في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَدِ ٱفۡتَرَيۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِي مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ} (89)

59

( قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها ) . .

إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت و الجاهلية ، التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة للّه وحده ، والتي يتخذ الناس فيها أرباباً من دون اللّه يقرون لهم بسلطان اللّه . . إن الذي يعود إلى هذه الملة - بعد إذ قسم اللّه له الخير وكشف له الطريق ، وهداه إلى الحق ، وأنقذه من العبودية للعبيد - إنما يؤدي شهادة كاذبة على اللّه ودينه . شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة اللّه خيراً فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت ! أو مؤداها - على الأقل - أن لملة الطاغوت حقاً في الوجود ، وشرعية في السلطان ؛ وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان باللّه . فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن باللّه . . وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى ، ولم يرفع راية الإسلام . شهادة الاعتراف براية الطغيان . ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان اللّه في الحياة !

وكذلك يستنكر شعيب - عليه السلام - ما يتهدده به الطغاة من إعادته هو والذين آمنوا معه إلى الملة التي أنجاهم اللّه منها :

( وما يكون لنا أن نعود فيها ) . .

وما من شأننا أصلاً ؛ وما ينبغي لنا قطعاً أن نعود فيها . . يقولها وأمامه التهديد الذي يزاوله الطاغوت في كل أرض مع الجماعة المسلمة ، التي تعلن خروجها عن سلطانه ، ودينونتها للّه وحده بلا شريك معه أو من دونه .

إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة للّه وحده - مهما عظمت وشقت - أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت ! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة - مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق ! - إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة ! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته فهذه " الإنسانية " لا توجد ، والإنسان عبد للإنسان - وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان ؟ ! . . وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به ، ورضاه أو غضبه عليه ؟ ! . . وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته ؟ ! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان ؟ !

على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة . . إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس - في حكم الطواغيت - أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج . كما يكلفهم أولادهم إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات . فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها ، فيذبحهم على مذبح هواه ، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه ! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية . . حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت ، سواء في صورة الغصب المباشر - كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ - أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهباً مباحاً للشهوات تحت أي شعار ! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار . . والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون اللّه . إنما يعيش في وهم ، أو يفقد الإحساس بالواقع !

إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال . . ومهما تكن تكاليف العبودية للّه ، فهيأربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة . فضلاً على وزنها في ميزان اللّه . .

يقول السيد أبو الأعلى المودودي في كتاب : " الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية " :

" . . . وكل من له أدنى بصيرة بمسائل الحياة الإنسانية ، لا يخفى عليه أن المسألة - التي تتوقف عليها قضية صلاح الشؤون البشرية وفسادها - إنما هي مسألة زعامة الشؤون البشرية ومن بيده زمام أمرها . وذلك كما تشاهد في القطار أنه لا يجري إلا إلى الجهة التي يوجهه إليها سائقه ، وأنه لا بد للركاب أن يسافروا - طوعاً أو كرهاً - إلى تلك الجهة نفسها . فكذلك لا يجري قطار المدنية الإنسانية إلا إلى جهة يوجهه إليها من بأيديهم زمام أمر تلك المدنية . ومن الظاهر البين أن الإنسانية بمجموعها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تأبى السير على تلك الخطة التي رسمها لهم الذين بأيديهم وسائل الأرض وأسبابها طراً ، ولهم الهيمنة كل الهيمنة على أزمة الأمر ، وبيدهم السلطة المطلقة في تدبير شؤون الإنسانية ، وتتعلق بأذيالهم نفوس الجماهير وآمالهم ، وهم يملكون أدوات تكوين الأفكار والنظريات وصوغها في قوالب يحبونها ، وإليهم المرجع في تنشئة الطباع الفردية ، وإنشاء النظام الجماعي ، وتحديد القيم الخلقية . فإذا كان هؤلاء الزعماء والقواد ممن يؤمنون باللّه ويرجون حسابه . . فلا بد لنظام الحياة بأسره أن يسير على طريق من الخير والرشد والصلاح ، وأن يعود الخبثاء الأشرار إلى كنف الدين ويصلحوا شؤونهم . وكذلك تنمو الحسنات ويزكو غراسها ، وأقل ما يكون من تأثير المجتمع في السيئات أنها لا تربو . إن لم تمحق وتنقرض آثارها . وأما إذا كانت هذه السلطة - سلطة الزعامة والقيادة والإمامة - بأيدي رجال انحرفوا عن اللّه ورسوله ، واتبعوا الشهوات ، وانغمسوا في الفجور والطغيان ، فلا محالة أن يسير نظام الحياة بقضه وقضيضه على البغي والعدوان والفحشاء ، ويدب دبيب الفساد والفوضى في الأفكار والنظريات والعلوم والآداب والسياسة والمدنية والثقافة والعمران والأخلاق والمعاملات والعدالة والقانون برمتها ، وتنمو السيئات ويستفحل أمرها . . . "

