في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا} (115)

99

ثم تجيء قصة آدم ، وقد نسي ما عهد الله به إليه ؛ وضعف أمام الإغراء بالخلود ، فاستمع لوسوسة الشيطان : وكان هذا ابتلاء من ربه له قبل أن يعهد إليه بخلافة الأرض ؛ ونموذجا من فعل إبليس يتخذ أبناء آدم منه عبرة . فلما تم الابتلاء تداركت آدم رحمة الله فاجتباه وهداه . .

والقصص القرآني يجيء في السياق متناسقا معه . وقصة آدم هنا تجيء بعد عجلة الرسول بالقرآن خوف النسيان ، فيذكر في قصة آدم نقطة النسيان . وتجيء في السورة التي تكشف عن رحمة الله ورعايته لمن يجتبيهم من عباده ، فيذكر في قصة آدم أن ربه اجتباه فتاب عليه وهداه . ثم يعقبها مشهد من مشاهد القيامة يصور عاقبة الطائعين من أبنائه وعاقبة العصاة . وكأنما هي العودة من رحلة الأرض إلى المقر الأول ليجزى كل بما قدمت يداه .

فلنتبع القصة كما جاءت في السياق :

( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ) . .

وعهد الله إلى آدم كان هو الأكل من كل الثمار سوى شجرة واحدة ، تمثل المحظور الذي لا بد منه لتربية الإرادة ، وتأكيد الشخصية ، والتحرر من رغائب النفس وشهواتها بالقدر الذي يحفظ للروح الإنسانية حرية الانطلاق من الضرورات عندما تريد ؛ فلا تستعبدها الرغائب وتقهرها . وهذا هو المقياس الذي لا يخطئ في قياس الرقي البشري . فكلما كانت النفس أقدر على ضبط رغائبها والتحكم فيها والاستعلاء عليها كانت أعلى في سلم الرقي البشري . وكلما ضعفت أمام الرغبة وتهاوت كانت أقرب إلى البهيمية وإلى المدارج الأولى .

من أجل ذلك شاءت العناية الإلهية التي ترعى هذا الكائن الإنساني أن تعده لخلافة الأرض باختبار إرادته ، وتنبيه قوة المقاومة فيه ، وفتح عينيه على ما ينتظره من صراع بين الرغائب التي يزينها الشيطان ، وإرادته وعهده للرحمن . وها هي ذي التجربة الأولى تعلن نتيجتها الأولى : ( فنسي ولم نجد له عزما )ثم تعرض تفصيلاتها :

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا} (115)

لما كانت قصة موسى عليه السلام مع فرعون ومع قومه ذات عبرة للمكذبين والمعاندين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وعاندوه ، وذلك المقصود من قَصَصها كما أشرنا إليه آنفاً عند قوله { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً } [ طه : 99 ، 100 ] فكأن النبي صلى الله عليه وسلم استحب الزيادة من هذه القِصص ذات العبرة رجاء أن قومه يفيقون من ضلالتهم كما أشرنا إليه قريباً عند قوله { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } [ طه : 114 ] ؛ أعقبت تلك القصة بقصة آدم عليه السلام وما عرّض له به الشيطان ، تحقيقاً لفائدة قوله { وقل رب زدني علماً } [ طه : 114 ] . فالجملة عطف قصة على قصة والمناسبة ما سمعتَ .

والكلام معطوف على جملة { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } . وافتتاح الجملة بحرف التحقيق ولام القسم لمجرد الاهتمام بالقصة تنبيهاً على قصد التنظير بين القصتين في التفريط في العهد ، لأن في القصة الأولى تفريط بني إسرائيل في عهد الله ، كما قال فيها { ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد } [ طه : 86 ] ، وفي قصة آدم تفريطاً في العهد أيضاً . وفي كون ذلك من عمل الشيطان كما قال في القصة الأولى { وكذلك سولت لي نفسي } [ طه : 96 ] وقال في هذه { فوسوس إليه الشيطان } [ طه : 120 ] . وفي أن في القصتين نسياناً لما يجب الحفاظ عليه وتذكره فقال في القصة الأولى { فَنَسِيَ } [ طه : 16 ] وقال في هذه القصة { فنسي ولم نجد له عزماً } .

وعليه فقوله { من قبلُ } حُذف ما أضيف إليه ( قبلُ ) . وتقديره : من قبل إرسال موسى أو من قبل ما ذكر ، فإن بناء ( قبلُ ) على الضم علامة حذف المضاف إليه ونيّة معناه . والذي ذكر : إما عهد موسى الذي في قوله تعالى : { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } [ طه : 13 ] وقوله { فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } [ طه : 16 ] ؛ وإما عهد الله لبني إسرائيل الذي ذكّرهم به موسى عليه السلام لما رجع إليهم غضبان أسفاً ، وهو ما في قوله { أفطال عليكم العهد } [ طه : 86 ] الآية .

والمراد بالعهد إلى آدم : العهد إليه في الجنّة التي أنسي فيها .

والنسيان : أطلق هنا على إهمال العمل بالعهد عمداً ، كقوله في قصة السامري { فَنَسي } ، فيكون عصياناً ، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى : { وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } الآية ، وقد مضت في سورة الأعراف ( 20 ، 21 ) . وهذا العهد هو المُبيّن في الآية بقوله { فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك } [ طه : 117 ] الآية .

والعزم : الجزم بالفعل وعدم التردد فيه ، وهو مغالبة ما يدعو إليه الخاطر من الانكفاف عنه لعسر عمله أو إيثار ضده عليه . وتقدم قوله تعالى : { وإن عزموا الطلاق } في سورة البقرة ( 227 ) . والمراد هنا : العزم على امتثال الأمر وإلغاءُ ما يحسِّن إليه عدمَ الامتثال ، قال تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } [ آل عمران : 159 ] ، وقال { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] ، وهم نوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وموسى ، وداوود ، وعيسى عليهم السلام .

واستعمل نفي وجدان العزم عند آدم في معنى عدم وجود العزم من صفته فيما عهد إليه تمثيلاً لحال طلب حصوله عنده بحال الباحث على عزمه فلم يجده عنده بعد البحث .