستحيل شرعاً لعصمة الله للأنبياء ، فلو شاء الله سلب العصمة عن أحد منهم لمَا ترتّب عليه محال عقلاً ، ولكنه غير ممكن شرعاً ، وقد علمتَ آنفاً عصمة الأنبياء من الشرك قبل النبوءة فعصمتهم منه بعد النبوءة بالأولى ، قال تعالى : { لئن أشركت ليحبطَن عملك } [ الزمر : 65 ] على أحد التأويلين .
وفي قول شعيب : { إلاّ أنْ يشاء الله ربّنا } تقييدُ عدم العود إلى الكفر بمشيئة الله ، وهو يستلزم تقييد الدوام على الإيمان بمشيئة الله ، لأن عدم العود إلى الكفر مساو للثبات على الإيمان ، وهو تقييد مقصود منه التأدب وتفويض العلم بالمستقبل إلى الله ، والكناية عن سؤال الدوام على الإيمان من الله تعالى كقوله : { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } [ آل عمران : 8 ] .
ومن هنا يستدل لقول الأشعري وجماعةٍ على رأسهم محمد بن عبدوس الفقيه المالكي الجليل أن المسلم يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، لأنّه لا يعلم ما يُختم له به ، ويضعف قول الماتريدي وطائفةٍ من علماء القيروان على رأسهم محمد بن سحنون أن المسلم لا يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، لأنّه متحقق أنه مؤمن فلا يقول كلمة تنبىء عن الشك في إيمانه .
وقد تطاير شرر الخلاف بين ابن عبدوس وأصحابه من جهة ، وابن سحنون وأصحابه من جهة ، في القيروان زماناً طويلاً ورمى كل فريق الفريق الآخر بما لا يليق بهما ، وكان أصحاب ابن سحنون يدْعون ابنَ عبدوس وأصحابَه الشكوكية وتلقفت العامة بالقيروان هذا الخلاف على غير فهم فربما اجْتروا على ابن عبدوس وأصحابه اجتراء وافتراء ، كما ذكره مفصلاً عياض في « المدارك » في ترجمة محمد بن سحنون ، وترجمة ابن النبّان ، والذي حقّقه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد وعياض أن الخلاف لفظي : فإن كان يقول : إن شاء الله ، وسريرتُه في الإيمان مثلُ علانيته فلا بأس بذلك ، وإن كان شكاً فهو شك في الإيمان ، وليس ذلك ما يريده ابن عبدوس ، وقد قال المحققون : أن الخلاف بين الأشعري والماتريدي في هذه المسألة من الخلاف اللفظي ، كما حقّقه تاج الدين السبكي في « منظومته النونية » ، وتبعه تلميذه نور الدين الشيرازي في « شرحه » . ومما يجب التنبيه له أن الخلاف في المسألة إنما هو مفروض في صحّة قول المؤمن : أنا مؤمن إن شاء الله ، وأن قوله ذلك هل ينبىء عن شكه في إيمانه ، وليس الخلاف في أنّه يجب عليه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله ، عند القائلين بذلك ، بدليل أنهم كثيراً ما يقابلون قول القائلين بالمشيئة بقول الآخرين : أنا مؤمن عند الله ، فرجعت المسألة إلى اختلاف النظر في حالة عقد القلب مع ما هو في علم الله من خاتمته ، وبذلك سهل إرجاع الخلاف إلى الخلاف اللفظي .
والإتيان بوصف الرب وإضافتُه إلى ضمير المتكلم المشارَك : إظهار لحضرة الإطلاق ، وتعريض بأن الله مولى الذين آمنوا .
والخلاف بيننا وبين المعتزلة في جواز مشيئة الله تعالى الكفرَ والمعاصي خلاف ناشىء عن الخلاف في تحقيق معنى المشيئة والإرادة ، ولكلا الفريقين اصطلاح في ذلك يخالف اصطلاح الآخر ، والمسألة طفيفة وإن هوّلها الفريقان ، واصطلاحنا أسعد بالشريعة وأقرب إلى اللغة ، والمسألة كلها من فروع مسألة التكليف وقدرة المكلف .