. . . " والظاهر أن أول ما يطالب به دين اللّه عباده ، أن يدخلوا في عبودية الحق كافة مخلصين له الطاعة والانقياد ، حتى لا يبقى في اعناقهم قلادة من قلائد العبودية لغير اللّه تعالى . ثم يتطلب منهم ألا يكون لحياتهم قانون إلا ما أنزله اللّه تعالى ، وجاء به الرسول الأمي الكريم - [ ص ] - ثم إن الإسلام يطالبهم أن ينعدم من الأرض الفساد ، وتستأصل شأفة السيئات والمنكرات الجالبة على العباد غضب اللّه تعالى وسخطه . وهذه الغايات السامية لا يمكن أن يتحقق منها شيء ما دامت قيادة أبناء البشر وتسيير شؤونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال ؛ ولا يكون من أمر أتباع الدين الحق وأنصاره إلا أن يستسلموا لأمر هؤلاء وينقادوا لجبروتهم ، يذكرون اللّه قابعين في زواياهم ، منقطعين عن الدنيا وشؤونها ، مغتنمين ما يتصدق به هؤلاء الجبابرة عليهم من المسامحات والضمانات ! ومن هنا يظهر ما للإمامة الصالحة وإقامة نظام الحق من أهمية خطيرة تجعلها من غايات الدين وأسسه . والحق أن الإنسان لا يمكنه أن يبلغ رضي اللّه تعالى بأي عمل من أعماله إذا تناسى هذه الفريضة وتقاعس عن القيام بها . . ألم تروا ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر الجماعة ولزومها والسمع والطاعة ، حتى إن الإنسان ليستوجب القتل إذا خرج من الجماعة - ولو قيد شعرة - وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم . وهل لذلك من سبب سوى أن غرض الدين الحقيقي وهدفه إنما هو إقامة نظام الحق ، والإمامة الراشدة وتوطيد دعائمه في الأرض . وكل ذلك يتوقف تحققه على القوة الجماعية ، والذي يضعضع القوة الجماعية ويفت في عضدها ، يجني على الإسلام وأهله جناية لا يمكن جبرها وتلافيها بالصلاة ولا بالإقرار بكلمة التوحيد . . ثم انظروا إلى ما كسب " الجهاد " من المنزلة العالية والمكانة الرفيعة في الدين ، حتى إنالقرآن ليحكم " بالنفاق " على الذين ينكلون عنه ويثاقلون إلى الأرض . ذلك أن " الجهاد " هو السعي المتواصل والكفاح المستمر في سبيل إقامة نظام الحق ، ليس غير . وهذا الجهاد هو الذي يجعله القرآن ميزاناً يوزن به إيمان الرجل وإخلاصه للدين . وبعبارة أخرى أنه من كان يؤمن باللّه ورسوله لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل ، أو يقعد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة نظام الحق . . فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب ، فاعلم أنه مدخول في إيمانه ، مرتاب في أمره ، فكيف ينفعه عمل من أعماله بعد ذلك ؟ " . . .

. . . " إن إقامة الإمامة الصالحة في أرض اللّه لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام . فكل من يؤمن باللّه ورسوله ويدين دين الحق ، لا ينتهي عمله بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام ، ولا تبرأ ذمته من ذلك فحسب ، بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكافرين والفجرة والظالمين حتى يتسلمه رجال ذوو صلاح ممن يتقون اللّه ، ويرجون حسابه ، ويقوم في الأرض ذلك النظام الحق المرضيّ عند اللّه الذي به صلاح أمور الدنيا وقوام شؤونها " . .

إن الإسلام حين يدعو الناس إلى انتزاع السلطان من أيدي غاصبيه من البشر ورده كله للّه ، إنما يدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم وتحرير رقابهم من العبودية للعبيد ؛ كما يدعوهم إلى إنقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم . . إنه يكلفهم أعباء المعركة مع الطاغوت - تحت رايته - بكل ما فيها من تضحيات ؛ ولكنه ينقذهم من تضحيات أكبر وأطول ، كما أنها أذل وأحقر ! . . إنه يدعوهم للكرامة ، وللسلامة ، في آن . .

