ويمضي السياق خطوة أخرى في دستور الصدقة . ليبين نوعها وطريقتها ، بعد ما بين آدابها وثمارها :
( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، ومما أخرجنا لكم من الأرض ، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون . ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ، واعلموا أن الله غني حميد ) . .
إن الأسس التي تكشفت النصوص السابقة عن أن الصدقة تقوم عليها وتنبعث منها لتقتضي أن يكون الجود بأفضل الموجود ؛ فلا تكون بالدون والرديء الذي يعافه صاحبه ؛ ولو قدم إليه مثله في صفقة ما قبله إلا أن ينقص من قيمته . فالله أغنى عن تقبل الرديء الخبيث !
وهو نداء عام للذين آمنوا - في كل وقت وفي كل جيل - يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم . تشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب ، وما أخرجه الله لهم من الأرض من زرع وغير زرع مما يخرج من الأرض ويشمل المعادن والبترول . ومن ثم يستوعب النص جميع أنواع المال ، ما كان معهودا على عهد النبي [ ص ] وما يستجد . فالنص شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان . وكله مما يوجب النص فيه الزكاة . أما المقادير فقد بينتها السنة في أنواع الأموال التي كانت معروفة حينذاك . وعليها يقاس وبها يلحق ما يجد من أنواع الأموال .
وقد وردت الروايات بسبب لنزول هذه الآية ابتداء ، لا بأس من ذكره ، لاستحضار حقيقة الحياة التي كان القرآن يواجهها ؛ وحقيقة الجهد الذي بذله لتهذيب النفوس ورفعها إلى مستواه . .
روى ابن جرير - بإسناده - عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : " نزلت في الأنصار . كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الاسطوانتين في مسجد رسول الله [ ص ] فيأكل فقراء المهاجرين منه . فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع قناء البسر ، يظن أن ذلك جائز . فأنزل الله فيمن فعل ذلك : ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) . .
وكذلك رواه الحاكم عن البراء وقال : صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه .
ورواه ابن أبي حاتم - بإسناده عن طريق آخر - عن البراء - رضي الله عنه - قال : نزلت فينا . كنا أصحاب نخل ، فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته ، فيأتي رجل بالقنو ، فيعلقه في المسجد . وكان أهل الصفة ليس لهم طعام . فكان أحدهم إذا جاع جاء فضرب بعصاه ، فسقط منه البسر والتمر فيأكل ، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص ، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه ، فنزلت : ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ) . قال : لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء . فكنا بعد ذلك يجيء الرجلى منا بصالح ما عنده .
والروايتان قريبتان . وكلتاهما تشير إلى حالة واقعة في المدينة ؛ وترينا صفحة تقابل الصفحة الأخرى التي خطها الأنصار في تاريخ البذل السمح والعطاء الفياض . وترينا أن الجماعة الواحدة تكون فيها النماذج العجيبة السامقة ، والنماذج الأخرى التي تحتاج إلى تربية وتهذيب وتوجيه لتتجه إلى الكمال ! كما احتاج بعض الأنصار إلى النهي عن القصد إلى الرديء من أموالهم ، الذي لا يقبلونه عادة في هدية إلا حياء من رده ولا في صفقة إلا بإغماض فيه أي : نقص في القيمة ! بينما كانوا يقدمونه هم لله !
( واعلموا أن الله غني حميد ) . .
غني عن عطاء الناس إطلاقا . فإذا بذلوه فإنما يبذلونه لأنفسهم فليبذلوه طيبا ، وليبذلوه طيبة به نفوسهم كذلك .
حميد . . يتقبل الطيبات ويحمدها ويجزي عليها بالحسنى . .
ولكل صفة من الصفتين في هذا الموضع إيحاء يهز القلوب . كما هز قلوب ذلك الفريق من الأنصار فعلا . ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم . . . ) . . وإلا فالله غني عن الخبيث الذي تقصدون إليه فتخرجون من صدقاتكم ! بينما هو - سبحانه - يحمد لكم الطيب حين تجرحونه ويجزيكم عليه جزاء الراضي الشاكر . وهو الله الرازق الوهاب . . يجزيكم عليه جزاء الحمد وهو الذي أعطاكم إياه من قبل ! أي إيحاء ! وأي إغراء ! وأي تربية للقلوب بهذا الأسلوب العجيب !
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 267 )
هذا الخطاب هو لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذه صيغة أمر من الإنفاق ، واختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق( {[2624]} ) ، الزكاة المفروضة أو التطوع ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين : هي في الزكاة المفروضة . نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد ، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر ، ودرهم زائف خير من تمرة( {[2625]} ) ، فالأمر على هذا القول للوجوب ، والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن بن أبي الحسن وقتادة ، أن الآية في التطوع ، وروى البراء بن عازب ، وعطاء بن أبي رباح ما معناه أن الأنصار كانوا أيام الجداد( {[2626]} ) يعلقون أقناء التمر في حبل بين أسطوانتين في المسجد فيأكل من ذلك فقراء المهاجرين فعلق رجل حشفاً فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «بئسما علق هذا » ، فنزلت الآية .
قال القاضي أبو محمد : والأمر على هذا القول على الندب ، وكذلك ندبوا إلى أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار ، والآية تعم الوجهين( {[2627]} ) ، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب ، وهؤلاء كلهم وجمهور المتأولين قالوا معنى { من طيبات } من جيد ومختار { ما كسبتم } ، وجعلوا { الخبيث } بمعنى الرديء والرذالة ، وقال ابن زيد معناه : من حلال ما كسبتم ، قال : وقوله : { ولا تيمموا الخبيت } أي الحرام .