وقوله : { وسعَ ربنا كل شيء علْماً } تفويض لعلم الله ، أي إلاّ أن يشاء ذلك فهو أعلم بمراده منا ، وإعادة وصف الربوبية إظهار في مقام الإضمار لزيادة إظهار وصفه بالربوبية ، وتأكيد التعريض المتقدم ، حتى يصير كالتصريح .
وانتصب { علماً } على التمييز المحول عن الفاعل لقصد الإجمال ثم التفصيل للاهتمام .
وانتصب { كل شيء } على المفعول به ل { وَسعَ } ، أي : وسع علم ربنا كل شيء .
والسعة : مستعملة مجازاً في الإحاطة بكل شيء لأن الشيء الواسع يكون أكثر إحاطة .
وفي هذه المجادلة إدماج تعليم بعض صفات الله لأتْباعه وغيرهم على عادة الخطباء في انتهاز الفرصة .
ثم أخبر بأنه ومَن تبعه قد توكلوا على الله ، والتوكل : تفويض مباشرة صلاح المرء إلى غيره ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في آل عمران ( 159 ) ، وهذا تفويض يقتضي طلب الخير ، أي : رجونا أن لا يسلبنا الإيمان الحق ولا يفسد خلق عقولنا وقلوبنا فلا نفتن ونضل ، ورجونا أن يكفينا شر من يُضمر لنا شراً وذلك شر الكفرة المضمر لهم ، وهو الفتنة في الأهل بالإخراج ، وفي الدين بالإكراه على اتباع الكفر .
وتقديم الجار والمجرور على فعل { توكلنا } لإفادة الاختصاص تحقيقاً لمعنى التوحيد ونبذ غير الله ، ولمَا في قوله : { على الله توكلنا } من التفويض إليه في كفايتهم أمر أعدائهم ، صرح بما يزيد ذلك بقوله : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } . وفسروا الفتح هنا بالقضاء والحكم ، وقالوا : هو لغة أزد عمان من اليمن ، أي احكم بيننا وبينهم ، وهي مأخوذة من الفتح بمعنى النصر لأن العرب كانوا لا يتحاكمون لغير السيف ، ويحسبون أن النصر حُكم الله للغالب على المغلوب .
وقوله : { وأنت خير الفاتحين } هو كقوله : { وهو خير الحاكمين } [ الأعراف : 87 ] ، أي وأنت خير الناصرين ، وخير الحاكمين هو أفضل أهل هذا الوصف ، وهو الذي يتحقق فيه كمال هذا الوصف فيما يقصد منه وفي فائدته بحيث لا يشتبه عليه الحق بالباطل ولا تروج عليه الترهات . والحكام مراتب كثيرة ، فتبين وجه التفضيل في قوله : { وهو خير الحاكمين } [ الأعراف : 87 ] وكذلك القياس في قوله : { خير الناصرين } [ آل عمران : 150 ] و { خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] وقد تقدم في سورة آل عمران ( 150 ) : { بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال لهم شعيب: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم} الشرك، يعني إن دخلنا في دينكم، {بعد إذ نجانا الله منها}، يقول: بعد إذ لم يجعلنا الله من أهل ملتكم الشرك. {وما يكون لنا أن نعود فيها}، وما ينبغي لنا أن ندخل في ملتكم الشرك، {إلا أن يشاء الله ربنا}، فيدخلنا في ملتكم، {وسع}، يعني ملأ {ربنا كل شيء علما} فعَلِمه. {على الله توكلنا}، لقولهم لشعيب: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا، ثم قال شعيب: {ربنا افتح}، يعني: اقض {بيننا وبين قومنا بالحق}، يعني بالعدل في نزول العذاب بهم، {وأنت خير الفاتحين}، يعني القاضين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال شعيب لقومه، إذ دعوه إلى العود إلى ملتهم والدخول فيها، وتوعدوه بطرده ومن اتبعه من قريتهم إن لم يفعل ذلك هو وهم:" قَدِ افْتَرَيْنا على اللّهِ كَذِبا "يقول: قد اختلقنا على الله كذبا، وتخرّصنا عليه من القول باطلاً إن نحن عدنا في ملتكم، فرجعنا فيها بعد إذ أنقذنا الله منها، بأن بصّرنا خطأها وصواب الهدى الذي نحن عليه، وما يكون لنا أن نرجع فيها فندينَ بها ونترك الحقّ الذي نحن عليه.
