في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (155)

121

ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفورا يوم التقى الجمعان في الغزوة . إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها ؛ فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها ، فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ ، واستزلهم فزلوا وسقطوا :

( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم ، إن الله غفور حليم ) . .

وقد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم . فكان هذا هو الذي كسبوه ، وهو الذي استزلهم الشيطان به . .

ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة ، فتفقد ثقتها في قوتها ، ويضعف بالله ارتباطها ، ويختل توازنها وتماسكها ، وتصبح عرضة للوساوس والهواجس ، بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه ! وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس ، فيقودها إلى الزلة بعد الزلة ، وهي بعيدة عن الحمى الآمن ، والركن الركين .

ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الربيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء . الاستغفار الذي يردهم إلى الله ، ويقوي صلتهم به ، ويعفي قلوبهم من الأرجحة ، ويطرد عنهم الوساوس ، ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان ، ثغرة الانقطاع عن الله ، والبعد عن حماه . هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة ، حتى ينقطع بهم في التيه ، بعيدا بعيدا عن الحمى الذي لا ينالهم فيه !

ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم ، فلم يدع الشيطان ينقطع بهم ، فعفا عنهم . . ويعرفهم بنفسه - سبحانه - فهو غفور حليم . لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم ؛ متى علم من نفوسهم التطلع إليه ، والاتصال به ؛ ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق !

/خ179

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (155)

استئناف لبيان سبب الهزيمة الخفيّ ، وهي استزلال الشيطان إيّاهم ، وأراد بـ { يوم التقى الجمعان } يومَ أُحُد ، و( استزلّهم ) بمعنى أزلّهم أي جعلهم زالّين ، والزلل مستعار لفعل الخطيئة ، والسين والتاء فيه للتأكيد ، مثل استفاد واستبشر واستنشق وقول النَّابغة :

وهم قتلوا الطائي بالجوّ عنوة *** أبا جابر فاسْتَنْكحوا أم جابر

أي نكحوا . ومنه قوله تعالى : { واستغنى اللَّه } [ التغابن : 6 ] وقوله : { أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] . ولا يحسن حمل السين والتاء على معنى الطلب لأنّ المقصود لومهم على وقوعهم في معصية الرسول ، فهو زلل واقع .

والمراد بالزّلل الانهزام ، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضدّه وهو النَّصر قال تعالى : { وثبت أقدامنا } [ آل عمران : 147 ] .

( والباء في { ببعض ما كسبوا } للسببية وأريد { ببعض ما كسبوا } مفارقة موقفهم ، وعصيان أمر الرّسول ، والتنازع ، والتعجيل إلى الغنيمة ، والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان ، رماهم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم ، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم ، وإبطال ما عرّض به المنافقون من رمى تبعته على أمر الرسول عليه الصلاة والسّلام بالخروج ، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد . وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه ، ولأجل تخليص الأفكار من هذا الغلط الخفيّ وضع أهل المنطق باب القضيّة اللزوميّة والقضيّة الاتفاقية .

ومناسبةُ ذكر هذه الآية عقب الَّتي قبلها أنَّه تعالى بعد أن بيَّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم } انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة ، فبيّن لهم أنَّه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الَّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم ، فلم يتفطّنوا إلى السبب ، والتبس عليهم بالمقارن ، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطىء وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح ، وتزكية النفوس ، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين ، وتعظيمه عندهم ، وتنفيرهم من الشيطان ، والأفعالِ الذميمة ، ومعصية الرسول ، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين . وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله : { ثم صرفكم عنهم . . . } [ آل عمران : 152 ] الآيات . وضمير { منكم } راجع إلى عامّة جيش أُحُد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا . وعن السديّ أنّ الذين تولّوا جماعة هربوا إلى المدينة .

وللمفسّرين في قوله : { استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } احتمالات ذكرها صاحب « الكشاف » والفخر ، وهي بمعزل عن القصد .

وقوله : { ولقد عفا الله عنهم } أعيد الإخبار بالعفْو تأنيساً لهم كقوله : { ولقد عفا عنكم } .