قال القاضي أبو محمد : وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية لا من معناه في نفسه( {[2628]} ) ، وقوله : { من طيبات ما كسبتم } يحتمل أن لا يقصد به لا الجيد ولا الحلال ، لكن يكون المعنى كأنه قال : أنفقوا مما كسبتم ، فهو حض على الإنفاق فقط . ثم دخل ذكر الطيب تبييناً لصفة حسنة في المكسوب عاماً وتعديداً للنعمة كما تقول : أطعمت فلاناً من مشبع الخبز وسقيته من مروي الماء( {[2629]} ) ، والطيب على هذا الوجه يعم الجود والحل ، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال : ليس في مال المؤمن خبيث( {[2630]} ) ، و { كسبتم } معناه كانت لكم فيه سعاية ، إما بتعب بدن أو مقاولة في تجارة( {[2631]} ) ، والموروث داخل في هذا لأن غير الوارث قد كسبه( {[2632]} ) ، إذ الضمير في { كسبتم } إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين ، { ومما أخرجنا لكم من الأرض }( {[2633]} ) النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك ، و { تيمموا } معناه تعمدوا وتقصدوا ، يقال تيمم الرجل كذا وكذا إذا قصده ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ التي عِنْدَ ضَارِجٍ . . . يفيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِ( {[2634]} )
ومنه قول الأعشى : [ المتقارب ]
تَيَمَّمْتُ قَيْساً وَكَمْ دُونَهُ . . . مِنَ الأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ( {[2635]} )
ومنه التيمم الذي هو البدل من الوضوء عند عدم الماء ، وهكذا قرأ جمهور الناس وروى البزي عن ابن كثير تشديد التاء في أحد وثلاثين موضعاً أولها هذا الحرف( {[2636]} ) ، وحكى الطبري أن في قراءة عبد الله بن مسعود «ولا تؤموا الخبيث » من أممت إذا قصدت ، ومنه إمام البناء ، والمعنى في القراءتين واحد ، وقرأ الزهري ومسلم بن جندب( {[2637]} ) «ولا تُيمِّموا » بضم التاء وكسر الميم ، وهذا على لغة من قال : يممت الشيء بمعنى قصدته ، وفي اللفظ لغات ، منها أممت الشيء خفيفة الميم الأولى وأممته بشدها ويممته وتيممته ، وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ «ولا تؤمموا » بهمزة بعد التاء ، وهذه على لغة من قال أممت مثقلة الميم ، وقد مضى القول في معنى { الخبيث } وقال الجرجاني في كتاب نظم القرآن : قال فريق من الناس : إن الكلام تم في قوله : { الخبيث } ثم ابتدأ خبراً آخر في وصف الخبيث فقال : { منه تنفقون }( {[2638]} ) وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي ساهلتم .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع ، والضمير في { منه } عائد على { الخبيث } ، قال الجرجاني وقال فريق آخر : بل الكلام متصل إلى قوله { فيه } .
قال القاضي أبو محمد : فالضمير في { منه } عائد على { ما كسبتم } ، ويجيء { تنفقون } كأنه في موضع نصب على الحال ، وهو كقولك : إنما أخرج أجاهد في سبيل الله ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } فقال البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وغيرهم . معناه ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا بأن تساهلوا في ذلك ، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه ، أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم ، وقال الحسن بن أبي الحسن معنى الآية : لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع ، إلا أن يهضم لكم من ثمنه ، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة( {[2639]} ) وقال البراء بن عازب أيضاً : معناه ولستم بآخذيه لو أهدي إليكم { إلا أن تغمضوا } أي تستحيي من المهدي أن تقبل منه ما لا حاجة لك فيه ، ولا قدر له في نفسه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يشبه كون الآية في التطوع ، وقال ابن زيد معنى الآية : ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه( {[2640]} ) ، وقرأ جمهور الناس «إلا أن تُغْمِضوا » بضم التاء وسكون الغين وكسر الميم . وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففاً ، وروي عنه أيضاً «تُغْمِّضُوا » بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة ، وحكى مكي عن الحسن البصري «تغمَّضوا » مشددة الميم مفتوحة وبفتح التاء .
وقرأ قتادة بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففاً قال أبو عمرو معناه : إلا أن يغمض لكم .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذه اللفظة تنتزع إما من قول العرب أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز ، فمن ذلك قول الطرماح بن حكيم : [ الخفيف ]
لَمْ يَفُتنا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وللذُ . . . لِّ أُنَاسٌ يَرْضَونَ بالإغْمَاضِ( {[2641]} )
وإما أن تنتزع من تغميض العين لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عنه عينيه ومنه قول الشاعر :
إلى كم وكم أشياء منكمْ تريبني . . . أغمض عنها لست عنها بذي عمى
وهذا كالإغضاء عند المكروه ، وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية وأشار إليه مكي ، وإما من قول العرب أغمض الرجل إذا أتى غامضاً من الأمر كما تقول : أعمن إذا أتى عمان ، وأعرق إذا أتى العراق ، وأنجد ، وأغور ، إذا أتى نجداً والغور الذي هو تهامة ، ومنه قول الجارية : وإن دسر أغمض( {[2642]} ) فقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى التغميض العين لأن أغمض بمنزلة غمض وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضاً من التأويل والنظر في أخذ ذلك إما لكونه حراماً على قول ابن زيد ، وإما لكونه مهدياً أو مأخوذاً في دين على قول غيره ، وأما قراءة الزهري الأولى فمعناها تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم ، قال أبو عمرو معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان .
قال القاضي أبو محمد : وأما قراءته( {[2643]} ) الثانية فهذا مذهب أبي عمرو الداني فيها . ويحتمل أن تكون من تغميض العين . وأما قراءة قتادة فقد ذكرت تفسير أبي عمرو لها . وقال ابن جني : معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس ، وهذا كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محموداً إلى غير ذلك من الأمثلة ، ثم نبه تعالى على صفة الغنى أي لا حاجة به إلى صدقاتكم ، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر( {[2644]} ) ، و { حميد } معناه محمود في كل حال ، وهي صفة ذات .
إفضاء إلى المقصود وهو الأمرُ بالصدقات بعد أن قُدم بين يديه مواعظ وترغيبٌ وتحذير . وهي طريقة بلاغية في الخطابة والخِطاب . فربما قدموا المطلوب ثم جاؤوا بما يكسبه قبولاً عند السامعين ، وربما قدموا ما يكسب القبولَ قبل المقصود كما هنا . وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجُمل ، ونكتة ذلك أنّه قد شاع بين الناس الترغيب في الصدقة وتكرّر ذلك في نزول القرآن فصار غرضاً دينياً مشهوراً ، وكان الاهتمام بإيضاحه والترغيب في أحواله والتنفير من نقائصه أجدر بالبيان . ونظير هذا قول علي في خطبته التي خطبها حين دخل سُفيان الغَامِدي أحد قواد أهل الشام بلدَ الأنبار وهي من البلاد المطيعة للخليفة علي وقتلوا عاملها حسان بنَ حسان البَكري : « أما بعد فإنّ من تَرك الجهاد رغبةَ عنه ألبسه الله ثوبَ الذل ، وشملُه البلاء ، ودُيِّثَ بالصّغار ، وضرب على قلبه ، وسيم الخَسْفَ ، ومُنِع النِّصْف . ألاَ وإنِّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وقلتُ لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم ، فوالله ما غُزِي قوم في عُقْر دارهم إلاّ ذلوا ، فتواكلتم . هذا أخو غامد قد وردتْ خيلُه الأنباء » إلخ . وانظر كلمة « الجهاد » في هذه الخطبة فلعل أصلها القِتال كما يدل عليه قوله بعده إلى قتال هؤلاء فحَرفَها قاصِدٌ أو غَافِلٌ ولا إخالها تصدر عن علي رضي الله عنه .