" إلا أنْ يَشاءَ اللّهُ رَبّنا": إلا أن يكون سبق لنا في علم الله أنا نعود فيها، فيمضيَ فينا حينئذ قضاء الله، فينفذ مشيئته علينا.
"وَسِعَ رَبّنا كُلّ شَيْءٍ عِلْما" يقول: فإن علْمَ ربنا وسع كل شيء فأحاط به، فلا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن فإن يكن سبق لنا في علمه أنا نعود في ملتكم ولا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن، فلا بد من أن يكون ما قد سبق في علمه، وإلا فإنا غير عائدين في ملتكم...
" على اللّهِ تَوَكّلْنا" يقول: على الله نعتمد في أمورنا وإليه نستند فيما تَعِدوننا به من شرككم أيها القوم، فإنه الكافي من توكل عليه.
ثم فزع صلوات الله عليه إلى ربه بالدعاء على قومه، إذ أيس من فلاحهم، وانقطع رجاؤه من إذعانهم لله بالطاعة والإقرار له بالرسالة، وخاف على نفسه وعلى من اتبعه من مؤمني قومه من فَسَقِتهم العطب والهلكة بتعجيل النقمة، فقال: "رَبّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبينَ قَوْمِنا بالحَقّ" يقول: احكم بيننا وبينهم بحكمك الحقّ الذي لا جور فيه ولا حيف ولا ظلم، ولكنه عدل وحقّ. "وأنْتَ خَيْرُ الفاتِحِينَ" يعني: خير الحاكمين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما يكون لنا أن نعود فيها} أي ما يجوز لنا أن نعود فيها.
وقول شعيب: {قد افترينا على الله كذبا} تعريض بتسفيه منه إياهم أنكم قد افتريتم على الله كذبا] لا تصريح حين لم يقل: قد افتريتم أنتم على الله كذبا. ولكن قال: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملّتكم} وذلك منه تلطّف بهم وترفّق.
وقوله تعالى: {إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما}:... فإنه على حقيقة المشيئة؛ وذلك أن من علم منه أنه يكفر، ويؤثر ذلك على فعل الإيمان والطاعة يشاء ذلك له على ما علم أنه يختار، ومن علم منه أنه لا يختار ذلك لا يشاء؛ إذ لا يجوز أن يعلم منه غير الذي يكون، أو أن يشاء غير الذي يكون، أو أن يشاء غير الذي علم أنه منه لأنه جهل، وعجز. وأصله أن شعيبا خاف، إن سبق منه زلّة أو تقصير منه، الاختيار لذلك، فيشاء الله بذلك الزّيغ والضلال. وكذلك جميع الأنبياء خافوا ذلك كقول إبراهيم عليه السلام حين قال: {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا} [الأنعام: 80] وقول يوسف حين قال: {إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء} [يوسف: 76] كان خوف الأنبياء عليهم السلام أكثر من خوف غيرهم. وقوله تعالى: {وسع ربنا كل شيء علما} معناه، والله أعلم: أنه لا نعلم إلى ماذا تصير عاقبة أمرنا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
نطقوا عن صحة عزائمهم حيث قالوا: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم}، ثم أقروا بالشكر حيث قالوا: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا}، ثم تبرأوا عن حولهم وقوتهم حيث قالوا: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا} يعني إِنْ يُلْبِسنا لِباسَ الخذلان نُرَدُّ إلى الصغر والهوان. ثم اشتاقوا إلى جميل التوكل فقالوا: {عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا} أي به وَثِقْنَا، ومنه الخيرَ أَمَّلْنا. ثم فوضوا أمورهم إلى الله فقالوا: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ} فتداركهم الحقُّ -سبحانه- عند ذلك بجميل العصْمة وحسن الكفاية...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... فإن قلت: فما معنى قوله {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله} والله تعالى متعال أن يشاء ردّة المؤمنين وعودهم في الكفر؟ قلت: معناه إلاّ أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الألطاف، لعلمه أنها لا تنفع فينا وتكون عبثاً. والعبث قبيح لا يفعله الحكيم، والدليل عليه قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} أي هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل، وقلوبهم كيف تتقلب؛ وكيف تقسو بعد الرقة، وتمرض بعد الصحة، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان. {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان. ويجوز أن يكون قوله: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} حسماً لطمعهم في العود؛ لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة. {أَوَلوْ كُنَّا كارهين} الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال، تقديره: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، ومع كوننا كارهين. وما يكون لنا، وما ينبغي لنا. وما يصحّ لنا {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا} احكم بيننا. والفتاحة؛ الحكومة، أو أظهر أمرنا حتى يتفتح ما بيننا {وَبَيْنَ قَوْمِنَا} وينكشف بأن تنزل عليهم عذاباً يتبين معه أنهم على الباطل {وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} كقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} [يونس: 159].
