في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّـٰكِنِ ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَـٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا} (162)

148

ولا يترك السياق الموقف مع اليهود ، حتى ينصف القليل المؤمن منهم ؛ ويقرر حسن جزائهم ، وهو يضمهم إلى موكب الإيمان العريق ، ويشهد لهم بالعلم والإيمان ، ويقرر أن الذي هداهم إلى التصديق بالدين كله : ما أنزل إلى الرسول [ ص ] وما أنزل من قبله ، هو الرسوخ في العلم وهو الإيمان :

( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك . والمقيمين الصلاة ، والمؤتون الزكاة ، والمؤمنون بالله واليوم الآخر ، أولئك سنؤتيهم أجرا عظيمًا ) . .

فالعلم الراسخ ، والإيمان المنير ، كلاهما يقود أهله إلى الإيمان بالدين كله . كلاهما يقود إلى توحيد الدين الذي جاء من عند الله الواحد .

وذكر العلم الراسخ بوصفه طريقا إلى المعرفة الصحيحة كالإيمان الذي يفتح القلب للنور ، لفتة من اللفتات القرآنية التي تصور واقع الحال التي كانت يومذاك ؛ كما تصور واقع النفس البشرية في كل حين . فالعلم السطحي كالكفر الجاحد ، هما اللذان يحولان بين القلب وبين المعرفة الصحيحة . . ونحن نشهد هذا في كل زمان . فالذين يتعمقون في العلم ، ويأخذون منه بنصيب حقيقي ، يجدون أنفسهم أمام دلائل الإيمان الكونية ؛ أو على الأقل أمام علامات استفهام كونية كثيرة ، لا يجيب عليها إلا الاعتقاد بأن لهذا الكون إلها واحدا مسيطرا مدبرا متصرفا ، وذا إرادة واحدة ، وضعت ذلك الناموس الواحد . . وكذلك الذين تتشوق قلوبهم للهدى - المؤمنون - يفتح الله عليهم ، وتتصل أرواحهم بالهدى . . أما الذين يتناوشون المعلومات ويحسبون أنفسهم علماء ، فهم الذين تحول قشور العلم بينهم وبين إدراك دلائل الإيمان ، أو لا تبرز لهم - بسبب علمهم الناقص السطحي - علامات الاستفهام . وشأنهم شأن من لا تهفو قلوبهم للهدى ولا تشتاق . . وكلاهما هو الذي لا يجد في نفسه حاجة للبحث عن طمأنينة الإيمان ، أو يجعل التدين عصبية جاهلية فيفرق بين الأديان الصحيحة التي جاءت من عند ديان واحد ، على أيدي موكب واحد متصل من الرسل ، صلوات الله عليهم أجمعين .

وقد ورد في التفسير المأثور أن هذه الإشارة القرآنية تعني - أول من تعني - أولئك النفر من اليهود ، الذين استجابوا للرسول [ ص ] وذكرنا أسماءهم من قبل ، ولكن النص عام ينطبق على كل من يهتدي منهم لهذا الدين ، يقوده العلم الراسخ أو الإيمان البصير . .

ويضم السياق القرآني هؤلاء وهؤلاء إلى موكب المؤمنين ، الذين تعينهم صفاتهم :

( والمقيمين الصلاة ، والمؤتون الزكاة ، والمؤمنون بالله واليوم الآخر ) .

وهي صفات المسلمين التي تميزهم : إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والإيمان بالله واليوم الآخر . . وجزاء الجميع ما يقرره الله لهم .

أولئك سنؤتيهم أجرا عظيمًا . .

ونلاحظ أن ( المقيمين الصلاة ) تأخذ إعرابا غير سائر ما عطفت عليه . وقد يكون ذلك لإبراز قيمة إقامة الصلاة في هذا الموضع على معنى - وأخص المقيمين الصلاة - ولها نظائر في الأساليب العربية وفي القرآن الكريم ، لإبراز معنى خاص في السياق له مناسبة خاصة . وهي هكذا في سائر المصاحف وإن كانت قد وردت مرفوعة : والمقيمون الصلاة في مصحف عبدالله بن مسعود .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّـٰكِنِ ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَـٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا} (162)

الاستدراك بقوله : { لكن الراسخون في العلم } الخ ناشيء على ما يوهمه الكلام السابق ابتداء من قوله : { يسألك أهل الكتاب } [ النساء : 153 ] من توغّلهم في الضلالة حتّى لا يرجى لأحد منهم خير وصلاح ، فاستدرك بأنّ الراسخين في العلم منهم ليسوا كما توهَّم ، فهم يؤمنون بالقرآن مثل عبد الله بن سلام ومخيريق .

والراسخ حقيقته الثابت القدم في المشي ، لا يتزلزل ؛ واستعير للتمكّن من الوصف مثل العلم بحيث لا تغرّه الشبه . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العِلم } في سورة آل عمران ( 7 ) . والرّاسخ في العلم بعيد عن التكلّف وعن التعنّت ، فليس بينه وبين الحقّ حاجب ، فهم يعرفون دلائل صدق الأنبياء ولا يسألونهم خوارق العادات .