والأمر يجوز أن يكون للوجوب فتكون الآية في الأمر بالزكاة ، أو للندب وهي في صدقة التطوّع ، أو هو للقدر المشترك في الطَلب فتشمل الزكاة وصدقة التطوّع ، والأدلة الأخرى تبيّن حكم كل . والقيد بالطَّيِّبَات يناسب تعميم النفقات .
والمراد بالطيّبات خيار الأموال ، فيطلق الطيِّب على الأحسن في صنفه . والكَسب ما يناله المرء بسعيه كالتجارة والإجارة والغنيمة والصيد . ويطلق الطيّب على المال المكتسب بوجه حلال لا يخالطه ظلم ولا غشّ ، وهو الطيّب عند الله كقول النبي صلى الله عليه وسلم " من تصدق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلاّ طيّباً تلقّاها الرحمن بيمينه " الحديث ، وفي الحديث الآخر : " إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً " . ولم يذكر الطيّبات مع قوله : { ومما أخرجنا لكم من الأرض } اكتفاء عنه بتقدم ذكره في قسيمه ، ويظهر أنّ ذلك لم يقيّد بالطيّبات لأنّ قوله : { أخرجنا لكم } أشعر بأنّه مما اكتسبه المرء بعمله بالحرث والغرس ونحو ذلك ، لأنّ الأموال الخبيثة تحصل غالباً من ظُلم الناس أو التحيّل عليهم وغشّهم وذلك لا يتأتّى في الثمرات المستخرجة من الأرض غالباً .
والمراد بما أخرج من الأرض الزروع والثمار ، فمنه ما يخرج بنفسه ، ومنه ما يعالج بأسبابه كالسقي للشجر والزرع ، ثم يخرجه الله بما أوجد من الأسباب العادية .
وبعض المفسرين عد المعادن داخلة في { ما أخرجنا لكم من الأرض } . وتجب على المعدن الزكاة عند مالك إذا بلغ مقدار النّصاب ، وفيه ربع العشر . وهو من الأموال المفروضة وليس بزكاة عند أبي حنيفة ، ولذلك قال فيه الخمس . وبعضهم عدّ الركاز داخلاً فيما أخرج من الأرض ولكنّه يخمس ، والحق في الحكم بالغنيمة عند المالكية . ولعلّ المراد بما كسبتم الأموال المزكّاة من العين والماشية ، وبالمخرج من الأرض الحبوب والثمار المزكّاة .
وقوله : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } أصل تيمّموا تتيمموا ، حذفت تاء المضارعة في المضارع وتَيمّم بمعنى قصد وعمد .
والخبيث الشديد سُوءاً في صنفه فلذلك يطلق على الحرام وعلى المستقذر قال تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] وهو الضدّ الأقصى للطيّب فلا يطلق على الرديء إلاّ على وجه المبالغة ، ووقوع لفظه في سياق النهي يفيد عموم ما يصدق عليه اللفظ .
وجملة { منه تنفقون } حال ، والجار والمجرور معمولان للحال قدماً عليه للدلالة على الاختصاص ، أي لا تقصدوا الخبيث في حال إلاّ تنفقوا إلاّ منه ، لأنّ محل النهي أن يخرج الرجل صدقته من خصوص رديء ماله . أما إخراجه من الجيدَ ومن الرديء فليس بمنهي لا سيما في الزكاة الواجبة لأنّه يخرج عن كل ما هو عنده من نوعه . وفي حديث « الموطأ » في البيوع " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عاملاً على صدقات خيبر فأتاه بتَمْر جَنيب فقال له : أكُلُّ تَمْرِ خيبر هكذا قال : لا ، ولكنّي أبيع الصاعين من الجَمْع بصاع من جنيب . فقال له : بع الجمع بالدّراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً " فدل على أنّ الصدقة تؤخذ من كل نصاب من نوعه ، ولكنّ المنهي عنه أن يخصّ الصدقة بالأصناف الرديئة . وأما في الحيوان فيؤخذ الوسط لتعذّر التنويع غالباً إلاّ إذا أكثر عدده فلا إشكال في تقدير الظرف هنا .
وقرأ الجمهور { تَيمّموا } بتاء واحدة خفيفة وصْلاً وابتداء ، أصله تَتيمّموا ، وقرأه البزي عن ابن كثير بتشديد التاء في الوصل على اعتبار الإدغام .
وقوله : { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } جملة حالية من ضمير تنفقون ويجوز أن يكون الكلام على ظاهره من الإخبار فتكون جملة الحال تعليلاً لنهيهم عن الإنفاق من المال الخبيث شرعاً بقياس الإنفاق منه على اكتسابه قياس مساواة أي كما تكرهون كسبه كذلك ينبغي أن تكرهوا إعطاءه . وكأنّ كراهية كسبه كانت معلومة لديهم متقرّرة في نفوسهم ، ولذلك وقع القياس عليها .
ويجوز أن يكون الكلام مستعملاً في النهي عن أخذ المال الخبيث ، فيكون الكلام منصرفاً إلى غرض ثانٍ وهو النهي عن أخذ المال الخبيث والمعنى لا تأخذوه ، وعلى كلا الوجهين هو مقتضٍ تحريم أخذ المال المعلومة حِرمته على من هو بيده ولا يُحلّه انتقاله إلى غيره .
والإغماض إطباق الجفن ويطلق مجازاً على لازم ذلك ، فيطلق تارة على الهناء والاستراحة لأنّ من لوازم الإغماض راحة النائم قال الأعشى :
عليكِ مثلُ الذي صَلِّيتِ فاغْتمضي *** جَفْناً فإنّ لِجَنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعَا
أراد فاهنئي . ويطلق تارة على لازمه من عدم الرؤية فيدل على التسامح في الأمر المكروه كقول الطرماح :
لم يَفُتْنا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وَللضّ *** يْمِ رجالٌ يَرْضَوْن بالإغماض
فإذا أرادوا المبالغة في التغافل عن المكروه الشديد قالوا أغمض عينه على قذى ؛ وذلك لأنّ إغماض الجفن مع وجود القذى في العين . لقصد الراحة من تحرّك القذى ، قال عبد العزيز بن زُرَارة الكَلاَئي{[195]} :
وأغْمَضْتُ الجُفُونَ على قَذَاها *** ولَمْ أسْمَعْ إلى قالٍ وقِيلِ
والاستثناء في قوله : { إلا أن تغمضوا فيه } على الوجه الأول من جعل الكلام إخباراً ، هو تقييد للنفي . وأما على الوجه الثاني من جعل النفي بمعنى النهي فهو من تأكيد الشيء بما يُشبه ضدّه أما لا تأخذوه إلاّ إذا تغاضيتم عن النهي وتجاهلتموه .