فإن قلت: كيف أسلوب قوله: {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ}؟ قلت: هو إخبار مقيد بالشرط، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب، كأنهم قالوا: ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام. لأنّ المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر، لأنّ الكافر مفتر على الله الكذب. حيث يزعم أن لله نداً ولا ندّ له. والمرتدّ مثله في ذلك وزائد عليه، حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل. والثاني: أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام، بمعنى: والله لقد افترينا على الله كذباً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... والخلاصة أنه عليه السلام بدأ جوابه للملأ من قومه بالتعجب من تهديدهم وإنذارهم، وإقامة الأدلة الدينية والعقلية على امتناع عودهم إلى ملة الكفر باختيارهم. وعدم استطاعة أحد على إجبارهم عليه غير الله تعالى الفعال لما يريد، والاستدلال على أن هذا مما لا يريده – وثنى ببيان توكلهم على الله تعالى الذي يكفي من توكل عليه ما أهمه وهو فوق كسبه واختياره، فتجتمع له العناية الكسبية والوهبية – ثم ثلث بالدعاء الذي لا يكون شرعيا مرجوّ الإجابة إلا بعد القيام بما في الطاقة من العمل الكسبي، والتوكل القلبي، فقال:
{ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين} المعنى لمادة (الفتح) كما حققه الراغب إزالة الإغلاق والإشكال، وهو ضربان أحدهما: ما يدرك بالبصر كفتح العين والقفل والغلق والمتاع من صندوق وغرارة وخرج وعلبة، والثاني: هو ما يدرك بالبصيرة كفتح أبواب الرزق، والمغلق من مسائل العلم، والمبهم من قضايا الحكم، والنصر في وقائع الحرب، وفي آيات القرآن استعمالات من الضربين كليهما، ولك أن تقسمه إلى حسي ومعنوي – ومن الأول الفتح الذي يكون بالكلام كحكم القاضي، وفتح المأموم على الإمام في الصلاة وهو أن يقرأ الآية التي أخطأ فيها أو وقف عن القراءة ناسيا لما بقي منها – وإلى حقيقي ومجازي، ومن مجاز الأساس: فتح على فلان إذا جُد وأقبلت عليه الدنيا، وفتح الله عليه- نصره. وفتح الحاكم بينهم..
وعن ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله تعالى: {ربّنا افتح بيننا وبين قومنا} [الأعراف: 89] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعالى أفاتحك. وقالت أعرابية لزوجها بيني وبينك الفتاح اه. وأثر ابن عباس أخرجه قدماء التفسير المأثور وابن الأنباري في الوقف والابتداء والبيهقي في الأسماء والصفات وفسر المفاتحة فيه بالمقاضاة...
والمناسب أن كل فتح بين فريقين فهو بمعنى الحكم والفصل بينهما إما بالقول والفعل أو بأحدهما، ومنه النصر، ومن الآيات فيه: {قل يجمع بيننا ربّنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم} [سبأ: 26] ومنها حكاية عن نوح عليه السلام: {فافتح بيني وبينهم فتحا ونجّني ومن معي من المؤمنين} [الشعراء: 118] وهذا عين مراد شعيب عليه السلام في دعائه الملاقي لإنذاره قبله بقوله: {حتى يحكم الله} الخ.