لذلك قالها شعيب عليه السلام مدوية حاسمة :

( قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها ، وما يكون لنا أن نعود فيها )

ولكن شعيباً بقدر ما يرفع رأسه ، وبقدر ما يرفع صوته ، في مواجهة طواغيت البشر من الملأ الذين استكبروا من قومه . . بقدر ما يخفض هامته ، ويسلم وجهه في مواجهة ربه الجليل ، الذي وسع كل شيء علماً . فهو في مواجهة ربه ، لا يتألى عليه ولا يجزم بشيء أمام قدره ، ويدع له قياده وزمامه ، ويعلن خضوعه واستسلامه :

( إلا أن يشاء اللّه ربنا ، وسع ربنا كل شيء علماً ) . .

إنه يفوض الأمر للّه ربه ، في مستقبل ما يكون من أمره وأمر المؤمنين معه . . إنه يملك رفض ما يفرضه عليه الطواغيت ، من العودة في ملتهم ؛ ويعلن تصميمه والمؤمنين معه على عدم العودة ؛ ويعلن الاستنكار المطلق للمبدأ ذاته . . ولكنه لا يجزم بشيء عن مشيئة اللّه به وبهم . . فالأمر موكول إلى هذه المشيئة ، وهو والذين آمنوا معه لا يعلمون ، وربهم وسع كل شيء علماً . فإلى علمه ومشيئته تفويضهم واستسلامهم .

إنه أدب ولي اللّه مع اللّه . الأدب الذي يلتزم به أمره ، ثم لا يتألى بعد ذلك على مشيئته وقدره . ولا يتأبى على شيء يريده به ويقدره عليه .

وهنا يدع شعيب طواغيت قومه وتهديدهم ووعيدهم ، ويتجه إلى وليه بالتوكل الواثق ، يدعوه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق :

( على اللّه توكلنا . ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق . وأنت خير الفاتحين ) . .

وهنا نشهد ذلك المشهد الباهر : مشهد تجلي حقيقة " الألوهية " في نفس ولي اللّه ونبيه . .

إنه يعرف مصدر القوة ، وملجأ الأمان . ويعلم أن ربه هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والطغيان . ويتوكل على ربه وحده في خوض المعركة المفروضة عليه وعلى المؤمنين معه ، والتي ليس منها مفر . إلا بفتح من ربه ونصر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَدِ ٱفۡتَرَيۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِي مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ} (89)

والظاهر في قوله : { قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم } أنه خبر منه أي لقد كنا نواقع عظيماً ونفتري على الله الكذب في الرجوع إلى الكفر ، ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدعاء ، مثل قول الشاعر : بقيت وفري .

وكما تقول «افتريت على الله » إن كلمت فلاناً ، و { افترينا } معناه شققنا بالقول واختلفنا . ومنه قول عائشة : من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى به فقد أعظم على الله الفرية ، ونجاة «شعيب » من ملتهم كانت منذ أول أمره ، ونجاه من آمن معه كانت بعد مواقعة الكفر ، وقوله : { إلا أن يشاء الله } يحتمل أن يريد إلا أن يسبق علينا من الله في ذلك سابق وسوء وينفذ منه قضاء لا يرد .

قال القاضي أبو محمد : والمؤمنون هم المجوزون لذلك وشعيب قد عصمته النبوة ، وهذا أظهر ما يحتمل القول ، ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبد الله به المؤمنين مما يفعله الكفار من القربات ، فلما قال لهم : إنا لا نعود في ملتكم ثم خشي أن يتعبد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك ويقول : هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة الله تعالى فيما يمكن أن يتعبد به ، ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط ، وقد علم امتناع ذلك فهو إحالة على مستحيل .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة الذين من مذهبهم أن الكفر والإيمان ليسا بمشيئة من الله تعالى فلا يترتب هذا التأويل إلا عندهم ، وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه ، وقيل : إن هذا الاستثناء إنما هو تستر وتأدُّب .