وقوله : { واعلموا أن الله غني حميد } تذييل ، أي غني عن صدقاتكم التي لا تنفع الفقراء ، أو التي فيها استساغة الحرام . حميد ، أي شاكر لمن تصدّق صدقة طيّبة . وافتتحه باعلموا للاهتمام بالخبر كما تقدم عند قوله تعالى : { واتقوا الله واعلوا أنكم ملاقوه } [ البقرة : 223 ] ، أو نُزِّل المخاطبون الذين نُهوا عن الإنفاق من الخبيث منزلة من لا يعلم أن الله غني فأعطوا لوجههِ ما يقبله المحتاج بكل حال ولم يعلموا أنّه يحمد من يعطي لوجهه من طيّب الكسب .
والغني الذي لا يحتاج إلى ما تكثر حاجة غالب الناس إليه ، ولِلَّهِ الغنى المطلق فلا يعطى لأجله ولامتثال أمره إلاّ خير ما يعطيه أحد للغَنِي عن المال .
والحميد من أمثلة المبالغة ، أي شديد الحَمد ؛ لأنه يثني على فاعلي الخيرات . ويجوز أن يكون المراد أنّه محمود ، فيكون حَميد بمعنى مفعول ، أي فتخلَّقُوا بذلك لأنّ صفات الله تعالى كمالات ، فكونوا أغنياء القلوب عن الشحّ محمودين على صدقاتكم ، ولا تعطوا صدقات تؤذن بالشحّ ولا تشكرون عليها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم}: أنفقوا من الحلال مما رزقناكم من الأموال الفضة والذهب وغيره.
{ومما أخرجنا لكم من الأرض}: وأنفقوا من طيبات الثمار والنبات، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالصدقة قبل أن تنزل آيةُ الصدقات، فجاء رجل بعِذْقٍ من تمر عامته حَشَفٌ، فوضعه في المسجد مع التمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من جاء بهذا؟"، فقالوا: لا ندري، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعَلَّقَ العِذقُ، فمن نظر إليه قال: بئس ما صنع صاحب هذا، فقال الله عز وجل: {ولا تيمّموا الخبيثَ}: ولا تعمدوا إلى الحشف من التمر الرديء من طعامكم للصدقات، {منه تنفقون ولستم بآخذيه}: الرديء بسعر الطيب لأنفسكم، يقول: لو كان لبعضكم على بعض حق لم يأخذ دون حقه،
ثم استثنى، فقال: {إلا أن تُغمِضوا فيه}: إلا أن يهَضمَ بعضكُم على بعض حقَّه، فيأخذ دون حقه، وهو يعلم أنه رديء، فيأخذه على علم.
{واعلموا أن الله غني} عما عندكم من الأموال، {حميد} عند خلقه في ملكه وسلطانه...
{ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267]. 185- قال ابن وهب: وسئل مالك عن الرجل يخلط مع الطعام الطيب طعاما دونه وهو مما يجوز به بيعه. قال مالك: وإنما يجعله لينفقه هذا الطيب. قال مالك: بهذا أفسده، قال الله تبارك وتعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} وظن هذا أنه يربح وإنما يهلك دينه...
قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} الآية. قال الشافعي: يعني ـ والله أعلم ـ تأخذونه لأنفسكم ممن لكم عليه حق، فلا تنفقوا ما لا تأخذون لأنفسكم، يعني لا تعطوا مما خَبُثَ عليكم ـ والله أعلم ـ وعندكم طيب. قال الشافعي: فحرام على من عليه صدقة أن يعطي الصدقة من شرِّهَا، وحرام على من عنده ثمر أن يعطي العشر من شره. ومن له الحنطة أن يعطي العشر من شرها. ومن له ذهب أن يعطي زكاتها من شرها. ومن له إبل أن يعطي الزكاة من شرها إذا وُلِّيَ إعطاءها أهلها، وعلى السلطان أن يأخذ ذلك منه. وحرام عليه إن غابت أعيانها عن السلطان فقبل قوله أن يعطيه من شرها ويقول: ماله كله هكذا. قال الشافعي:... عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أتاكم المصدق فلا يفارقكم إلا عن رضا». قال الشافعي: يعني ـ والله أعلم ـ أن يوفوه طائعين ولا يلووه، لا أن يعطوه من أموالهم ما ليس عليهم، فبهذا نأمرهم، ونأمر المصدق. (الأم: 2/58. ومن أحكام الشافعي: 1/104. ومعرفة السنن والآثار: 3/291.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يا أيها الذين آمنوا": صدّقوا بالله ورسوله وآي كتابه. {أنْفِقُوا}: زكوا وتصدّقوا.
{مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}: زكوا من طيب ما كسبتم بتصرّفكم إما بتجارة، وإما بصناعة من الذهب والفضة، ويعني بالطيبات: الجياد. يقول: زكوا أموالكم التي اكتسبتموها حلالاً، وأعطوا في زكاتكم الذهب والفضة، الجياد منها دون الرديء. عن عبد الله بن معقل: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قال: ليس في مال المؤمن من خبيث، ولكن لا تيمموا الخبيث منه تنفقون.
{ومِمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ}: وأنفقوا أيضا مما أخرجنا لكم من الأرض، فتصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير، وما أوجبت فيه الصدقة من نبات الأرض.
{وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ}: ولا تعمدوا ولا تقصدوا. {وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}: الرديء غير الجيد، يقول: لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم، فتصدّقوا منه، ولكن تصدّقوا من الطيب الجيد. وذلك أن هذه الآية نزلت في سبب رجل من الأنصار علق قِنْوا من حَشَف في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم صدقة من تمره... عن البراء بن عازب في قول الله عزّ وجلّ {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} إلى قوله: {وَاللّهُ غَنِيّ حَمِيدٌ} قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر، يظنّ أن ذلك جائز، فأنزل الله عزّ وجلّ فيمن فعل ذلك: {وَلا تَيَمّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}: قال لا تيمموا الحَشَفَ منه تنفقون، ولو أهدي إليكم ما قبلتموه.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تيمموا الخبيث من الحرام منه تنفقون، وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب. وتأويل الآية: هو التأويل الذي حكيناه عمن حكينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق أهل التأويل في ذلك.
{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}: ولستم بآخذي الخبيث في حقوقكم. والهاء في قوله: {بآخِذِيهِ} من ذِكر الخبيث. {إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}: إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم، فترخصوا فيه لأنفسكم، يقال منه: أغمض فلان لفلان عن بعض حقه فهو يغمض.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم. وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث إذا اشتريتموه من أهله بسعر الجيد إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه. وقال آخرون: معناه: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث لو أهدي لكم إلا أن تغمضوا فيه، فتأخذوه وأنتم له كارهون على استحياء منكم ممن أهداه لكم. وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم. وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على ما فيه من الإثم عليكم في أخذه.