والمعنى: ربنا احكم وافصل بيننا وبين قومنا بالحق الذي مضت به سنتك في التنازع بين المرسلين والكافرين، وبين سائر المحقين المصلحين، والمبطلين المفسدين في الأرض، وأنت خير الحاكمين، لإحاطة علمك بما يقع به التخاصم وتنزهك عن الظلم، واتباع الهوى في الحكم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت و الجاهلية، التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة للّه وحده، والتي يتخذ الناس فيها أرباباً من دون اللّه يقرون لهم بسلطان اللّه.. إن الذي يعود إلى هذه الملة -بعد إذ قسم اللّه له الخير وكشف له الطريق، وهداه إلى الحق، وأنقذه من العبودية للعبيد- إنما يؤدي شهادة كاذبة على اللّه ودينه. شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة اللّه خيراً فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت! أو مؤداها -على الأقل- أن لملة الطاغوت حقاً في الوجود، وشرعية في السلطان؛ وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان باللّه. فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن باللّه.. وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى، ولم يرفع راية الإسلام. شهادة الاعتراف براية الطغيان. ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان اللّه في الحياة! وكذلك يستنكر شعيب -عليه السلام- ما يتهدده به الطغاة من إعادته هو والذين آمنوا معه إلى الملة التي أنجاهم اللّه منها: (وما يكون لنا أن نعود فيها)...
. وما من شأننا أصلاً؛ وما ينبغي لنا قطعاً أن نعود فيها.. يقولها وأمامه التهديد الذي يزاوله الطاغوت في كل أرض مع الجماعة المسلمة، التي تعلن خروجها عن سلطانه، ودينونتها للّه وحده بلا شريك معه أو من دونه...
قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها، وما يكون لنا أن نعود فيها) ولكن شعيباً بقدر ما يرفع رأسه، وبقدر ما يرفع صوته، في مواجهة طواغيت البشر من الملأ الذين استكبروا من قومه.. بقدر ما يخفض هامته، ويسلم وجهه في مواجهة ربه الجليل، الذي وسع كل شيء علماً. فهو في مواجهة ربه، لا يتألى عليه ولا يجزم بشيء أمام قدره، ويدع له قياده وزمامه، ويعلن خضوعه واستسلامه: (إلا أن يشاء اللّه ربنا، وسع ربنا كل شيء علماً).. إنه يفوض الأمر للّه ربه، في مستقبل ما يكون من أمره وأمر المؤمنين معه.. إنه يملك رفض ما يفرضه عليه الطواغيت، من العودة في ملتهم؛ ويعلن تصميمه والمؤمنين معه على عدم العودة؛ ويعلن الاستنكار المطلق للمبدأ ذاته.. ولكنه لا يجزم بشيء عن مشيئة اللّه به وبهم.. فالأمر موكول إلى هذه المشيئة، وهو والذين آمنوا معه لا يعلمون، وربهم وسع كل شيء علماً. فإلى علمه ومشيئته تفويضهم واستسلامهم. إنه أدب ولي اللّه مع اللّه. الأدب الذي يلتزم به أمره، ثم لا يتألى بعد ذلك على مشيئته وقدره. ولا يتأبى على شيء يريده به ويقدره عليه. وهنا يدع شعيب طواغيت قومه وتهديدهم ووعيدهم، ويتجه إلى وليه بالتوكل الواثق، يدعوه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق: (على اللّه توكلنا. ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق. وأنت خير الفاتحين).. وهنا نشهد ذلك المشهد الباهر: مشهد تجلي حقيقة "الألوهية "في نفس ولي اللّه ونبيه.. إنه يعرف مصدر القوة، وملجأ الأمان. ويعلم أن ربه هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والطغيان. ويتوكل على ربه وحده في خوض المعركة المفروضة عليه وعلى المؤمنين معه، والتي ليس منها مفر. إلا بفتح من ربه ونصر...