في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَرۡسَلۡنَا ٱلرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ فَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَسۡقَيۡنَٰكُمُوهُ وَمَآ أَنتُمۡ لَهُۥ بِخَٰزِنِينَ} (22)

16

ومما يرسله الله بقدر معلوم الرياح والماء :

( وأرسلنا الرياح لواقح ، فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه . وما أنتم له بخازنين )

أرسلنا الرياح لواقح بالماء ، كما تلقح الناقة بالنتاج ؛ فأنزلنا من السماء ماء مما حملت الرياح ، فأسقيناكموه فعشتم به :

( وما أنتم له بخازنين ) . .

فما من خزائنكم جاء ، إنما جاء من خزائن الله ونزل منها بقدر معلوم .

والرياح تنطلق وفق نواميس كونية ، وتحمل الماء وفقا لهذه النواميس ؛ وتسقط الماء كذلك بحسبها . ولكن من الذي قدر هذا كله من الأساس ? لقد قدره الخالق ، ووضع الناموس الكلي الذي تنشأ عنه كل الظواهر :

( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ، وما ننزله إلا بقدر معلوم ) .

ونلحظ في التعبير أنه يرد كل حركة إلى الله حتى شرب الماء . . ( فأسقيناكموه ) . . والمقصود أننا جعلنا خلقتكم تطلب الماء ، وجعلنا الماء صالحا لحاجتكم ، وقدرنا هذا وذاك . وأجريناه وحققناه بقدر الله . والتعبير يجيء على هذا النحو لتنسيق الجو كله ، ورجع الأمر كله إلى الله حتى في حركة تناول الماء للشراب . لأن الجو جو تعليق كل شيء في هذا الكون بإرادة الله المباشرة وقدره المتعلق بكل حركة وحادث . . سنة الله هنا في حركات الأفلاك كسنته في حركات الأنفس . . تضمن المقطع الأول سنته في المكذبين ، وتضمن المقطع الثاني سنته في السماوات والأرضين ، وفي الرياح والماء والاستقاء . وكله من سنة الله التي يجري بها قدر الله . وهذه وتلك موصولتان بالحق الكبير الذي خلق الله به السماوات والأرض والناس والأشياء سواء .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَرۡسَلۡنَا ٱلرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ فَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَسۡقَيۡنَٰكُمُوهُ وَمَآ أَنتُمۡ لَهُۥ بِخَٰزِنِينَ} (22)

انتقال من الاستدلال بظواهر السماء وظواهر الأرض إلى الاستدلال بظواهر كرة الهواء الواقعة بين السماء والأرض ، وذلك للاستدلال بفعل الرياح والمنة بما فيها من الفوائد .

والإرسال : مجاز في نقل الشيء من مكان إلى مكان . وهذا يدل على أن الرياح مستمرة الهبوب في الكرة الهوائية . وهي تظهر في مكان آتية إليه من مكان آخر وهكذا . . . .

و { لواقح } حال من { الرياح } . وقع هذا الحال إدماجاً لإفادة معنيين كما سيأتي عن مالك رحمه الله .

و { لواقح } صالحٌ لأن يكون جمع لاَقح وهي الناقة الحبلى . واستعمل هنا استعارة للريح المشتملة على الرطوبة التي تكون سبباً في نزول المطر ، كما استعمل في ضدها العقيم ضد اللاقح في قوله تعالى { إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } [ سورة الذاريات : 41 ] .

وصالح لأن يكون جمع مُلقح وهو الذي يجعل غيره لاقحاً ، أي الفحل إذا ألقح الناقة ، فإن فواعل يجيء جمعَ مُفعل مذكرٍ نادراً كقول الحارث أو ضرار النهشلي :

لبيك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيحُ الطوايح

روعي فيه جواز تأنيث المشبه به . وهي جمع الفحول لأن جمع ما لا يعقل يجوز تأنيثه .

ومعنى الإلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو ثم ينزل مطراً على الأرض ؛ وأنها تلقح الشجر ذي الثمرة بأن تَنقُلَ إلى نَوْره غبرة دقيقة من نور الشجر الذكر فتصلح ثمرته أو تثبت ، وبدون ذلك لا تثبت أو لا تصلح . وهذا هو الإبّار . وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة . وبعضه يكتفي منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر .

ومن بلاغة الآية إيراد هذا الوصف لإفادة كلا العمليْن اللّذين تعملهما الرياح ، وقد فُسرت الآية بهما . واقتصر جمهور المفسرين على أنها لواقح السحاب بالمطر .

وروى أبو بكر بن العربي عن مالك أنه قال : قال الله تعالى { وأرسلنا الرياح لواقح } فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ولا أريد ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذٍ لم يكن فساداً لا خير فيه . ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت .

وفرع قوله { فأنزلنا من السماء ماء } على قوله { وأرسلنا الرياح } .

وقرأ حمزة { وأرسلنا الريح لواقح } بإفراد « الريح » وجمع « لواقح » على إرادة الجنس والجنس له عدة أفراد .

و { أسقيناكموه } بمعنى جعلناه لكم سقياً ، فالهمزة فيه للجعل . وكثر إطلاق أسقى بمعنى سقى .

واستعمل الخزن هنا في معنى الخزن في قوله آنفاً { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } [ سورة الحجر : 21 ] أي وما أنتم له بحافظين ومنشئين عندما تريدون .