والذي هو أولى بتأويل ذلك عندنا أن يقال: إن الله عزّ وجلّ حثّ عباده على الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم وفرضها عليهم فيها، فصار ما فرض من ذلك في أموالهم حقا لأهل سهمان الصدقة، ثم أمرهم تعالى ذكره أن يخرجوا من الطيبِ، وهو الجيد من أموالهم، الطيبَ، وذلك أن أهل السهمان شركاء أرباب الأموال في أموالهم بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها، فلا شكّ أن كل شريكين في مال فلكلّ واحد منهما بقدر ملكه، وليس لأحدهما منع شريكه من حقه من الملك الذي هو فيه شريكه بإعطائه بمقدار حقه منه من غيره، مما هو أردأ منه أو أخسّ، فكذلك المزكي ماله حرم الله عليه أن يعطي أهل السهمان مما وجب لهم في ماله من الطيب الجيد من الحقّ، فصاروا فيه شركاء من الخبيث الرديء غيره، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيب من ماله الجيد، كما لو كان مال ربّ المال رديئا كله غير جيد، فوجبت فيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فيه شركاء بما أوجب الله لهم فيه لم يكن عليه أن يعطيهم الطيب الجيد من غير ماله الذي منه حقهم، فقال تبارك وتعالى لأرباب الأموال: زكوا من جيد أموالكم الجيد، ولا تيمموا الخبيث الرديء، تعطونه أهل سهمان الصدقة، وتمنعونهم الواجب لهم من الجيد الطيب في أموالكم، ولستم بآخذي الرديء لأنفسكم مكان الجيد الواجب لكم قِبل من وجب لكم عليه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لأخذه. يقول: ولا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في أموالكم حقّ ما لا ترضون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم الواجبة لكم في أموالهم فأما إذا تطوّع الرجل بصدقة غير مفروضة فإني وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه لأن الله عزّ وجلّ أحقّ من تقرّب إليه بأكرم الأموال وأطيبها، والصدقة قربان المؤمن، فلست أحرّم عليه أن يعطي فيها غير الجيد، لأن ما دون الجيد ربما كان أعمّ نفعا لكثرته، أو لعظم خطره، وأحسن موقعا من المسكين، وممن أعطيه قربة إلى الله عزّ وجلّ من الجيد، لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه.
{وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ}: واعلموا أيها الناس أن الله عزّ وجلّ غنيّ عن صدقاتكم وعن غيرها، وإنما أمركم بها، ورفضها في أموالكم، رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم، ويقوّي بها ضعيفكم، ويجزل لكم عليها في الاَخرة مثوبتكم، لا من حاجة به فيها إليكم. ويعني بقوله: {حَمِيدٌ} أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله... عن البراء بن عازب في قوله: {وَاللّهُ غَنِيّ حَمِيدٌ} عن صدقاتكم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لينظرْ كلُّ واحد ما الذي ينفقه لأجل نفسه، وما الذي يخرجه بأمر ربه. والذي يخرج عليك من ديوانك: فما كان لحظِّك فنفائس ملكك، وما كان لربك فخصائص مالك الذي لله (فاللُّقْمَةُ لُقْمَتُه)، والذي لأجلك فأكثرها قيمة وأكملها نعمة. ثم أبصر كيف يستر عليك بل كيف يقبله منك بل أبصر كيف يعوضك عليه، بل أبصر كيف يقلبه منك، بل أبصر كيف يمدحك، بل أبصر كيف ينسبه إليك؛ الكلُّ منه فضلاً لكنه ينسبه إليك فعلاً، ثم يُولِي عليك عطاءه ويسمي العطاء جزاءً، يوسعك بتوفيقه بِرًّاً، ثم يملأ العَالَم منك شكراً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا الخطاب هو لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه صيغة أمر من الإنفاق، واختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق، الزكاة المفروضة أو التطوع... والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب...
و {حميد} معناه محمود في كل حال...
اختلفوا في المراد بالطيب في هذه الآية على قولين:
القول الأول: أنه الجيد من المال دون الرديء، فأطلق لفظ الطيب على الجيد على سبيل الاستعارة، وعلى هذا التفسير فالمراد من الخبيث المذكور في هذه الآية الرديء.
والقول الثاني: وهو قول ابن مسعود ومجاهد: أن الطيب هو الحلال، والخبيث هو الحرام حجة الأول وجوه:
الحجة الأولى: إنا ذكرنا في سبب النزول أنهم يتصدقون برديء أموالهم فنزلت الآية وذلك يدل على أن المراد من الطيب الجيد.
الحجة الثانية: أن المحرم لا يجوز أخذه لا بإغماض ولا بغير إغماض، والآية تدل على أن الخبيث يجوز أخذه بالإغماض قال القفال رحمه الله: ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الإغماض المسامحة وترك الاستقصاء، فيكون المعنى: ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام، ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال، أمن حلاله أو من حرامه.
الحجة الثالثة: أن هذا القول متأيد بقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] وذلك يدل على أن المراد بالطيبات الأشياء النفيسة التي يستطاب ملكها، لا الأشياء الخسيسة التي يجب على كل أحد دفعها عن نفسه وإخراجها عن بيته.
واحتج القاضي للقول الثاني فقال: أجمعنا على أن المراد من الطيب في هذه الآية إما الجيد وإما الحلال، فإذا بطل الأول تعين الثاني، وإنما قلنا إنه بطل الأول لأن المراد لو كان هو الجيد لكان ذلك أمرا بإنفاق مطلق الجيد سواء [أكان] حراما [أم] حلالا وذلك غير جائز والتزام التخصيص خلاف الأصل... فثبت أن المراد ليس هو الجيد بل الحلال، ويمكن أن يذكر فيه قول ثالث وهو أن المراد من الطيب ههنا ما يكون طيبا من كل الوجوه فيكون طيبا بمعنى الحلال، ويكون طيبا بمعنى الجودة...
ومعنى حميد، أي محمود على ما أنعم بالبيان وفيه وجه آخر، وهو أن قوله {غنى} كالتهديد على إعطاء الأشياء الرديئة في الصدقات و {حميد} بمعنى حامد أي أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات وهو كقوله {فأولئك كان سعيهم مشكورا}...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ} عن إنفاقكم وإنما يأمرُكم به لمنفعتكم. وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمِهم به توبيخٌ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذانٌ بأن ذلك من آثار الجهلِ بشأنه تعالى فإن إعطاءَ مثلِه إنما يكون عادةً عند اعتقادِ المعطي أن الآخذَ محتاجٌ إلى ما يعطيه بل مضطرٌ إليه {حَمِيدٌ} مستحِقٌّ للحمد على نعمه العِظام وقيل: حامد بقبول الجيّد والإثابة عليه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
حثت الآيات السابقة على الصدقة والإنفاق في سبيل الله أبلغ حث وآكده وأرشدت إلى ما يجب أن يتصف به المنفق عند البذل من الإخلاص وقصد تثبيت النفس وما يجب أن يتقيه بعد البذل وهو المن الأذى، فكان ذلك إرشادا يتعلق بالبذل والباذل. ثم أراد تعالى أن يبين لنا ما ينبغي مراعاته في المبذول ليكمل الإرشاد في هذا المقام فقال: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} فبين نوع ما ينفق ويبذل ووصفه. أما الوصف فهو أن يكون من الطيبات والطيب هو الجيد المستطاب وضده الخبيث المستكره. ولذلك قال في مقابل هذا الأمر {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} أصل تيمموا تتيمموا. ومن العجيب أن يختلف المفسرون في تفسير الطيب هل يراد به ما ذكر أم هو معنى الحلال وأن يرجح بعض المعروفين بالتدقيق منهم الثاني، وبعضهم أنه ورد هنا بالمعنيين على أن بعضهم عزا الأول إلى الجمهور.