قال القاضي أبو محمد : ويقلق هذا التأويل من جهة استقبال الاسثناء ولو كان في الكلام إن شاء الله قوى هذا التأويل ، وقوله : { وسع ربنا كل شيء علماً } معناه : وسع علم ربنا كل شيء كما تقول : تصبب زيد عرقاً أي تصبب عرق زيد ، و { وسع } بمعنى أحاط ، وقوله { افتح } معناه أحكم والفاتح الفتاح القاضي بلغة حمير ، وقيل بلغة مراد ، وقال بعضهم : [ الوافر ]

ألا أبلغْ بني عصم رسولاً*** فإني عن فتاحتكم غنيُّ

وقال الحسن بن أبي الحسن : إن كل نبي أراد الله هلاك قومه أمره بالدعاء عليهم ثم استجاب له فأهلكهم ، وقال ابن عباس ما كنت أعرف معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك أي أحاكمك ، وقوله { على الله توكلنا } استسلام لله وتمسك بلفظه وذلك يؤيد التأويل الأول في قوله : { إلا أن يشاء الله } .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَدِ ٱفۡتَرَيۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِي مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ} (89)

فصل جملة { قال . . } لوقوعها في سياق المحاورة .

والاستفهام مستعمل في التعجب تعجباً من قولهم : { أو لتعودن في ملّتنا } المؤذنِ ما فيه من المؤكّدات بأنّهم يُكرهونهم على المصير إلى ملّة الكفر ، وذلك التعجب تمهيد لبيان تصميمه ومن معه على الإيمان ، ليعلم قومه أنّه أحاط خبراً بما أرادُوا من تخييره والمؤمنين معه بين الأمرين : الإخراج أو الرجوع إلى ملّة الكفر ، شأنَ الخصم اللبيب الذي يأتي في جوابه بما لا يغادر شيئاً مما أراده خصمه في حوارِه ، وفي كلامه تعريض بحماقة خصومه إذ يحاولون حمله على ملّتهم بالإكراه ، مع أن شأن المُحقّ أن يشرك للحق سلطانه على النفوس ولا يتوكّأ على عصا الضّغط والإكراه ، ولذا قال الله تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ } [ البقرة : 256 ] . فإن التزام الدين عن إكراه لا يأتي بالغرض المطلوب من التّديّن وهو تزكية النفس وتكثير جند الحق والصلاح المطلوب .

والكاره مشتق من كره الذي مصدره الكَرهُ بفتح الكاف وسكون الراء وهو ضد المحبة ، فكاره الشيء لا يدانيه إلاّ مغصوباً ويقال للغصب إكراه ، أي مُلجَئين ومغصوبين وتقدم في قوله تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كُرهٌ لكم } في سورة البقرة ( 216 ) .

و ( لو ) وصلية تفيد أن شرطها هو أقصى الأحوال التي يحصل معها الفعل الذي في جوابها ، فيكون ما بعدها أحرى بالتعجب . فالتقدير : أتعيدوننا إلى ملّتكم ولو كنا كارهين . وقد تقدم تفصيل ( لو ) هذه عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة آل عمران ( 91 ) . وتقدم معنى الواو الداخلة عليها وأنها واو الحال .

واستأنف مرتقياً في الجواب ، فبيّن استحالة عودهم إلى ملّة الكفر بأن العود إليها يستلزم كذبَه فيما بلّغه عن الله تعالى من إرساله إليهم بالتوحيد فذلك كذب على الله عن عمد ، لأن الذي يرسله الله لا يرجع إلى الكفر ، ويستلزم كذب الذين آمنوا به على الله حيث أيقنوا بأن شعيباً مبعوث من الله بما دلهم على ذلك من الدلائل ، ولذلك جاء بضمير المتكلّم المشارك في كل من قوله : { افترينا } و { عدنا } و { نجانا } و { نعود } و { ربُنا } و { توكّلنا } .

والربط بين الشرط وجوابه ربط التّبيّن والانكشاف . لأنه لا يصح تعليق حصول الافتراء بالعود في ملة قومه ، فإن الافتراء المفروض بهذا المعنى سابق متحقق وإنّما يكشفه رجوعهم إلى ملّة قومهم ، أي إنْ يَقع عودنا في ملتكم فقد تبين أننا افترينا على الله كذباً ، فالماضي في قوله : { افترينا } ماض حقيقي كما يقتضيه دخول { قد } عليه ، وتقديمه على الشرط لأنه في الحالتين لا تقلبه ( إن ) للاستقبال ، أما الماضي الواقع شرطاً ل ( إن ) في قوله : { إن عدنا } فهو بمعنى المستقبل لأن ( إنْ ) تقلب الماضي للمستقبل عكس ( لم ) .

وقوله : { بعد إذ نجّانا الله منها } على هذا الوجه ، معناه : بعد إذ هدانا الله للدين الحق الذي اتبعناه بالوحي فنجانا من الكفر ، فذكر الإنجاء لدلالته على الإهداء والإعلان بأن مفارقة الكفر نجاة ، فيكون في الكلام إيجاز حذف أو كناية .