وعطفُ { المؤمنون } على { الراسخون } ثناء عليهم بأنّهم لم يسألوا نبيّهم أن يريهم الآيات الخوارقَ للعادة . فلذلك قال { يؤمنون } ، أي جميعهم بما أنزل إليك ، أي القرآن ، وكفاهم به آية ، وما أنزل من قبلك على الرسل ، ولا يعادون رسل الله تعصّباً وحميّة . والمراد بالمؤمنين في قوله : { والمؤمنون } الذين هداهم الله للإيمان من أهل الكتاب ، ولم يكونوا من الراسخين في العلم منهم ، مثل اليهودي الذي كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنَ به .

وعطف { المقيمين } بالنصب ثبت في المصحف الإمام ، وقرآه المسلمون في الأقطار دون نكير ؛ فعلمْنا أنّه طريقة عربية في عطف الأسماء الدالّة على صفات محامدَ ، على أمثالها ، فيجوز في بعض المعطوفات النصب على التخصيص بالمدح ، والرفعُ على الاستئناف للاهتمام ، كما فعلوا ذلك في النعوت المتتابعة ، سواء كانت بدون عطف أم بعطف ، كقوله تعالى : { ولكنْ البِرّ من آمن إلى قوله والصابرين } [ البقرة : 177 ] . قال سيبويه في « كتابه » « بابُ ما ينتصب في التعظيم والمدح وإن شئت جَعلته صفة فجرَى على الأول ، وإن شئتَ قطعته فابتدأتَه » . وذَكر من قبيل ما نحن بصدده هذه الآية فقال : « فلو كان كلُّه رفعاً كان جيّداً » ، ومثْله { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضّرّاء } [ البقرة : 177 ] ، ونظيره قول الخِرْنق :

لا يبْعَدَنْ قومي الذي هُمُو *** سُمّ العُداة وآفَة الجزر

النازلون بكلّ معتــرك *** والطيِّبيّين معاقِدَ الأزْر

في رواية يونس عن العرب : برفع ( النازلون ) ونصب ( الطيِّبيين ) ، لتكون نظير هذه الآية . والظاهر أنّ هذا ممّا يجري على قصد التفنّن عند تكرّر المتتابعات ، ولذلك تكرّر وقوعه في القرآن في معطوفات متتابعات كما في سورة البقرة وفي هذه الآية ، وفي قوله : { والصابون } في سورة المائدة ( 69 ) .

وروي عن عائشة وأبان بن عثمان أنّ نصب { المقيمين } خطأ ، من كاتب المصحف وقد عَدّتْ من الخطأ هذه الآية . وقوله : { ولكن البرّ من آمن بالله } إلى قوله { والصابرين في البأساء } [ البقرة : 177 ] وقولهِ : { إِنّ هذَان لساحرانِ } [ طه : 63 ] . وقوله : { والصابُون } في سورة المائدة ( 69 ) . وقرأتْها عائشة ، وعبد الله بن مسعود ، وأبَي بن كعب ، والحسن ، ومالك بن دينار ، والجحدري ، وسعيد بن جبير ، وعيسى بن عمر ، وعمرو بن عبيد : { والمقيمون } بالرفع . ولا تردّ قراءة الجمهور المجمع عليها بقراءة شاذّة .

ومن النّاس من زعم أنّ نصب { المقيمين } ونحوه هو مظهر تأويل قول عثمان لكتّاب المصاحف حين أتمّوها وقرأها أنّه قال لهم : « أحسنتم وأجملتم وأرى لحناً قليلاً ستُقيمه العرب بألْسنتها » . وهذه أوهام وأخبار لم تصحّ عن الّذين نُسبت إليهم . ومن البعيد جدّاً أن يخطىء كاتب المصحف في كلمة بين أخواتها فيفردها بالخطأ دون سابقتها أو تابعتها ، وأبعد منه أن يجيء الخطأ في طائفة متماثلة من الكلمات وهي التي إعرابها بالحروف النائبة عن حركات الإعراب من المثنّى والجمع على حدّهِ . ولا أحسب ما رواه عن عائشة وأبان بن عثمان في ذلك صحيحاً .

وقد علمتَ وجه عربيّته في المتعاطفات ، وأمّا وجه عربية { إنّ هذان لساحران } فيأتي عند الكلام في سورة طه ( 63 ) .

والظاهر أنّ تأويل قول عثمان هو ما وقع في رسم المصحف من نحو الألِفات المحذوفة . قال صاحب الكشاف } : « وهُم كانوا أبْعَدَ همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يَلْحَق بهم » . وقد تقدّم نظير هذا عند قوله تعالى : { والصابرين في البأساء والضرّاء } في سورة البقرة ( 177 ) .

والوعد بالأجر العظيم بالنسبة للراسخين من أهل الكتاب لأنَّهم آمنوا برسولهم وبمحمّد وقد ورد في الحديث الصّحيح : أنّ لهم أجرين ، وبالنسبة للمؤمنين من العرب لأنَّهم سبقوا غيرهم بالإيمان .

وقرأ الجمهور : { سنوتيهم } بنون العظمة وقرأه حمزة وخلف بياء الغيبة والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { والمؤمنون بالله } .