نعم إن كل جيد وحسن يوصف بالطيب وإن كان حسنه معنويا فيقال البلد الطيب والأكل الطيب، ولكن أسلوب الآية يأبى أن يراد بالطيبات هنا أنواع الحلال وبالخبيث المحرم وقواعد الشرع لا ترضاه. وما ورد في سبب نزول الآية يؤيد أسلوبها وهو أن بعض المسلمين كانوا يأتون بصدقتهم من حشف التمر وهو رديئه رواه ابن جرير عن البراء بن عازب وفي رواية عن الحسن "كانوا يتصدقون من رذالة مالهم "وفي أخرى عن علي رضي الله عنه "نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء" وقد أورده ابن جرير في ذلك عدة روايات.
والمعنى أنفقوا من جياد أموالكم ولا تيمموا أي تقصدوا الخبيث فتجعلوا صدقتكم منه خاصة دون الجيد فهو نهي عن تعمد حصر الصدقة في الخبيث ولا يدل على منع التصدق به من غير تعمد ولا حصر ولو أريد بالخبيث الحرام، لنهى عن الإنفاق منه البتة لا عن قصد التخصيص فقط أما وقد جاءت الآية بالأمر بالإنفاق ن الطيبات من غير حصر للنفقة فيها وبالنهي عن تحري الإنفاق من الخبيث خاصة دون الطيب لا عن مطلق الإنفاق من الخبيث فلا يجوز مع هذا أن يراد بالطيبات الحلال وبالخبيث المحرم. على أن الأصل في مال المؤمنين أن يكون حلالا وإنما خوطبوا بالإنفاق مما في أيديهم فلو أريد بالطيبات والخبيث ما ذكر لكان الخطاب مبنيا على أن أموال المؤمنين فيها الحلال والحرام وكان منطوق الآية أنفقوا من الحلال ولا تتحروا جعل صدقاتكم من الحرام وحده ومفهومها جواز التصدق بالحرام أيضا وهذا ما يأباه النظم الكريم، والشرع القويم، ثم إن ما اخترناه مؤيد بقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] وبوصف الرزق بالحلال والطيب معا في آيات كثيرة وبمثل قوله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات} [المائدة: 5] وقوله: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف 17] والآيات في هذا المعنى كثيرة. فهل تقول إن المعنى يحل لهم الحلال ويحرم عليهم الحرام وهو من تحصيل الحاصل؟ واعلم أن الخبيث الذي حرم أخص من الخبيث الذي ينهى عن تحري التفقه فيه، فإن المحرم ما كانت رداءته ضارة كالدم ولحم الخنزير.
وأما قوله تعالى: {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} فهو حجة على من ينفق الخبيث في سبيل الله تشعر بالتوبيخ والتقريع، أي كيف تقصدون الخبيث منه تتصدقون ولستم تَرضونَ بمثله لأنفسكم إلا أن تتساهلوا فيه تساهل من أغمض عينيه عنه فلم ير الغيب فيه؟ ولن يرضى ذلك لنفسه أحد إلا وهو يرى أنه مغبون مغموض الحق. وقد صوروه فيمن له حق عند امرئ فرد عليه بدلا عنه ما هو دونه جودة وهو يكون في غير الحقوق أيضا فالرديء لا يقبل هداية إلا بإغماض فيه وتساهل مع المهدي، لأن إهداء الرديء يشعر بقلة احترام المهدى إليه، وما يبذل في سبيل الله وابتغاء مرضاته هو كالمعطى له فيجب على المؤمن أن يجعله من أجود ما عنده وأحسنه ليكون جديرا بالقبول. فإن الذي يقبل الرديء مغمضا فيه إنما يقبله لحاجته إلى قبوله والله تعالى لا يحتاج فيغمض ولذلك قال: {واعلموا أن الله غني حميد} فلا يصح أن يتقرب إليه بما لا يقبله لرداءته إلا فقير اليد أو فقير النفس الذي لا يبالي أن يرضى بما ينافي الحمد كقبول الرديء الذي يدل على عدم التعظيم والاحترام.
وأما نوع ما ينفق فهو بعض ما يجنيه المرء بعمله ككسب الفعلة والتجار والصناع وبعض ما يخرج من الأرض من غلات الحبوب وثمرات الشجر والمعادن والركاز، وهو ما كان دفن في الأرض قبل الإسلام. وقد أسند إليه تعالى ما يخرج من الأرض مع أن للإنسان فيه كسبا لأن العمدة فيه فضل الله تعالى لا مجرد حرث الإنسان وبزره، على أن منه ما ليس للناس فيه عمل ما، أو ما لهم فيه إلا عمل قليل لا يكاد يذكر. قال بعضهم إن تقديم الكسب على ما يخرج الله من الأرض يدل على تفضيله ويعضده حديث البخاري مرفوعا "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده" واختلفوا في الإنفاق هنا. فقيل هو خاص بالزكاة المفروضة وقيل خاص بالتطوع، وقيل يعمهما وهو الصواب. إذ لا دليل على التخصيص.
واختلف الذين قالوا إن الآية في الزكاة المفروضة هل تجب الزكاة في كل ما يخرجه الله للناس من الأرض عملا بعموم اللفظ أم يخص ببعض ذلك. واختلف القائلون بالتخصيص فقال بعضهم إنه خاص بما يقتات به دون نحو الفاكهة والبقول، وقال بعضهم غير ذلك. والآية في نفسها جلية واضحة لا مثار للخلاف فيها وإنما جاء الخلاف من حملها على زكاة الفريضة مع إضافة ما ورد من الروايات القولية في زكاة ما تخرج الأرض إليها. ومن جردها عن الآراء والروايات فهم منها أن الله تعالى يأمرنا بأن ننفق من كل ما ينعم به علينا من الرزق سواء كان سببه كسب أيدينا أو ما يخرجه لنا من نبات الأرض ومعادنها، كل ذلك فضل منه يجب شكره له بنفقة بعض الجيد منه في سبيله وابتغاء مرضاته. والآية لم تخصص ولم تعين مقدار ما ينفق بل وكلته إلى رغبة المؤمن في شكر الله تعالى فإن ورد دليل آخر يعين بعض النفقات فله حكمه.