وهذه البعدية ليست قيداً ل { افترينا } ولا هي موجب كون العود في ملّتهم دالاً على كذبه في الرسالة ، بل هذه البعدية متعلقة ب { عُدْنَا } يقصد منها تفظيع هذا العود وتأييس الكافرين من عود شعيب وأتباعه إلى ملّة الكفر ، بخلاف حالهم الأولى قبلَ الإيمان فإنهم يوصفون بالكفر لا بالافتراء إذ لم يظهر لهم وجه الحق ، ولذلك عقبه بقوله : { وما يكون لنا أن نعود فيها } أي لأن ذلك لا يقصده العاقل فيلقي نفسه في الضلال والتعرض للعذاب .

وانتصاب { كذباً } على المفعولية المطلقة تأكيداً ل { افترينا } بما هو مساو له أو أعم منه ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة المائدة ( 103 ) .

وقد رَتّب على مقدمة لزوم الافتراء نتيجةَ تأييس قومه من أن يعود المؤمنون إلى ملّة الكفر بقوله : { وما يكون لنا أن نعود فيها } فنفي العود نفياً مؤكداً بلام الجحود وقد تقدم بيان تأكيد النفي بلام الجحود في قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الخ في سورة آل عمران ( 79 ) .

وقوله : { إلاّ أن يشاء الله ربّنا } تأدب مع الله وتفويضُ أمره وأمرِ المؤمنين إليه ، أي : إلاّ أن يقدّر الله لنا العود في ملّتكم فإنّه لا يسأل عمّا يفعل ، فأمَا عود المؤمنين إلى الكفرِ فممكن في العقل حصوله وليس في الشرعِ استحَالته ، والارتداد وقع في طوائف من أمم .

وأمّا ارتداد شعيب بعد النبوءَةِ فهو مستحيل شرعاً لعصمة الله للأنبياء ، فلو شاء الله سلب العصمة عن أحد منهم لمَا ترتّب عليه محال عقلاً ، ولكنه غير ممكن شرعاً ، وقد علمتَ آنفاً عصمة الأنبياء من الشرك قبل النبوءة فعصمتهم منه بعد النبوءة بالأولى ، قال تعالى : { لئن أشركت ليحبطَن عملك } [ الزمر : 65 ] على أحد التأويلين .

وفي قول شعيب : { إلاّ أنْ يشاء الله ربّنا } تقييدُ عدم العود إلى الكفر بمشيئة الله ، وهو يستلزم تقييد الدوام على الإيمان بمشيئة الله ، لأن عدم العود إلى الكفر مساو للثبات على الإيمان ، وهو تقييد مقصود منه التأدب وتفويض العلم بالمستقبل إلى الله ، والكناية عن سؤال الدوام على الإيمان من الله تعالى كقوله : { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } [ آل عمران : 8 ] .

ومن هنا يستدل لقول الأشعري وجماعةٍ على رأسهم محمد بن عبدوس الفقيه المالكي الجليل أن المسلم يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، لأنّه لا يعلم ما يُختم له به ، ويضعف قول الماتريدي وطائفةٍ من علماء القيروان على رأسهم محمد بن سحنون أن المسلم لا يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، لأنّه متحقق أنه مؤمن فلا يقول كلمة تنبىء عن الشك في إيمانه .

وقد تطاير شرر الخلاف بين ابن عبدوس وأصحابه من جهة ، وابن سحنون وأصحابه من جهة ، في القيروان زماناً طويلاً ورمى كل فريق الفريق الآخر بما لا يليق بهما ، وكان أصحاب ابن سحنون يدْعون ابنَ عبدوس وأصحابَه الشكوكية وتلقفت العامة بالقيروان هذا الخلاف على غير فهم فربما اجْتروا على ابن عبدوس وأصحابه اجتراء وافتراء ، كما ذكره مفصلاً عياض في « المدارك » في ترجمة محمد بن سحنون ، وترجمة ابن النبّان ، والذي حقّقه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد وعياض أن الخلاف لفظي : فإن كان يقول : إن شاء الله ، وسريرتُه في الإيمان مثلُ علانيته فلا بأس بذلك ، وإن كان شكاً فهو شك في الإيمان ، وليس ذلك ما يريده ابن عبدوس ، وقد قال المحققون : أن الخلاف بين الأشعري والماتريدي في هذه المسألة من الخلاف اللفظي ، كما حقّقه تاج الدين السبكي في « منظومته النونية » ، وتبعه تلميذه نور الدين الشيرازي في « شرحه » . ومما يجب التنبيه له أن الخلاف في المسألة إنما هو مفروض في صحّة قول المؤمن : أنا مؤمن إن شاء الله ، وأن قوله ذلك هل ينبىء عن شكه في إيمانه ، وليس الخلاف في أنّه يجب عليه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله ، عند القائلين بذلك ، بدليل أنهم كثيراً ما يقابلون قول القائلين بالمشيئة بقول الآخرين : أنا مؤمن عند الله ، فرجعت المسألة إلى اختلاف النظر في حالة عقد القلب مع ما هو في علم الله من خاتمته ، وبذلك سهل إرجاع الخلاف إلى الخلاف اللفظي .