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله: {إلاّ أن يشاء الله ربّنا} تأدب مع الله وتفويضُ أمره وأمرِ المؤمنين إليه، أي: إلاّ أن يقدّر الله لنا العود في ملّتكم فإنّه لا يسأل عمّا يفعل، فأمَا عود المؤمنين إلى الكفرِ فممكن في العقل حصوله وليس في الشرعِ استحَالته، والارتداد وقع في طوائف من أمم. وأمّا ارتداد شعيب بعد النبوءَةِ فهو مستحيل شرعاً لعصمة الله للأنبياء، فلو شاء الله سلب العصمة عن أحد منهم لمَا ترتّب عليه محال عقلاً، ولكنه غير ممكن شرعاً، وقد علمتَ آنفاً عصمة الأنبياء من الشرك قبل النبوءة فعصمتهم منه بعد النبوءة بالأولى.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ويؤكد لهم شعيب أن مطلبهم العود لن يكون أبدا، فمهما حاولتم الإيذاء والتهديد فيقول – عليه السلام – لهم: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا} (قد) هنا للتحقيق كما هي في كل استعمالات القرآن الكريم، سواء أدخلت على فعل ماض أم دخلت على فعل مستقبل {افترينا على الله كذبا} أن نعود إلى ملتكم أي كذبنا على الله تعالى كذبا مقصودا متعمدا إذا عرفنا الحق، واعتنقناه، ثم كفرناه، وأكد – عليه السلام – هذا المعنى بقوله: {بعد إذ نجانا الله منها} أي بعد نجاتنا، وإخراجنا من الضلال إلى نور الهداية، ثم قال: -عليه السلام – مؤكدا عدم العود: {وما يكون لنا أن نعود فيها} أي ليس لنا بعد أن رأينا النور وسرنا فيه، أن نعود إلى الظلمة، {إلا أن يشاء ربنا} أي إلا أن يريد ربنا وخالقنا لنا الضلالة بعد
الهداية، ويكون ذلك بعمل منا، ثم صرح – عليه السلام – بالتفويض لله تعالى فقال: {وسع ربنا كل شيء علما} وعما هنا تمييز محمول عن مفعول، ومعناه وسع ربنا علم كل شيء، فهو يعلم ما كان وما يكون، وما هو كائن ثابت، ولذا لا يتوكل إلا على الله {على الله توكلنا} وذلك رد لتهديدهم بالإخراج، فالله ربنا عليه توكلنا، ولن يغلبه تهديدكم، فإذا كنتم تستعينون بجبروتكم وكبريائكم، وغطرستكم، فنحن نعتمد على الله، ومع ذلك تذهب رحمة النبوة إلى تجنب العداوة والاتجاه إلى الله تعالى الذي يعلم الحق كله: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق}، أي افصل بيننا وبين قدمنا بالحق، {وأنت خير الفاتحين}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي الآية اللاحقة يواصل شعيب قوله: (قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها).
إن هذه الجملة في الحقيقة توضيح للجملة السابقة المجملة، ومفهوم هذه الجملة هو: نحن لم نترك الوثنية بدافع الهوى والهوس، بل أدركنا بطلان هذه العقيدة بجلاء، وسمعنا الأمر الإِلهي في التوحيد بأُذن القلب، فإذا عدنا من عقيدة التوحيد إلى الشرك والحال هذه نكون حينئذ قد افترينا على الله عن وعي وشعور، ومن المسلم أنّ الله سيعاقبنا على ذلك بشدة.
ثمّ يضيف شعيب قائلا: (وما يكون لنا أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله).
ومراد شعيب من هذا الكلام هو أنّنا تابعون لأمر الله، ولا نعصيه قيد شعرة، فعودتنا غير ممكنة إلاّ إذا أمر الله بذلك.
ثمّ من دون إبطاء يضيف: إنّ الله يأمر بمثل هذا، لأنّ الله يعلم بكل شيء ويحيط علماً بجميع الأُمور (وسع ربّنا كل شيء علماً) وعلى هذا الأساس ليس من الممكن أن يعود عن أمر أعطاه، لأنّه لا يعود ولا يرجع عن أمر أعطاه إلاّ من كان علمه محدوداً، واشتبه ثمّ ندم على أمره، أمّا الذي يعلم بكل شيء ويحيط بجميع الأُمور علماً فيستحيل أن يعيد النظر.
ثمّ لأجل أن يفهمهم بأنّه لا يخاف تهديداتهم، وأنّه ثابت في موقفه، قال: (على الله توكلنا).
وأخيراً لأجل أن يثبت حسن نيّته، ويظهر رغبته في طلب الحقيقة والسلام، حتى لا يتهمه أعداؤه بالشغب والفوضوية والإخلال بالأمن يقول: (ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين).
أي: يا ربّ أنت احكم بيننا وبين هؤلاء بالحق، وارفع المشاكل التي بيننا وبين هؤلاء، وافتح علينا أبواب رحمتك، فأنت خير الفاتحين...