أقول: لم يبق بعد هذا الترغيب والترهيب، والتعليم الكامل والتأديب، إلا أن يكون المؤمن بهذا الهدى أشد الناس رغبة في الصدقة والإنفاق في سبيل الله بحسب سعته وحاله وأن يكون في بذله مخلصا متحريا مواقع الفائدة مبتعدا بعد البذل عما يذهب بثمرته من المن والأذى. ولكنك تجد كثيرا من اللابسين لباس الإيمان يتقلبون في النعم وهم أشد الناس كفرا، إذ كانوا أشد الناس إمساكا وبخلا، وقد يعد هذا من مواطن العجب، ولكن الكتاب الحكيم قد جاءنا بما له من العلة والسبب، وأرشدنا إلى طريق التفصي منه والهرب، فقال: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم * يؤتي الحكمة من يشاء ومن يُؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب*}
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي السياق خطوة أخرى في دستور الصدقة. ليبين نوعها وطريقتها، بعد ما بين آدابها وثمارها: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون. ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، واعلموا أن الله غني حميد}..
إن الأسس التي تكشفت النصوص السابقة عن أن الصدقة تقوم عليها وتنبعث منها لتقتضي أن يكون الجود بأفضل الموجود؛ فلا تكون بالدون والرديء الذي يعافه صاحبه؛ ولو قدم إليه مثله في صفقة ما قبله إلا أن ينقص من قيمته. فالله أغنى عن تقبل الرديء الخبيث! وهو نداء عام للذين آمنوا -في كل وقت وفي كل جيل- يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم. تشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب، وما أخرجه الله لهم من الأرض من زرع وغير زرع مما يخرج من الأرض ويشمل المعادن والبترول. ومن ثم يستوعب النص جميع أنواع المال، ما كان معهودا على عهد النبي [ص] وما يستجد. فالنص شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان. وكله مما يوجب النص فيه الزكاة. أما المقادير فقد بينتها السنة في أنواع الأموال التي كانت معروفة حينذاك. وعليها يقاس وبها يلحق ما يجد من أنواع الأموال...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إفضاء إلى المقصود وهو الأمرُ بالصدقات بعد أن قُدم بين يديه مواعظ وترغيبٌ وتحذير. وهي طريقة بلاغية في الخطابة والخِطاب. فربما قدموا المطلوب ثم جاؤوا بما يكسبه قبولاً عند السامعين، وربما قدموا ما يكسب القبولَ قبل المقصود كما هنا. وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجُمل، ونكتة ذلك أنّه قد شاع بين الناس الترغيب في الصدقة وتكرّر ذلك في نزول القرآن فصار غرضاً دينياً مشهوراً، وكان الاهتمام بإيضاحه والترغيب في أحواله والتنفير من نقائصه أجدر بالبيان.
والخبيث الشديد سُوءاً في صنفه فلذلك يطلق على الحرام وعلى المستقذر قال تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157] وهو الضدّ الأقصى للطيّب فلا يطلق على الرديء إلاّ على وجه المبالغة، ووقوع لفظه في سياق النهي يفيد عموم ما يصدق عليه اللفظ. والمراد بما أخرج من الأرض الزروع والثمار، فمنه ما يخرج بنفسه، ومنه ما يعالج بأسبابه كالسقي للشجر والزرع، ثم يخرجه الله بما أوجد من الأسباب العادية.
والغني الذي لا يحتاج إلى ما تكثر حاجة غالب الناس إليه، ولِلَّهِ الغنى المطلق فلا يعطى لأجله ولامتثال أمره إلاّ خير ما يعطيه أحد للغَنِي عن المال. والحميد من أمثلة المبالغة، أي شديد الحَمد؛ لأنه يثني على فاعلي الخيرات. ويجوز أن يكون المراد أنّه محمود، فيكون حَميد بمعنى مفعول، أي فتخلَّقُوا بذلك لأنّ صفات الله تعالى كمالات، فكونوا أغنياء القلوب عن الشحّ محمودين على صدقاتكم، ولا تعطوا صدقات تؤذن بالشحّ ولا تشكرون عليها.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين سبحانه وتعالى الإنفاق الذي يعد برا، ويؤتي ثمراته في الدنيا والآخرة، وهو الإنفاق ابتغاء مرضاة الله تعالى لا ابتغاء تسهيل مطلب من مطالب الدنيا، ولا طلبا لجاه، ولا ملقا لذي جاه، ويشترط في ثواب الآخرة مع ذلك ألا يعقب العطاء منّ أو أذى، فلا يشعر المعطي من أعطاه بمنة العطاء، ويستكثر عليه ما أعطاه، ولا يؤذيه بإعلان عطائه أو توجيه كلمات مذلة، فحسبه أن يده هي الدنيا، ويد المعطي العليا، والنبي صلى الله عليه و سلم قال:"اليد العليا خير من اليد السفلى" فلا يصح أن يجمع عليه بين هذا الضعف مع المن وأذى الكشف والإعلان في مواطن لا يحسن الإعلان فيها... فقال تعالت كلماته: {يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} ابتدأ سبحانه بالنداء بالبعيد للدلالة على عموم النداء للمؤمنين في كل الأجيال من وقت البعث المحمدي إلى يوم القيامة، وكان النداء للمؤمنين لبيان أن من أخلاق أهل الإيمان أن يتصدقوا من الطيب لا من الخبيث، ومما تحبه النفس لا مما تزهد فيه، فليس من مقتضيات الإيمان في شيء أن يجيء الرجل إلى أخبث ماله أو الخبيث فينفق منه لزهادته فيه، ولرغبته عنه، وعدم الاتجاه إلى الانتفاع به، إذ لا يكون فيه معاناة لعمل الخير، ولا مصابرة في إرادته، ولا جهاد نفسي للحمل على الفعل، والأجر على قدر كف النفس عن الهوى، ومشقة الإرادة في التغلب عليه...
هذا هو المعنى الذي اختاره جمهور العلماء لهذا النص الكريم، وهو المعنى القويم الذي يتفق مع سياق الآية وموضوعها، ويزكيه قوله تعالى: {من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} فإن الكسب إذا ذكر مقرونا بما يلقيه سبحانه وتعالى في الأرض ويضعه لنا من نفائس في باطن الأرض، وزرع نضير، وغراس مثمر، إن هذا يدل حينئذ على أن المال كله حلال، وأنه يقصد إلى طيبه أو رديئه فينفق منه، فبين أن ذلك الكسب الحلال لا يتخير في الإنفاق منه إلا جيده، فلا تجعل حصة الفقير إلا أجوده، إن المال الذي كسبته رزقا حلالا: قسم هو حق الفقير والمسكين واليتيم وقد تولى الله عنهم مطالبتك به، وقسم هو لك ولأولادك ومن تعول...
وفي كل شيء صدقة، في المال المكسوب بالجهد صدقة، وفي المال الذي يخرج من الأرض صدقة، وفي العمل نفسه صدقة، فعلى الطبيب أن يجعل جزءا من عمله صدقة بأن يداوي المرضى، وعلى المدرس أن يجعل جزءا من عمله للصدقة بالإرشاد والتوجيه، وعلى الصانع أن يجعل جزءا من عمله صدقة كالإسهام بعمله في بناء مسجد أو مستشفى أو نحوهما، وهكذا ففي الآية الكريمة إشارة إلى كل هذا...
و بعض المفسرين لا يقصر ما تخرجه الأرض على الزرع والشجر، والحشائش التي يتغذى منها ذات الضرع وذات الحافر، بل يتجاوز إلى ما يكون في باطن الأرض من معادن وفلزات، وسواء مما تقوم عليه الثروات عند بعض الأمم، ومما صار أساس العمران في عصرنا الحاضر، فإن أولئك المفسرين الأجلاء أدخلوا ذلك في عموم قوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} وإن ذلك صادق بلا ريب، وهو نظر مستقيم...
{واعلموا أن الله غني حميد} ختم سبحانه وتعالى الآية بهذه الجملة السامية، وهي تتضمن التذكير بالله تعالى ذي الجلال والإكرام، وإشعارهم برقابته على أفعالهم وصدقاتهم، ولذا ذكر لفظ الجلالة الذي يربي المهابة وخشيته سبحانه في النفوس؛ لأنه المعبود وحده، المسيطر على كل ما في الوجود وحده، وقد تضمنت الجملة وصف الله سبحانه وتعالى بوصفين كريمين مناسبين: أولهما: وصفه بأنه سبحانه غني، فمن يعطي الفقراء فهو يقرض غنيا يضاعف ما أقرض عند العطاء، وهو غني فلا يقبل إلا الجيد الذي يقدم بنفس سمحة، وبقلب مطمئن ممن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وهو الحميد، أي الذي يستحق أن يحمد، ولا يحمد سواه؛ لأنه المعطي الوهاب، فهو الذي وهب الغني غناه، واختبر الفقير بفقره، وكان حقا على من أعطاه أن يحمده، والحمد أن يجود من ماله سمحا في جوده، قاصدا إلى الطيب من ماله يجود به، فإن خالف ذلك فقد أخطأ مرتين: مرة لأنه لم يقرض الله قرضا حسنا، وهو الغني المعطي، ومرة ثانية، لأنه أخل بواجب الحمد، فالاعتراف بالنعمة للمنعم كان يوجب عليه أن يعطي خير ما في يده، ورجاء الثواب، ورجاء دوام هذه النعمة، كان يوجب عليه مضاعفة العطاء، لا تحري البخس منه...
إن هذه الآية تعطي صورا تحدث في المجتمع البشري. وكانت هذه الصور تحدث في مجتمع المدينة بعد أن أسس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام. فبعض من الناس كانوا يحضرون العذق من النخل ويعلّقه في المسجد من أجل أن يأكل منه من يريد، والعذق هو فرع قوي من النخل يضم الكثير من الفروع الصغيرة المعلقة عليها ثمار البلح. وكان بعضهم يأتي بعذق غير ناضج أو بالحَشَف وهو أردأ التمر، فأراد الله أن يجنبهم هذا الموقف، حتى لا يجعلوا لله ما يكرهون، فأنزل هذا القول الحكيم: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم}... لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يوضح لنا بهذه الصور أوجه الإنفاق:
- إن النفقة لا تنقص المال وإنما تزيده سبعمائة مرة.
- إن النفقة لا يصح أن يبطلها الإنسان بالمن والأذى.
- إن القول المعروف خير من الصدقة المتبوعة بالمن أو الأذى.
- إن الإنفاق لا يكون رئاء الناس إنما يكون ابتغاءً لمرضاة الله.
هذه الآيات الكريمة تعالج آفات الإنفاق سواءً آفة الشُّح أو آفة المن أو الأذى، أو الإنفاق من أجل التظاهر أمام الناس، أو الإنفاق من رديء المال...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
القرآن يخطط للإنفاق: النوعية والمورد والكيفية وهذه جولة جديدة في تفاصيل المفهوم الإسلامي للإنفاق من حيث نوعية المال الذي ينفقه الإنسان، والأشخاص الذين يستحقون ذلك، ومن حيث جانب السرّ والعلانية في الإنفاق. فإن الحديث في مثل هذه الأمور يوحي بالخط المستقيم الذي ينبغي للمؤمن أن يسير عليه من أجل أن يكون منتجاً في طبيعته وغايته...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الأموال التي يمكن إنفاقها: شرحت الآيات السابقة ثمار الإنفاق وصفات المنفقين والأعمال التي قد تبطل أعمال الإنفاق الإنسانية في سبيل الله. وهذه الآية تبيّن نوعيّة الأموال التي يمكن أن تنفق في سبيل الله. في بداية الآية يأمر الله المؤمنين أن ينفقوا {من طيبات} أموالهم. و «الطيب» في اللغة هو الطاهر النقي من الناحية المعنوية والمادّية، أي الأموال الجيدة النافعة والتي لا شبهة فيها من حيث حلّيتها. ويؤيّد عمومية الآية الروايتان المذكورتان في سبب النزول. كما انّ جملة {لستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا فيه} أي أنكم أنفسكم لا تأخذون غير الطيّب من المال إلاَّ إذا أغمضتم أعينكم كارهين، دليل على أنّ المقصود ليس الطهارة الظاهريّة فقط، لأنّ المؤمنين لا يقبلون مالاً تافهاً ملوّثاً في ظاهره، كما لا يقبلون مالاً مشبوهاً مكروهاً إلاَّ بالإكراه والتغاضي...
لا شكّ أنّ الإنفاق في سبيل الله هو من أجل نيل القرب من ساحته المقدّسة، وعندما يريد الناس التقرّب إلى السلاطين وأصحاب النفوذ فإنّهم يقدّمون إليهم هدايا من أفضل أموالهم وأحسن ثرواتهم، في حين أنّ هؤلاء السلاطين أناسٌ مثلهم فكيف يتقرّب الإنسان إلى ربّه وخالقه وربّ السموات والأرض بتقديم بعض أمواله الدنيئة هديّة؟ ! فما نرى في الأحكام الشرعيّة من وجوب كون الزكاة وحتّى الهديّ في الحجّ من المرغوب والجيّد يدخل في دائرة هذا الاعتبار. وعلى كلّ حال يجب الالتزام [بهذه التعاليم] ونشر هذه الثقافة القرآنية بين صفوف المسلمين في إنفاقهم الجيّد من الأموال...