والإتيان بوصف الرب وإضافتُه إلى ضمير المتكلم المشارَك : إظهار لحضرة الإطلاق ، وتعريض بأن الله مولى الذين آمنوا .

والخلاف بيننا وبين المعتزلة في جواز مشيئة الله تعالى الكفرَ والمعاصي خلاف ناشىء عن الخلاف في تحقيق معنى المشيئة والإرادة ، ولكلا الفريقين اصطلاح في ذلك يخالف اصطلاح الآخر ، والمسألة طفيفة وإن هوّلها الفريقان ، واصطلاحنا أسعد بالشريعة وأقرب إلى اللغة ، والمسألة كلها من فروع مسألة التكليف وقدرة المكلف .

وقوله : { وسعَ ربنا كل شيء علْماً } تفويض لعلم الله ، أي إلاّ أن يشاء ذلك فهو أعلم بمراده منا ، وإعادة وصف الربوبية إظهار في مقام الإضمار لزيادة إظهار وصفه بالربوبية ، وتأكيد التعريض المتقدم ، حتى يصير كالتصريح .

وانتصب { علماً } على التمييز المحول عن الفاعل لقصد الإجمال ثم التفصيل للاهتمام .

وانتصب { كل شيء } على المفعول به ل { وَسعَ } ، أي : وسع علم ربنا كل شيء .

والسعة : مستعملة مجازاً في الإحاطة بكل شيء لأن الشيء الواسع يكون أكثر إحاطة .

وفي هذه المجادلة إدماج تعليم بعض صفات الله لأتْباعه وغيرهم على عادة الخطباء في انتهاز الفرصة .

ثم أخبر بأنه ومَن تبعه قد توكلوا على الله ، والتوكل : تفويض مباشرة صلاح المرء إلى غيره ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في آل عمران ( 159 ) ، وهذا تفويض يقتضي طلب الخير ، أي : رجونا أن لا يسلبنا الإيمان الحق ولا يفسد خلق عقولنا وقلوبنا فلا نفتن ونضل ، ورجونا أن يكفينا شر من يُضمر لنا شراً وذلك شر الكفرة المضمر لهم ، وهو الفتنة في الأهل بالإخراج ، وفي الدين بالإكراه على اتباع الكفر .

وتقديم الجار والمجرور على فعل { توكلنا } لإفادة الاختصاص تحقيقاً لمعنى التوحيد ونبذ غير الله ، ولمَا في قوله : { على الله توكلنا } من التفويض إليه في كفايتهم أمر أعدائهم ، صرح بما يزيد ذلك بقوله : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } . وفسروا الفتح هنا بالقضاء والحكم ، وقالوا : هو لغة أزد عمان من اليمن ، أي احكم بيننا وبينهم ، وهي مأخوذة من الفتح بمعنى النصر لأن العرب كانوا لا يتحاكمون لغير السيف ، ويحسبون أن النصر حُكم الله للغالب على المغلوب .

وقوله : { وأنت خير الفاتحين } هو كقوله : { وهو خير الحاكمين } [ الأعراف : 87 ] ، أي وأنت خير الناصرين ، وخير الحاكمين هو أفضل أهل هذا الوصف ، وهو الذي يتحقق فيه كمال هذا الوصف فيما يقصد منه وفي فائدته بحيث لا يشتبه عليه الحق بالباطل ولا تروج عليه الترهات . والحكام مراتب كثيرة ، فتبين وجه التفضيل في قوله : { وهو خير الحاكمين } [ الأعراف : 87 ] وكذلك القياس في قوله : { خير الناصرين } [ آل عمران : 150 ] و { خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] وقد تقدم في سورة آل عمران ( 150 ) : { بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . }