ثم يذكر من صفات الله في هذا المقام الذي يوجه المؤمنين فيه إلى عبادة الله وحده ولو كره الكافرون . يذكر من هذه الصفات أنه سبحانه :
( رفيع الدرجات ذو العرش ، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) . .
فهو - سبحانه - وحده صاحب الرفعة والمقام العالي ، وهو صاحب العرش المسيطر المستعلي . وهو الذي يلقي أمره المحيي للأرواح والقلوب على من يختاره من عباده . وهذا كناية عن الوحي بالرسالة . ولكن التعبير عنه في هذه الصيغة يبين أولاً حقيقة هذا الوحي ، وأنه روح وحياة للبشرية ، ويبين ثانيا أنه يتنزل من علو على المختارين من العباد . . وكلها ظلال متناسقة مع صفة الله ( العلي الكبير ) . .
فأما الوظيفة البارزة لمن يختاره الله من عباده فيلقي عليه الروح من أمره ، فهي الإنذار :
وفي هذا اليوم يتلاقى البشر جميعاً . ويتلاقى الناس وأعمالهم التي قدموا في الحياة الدنيا . ويتلاقى الناس والملائكة والجن وجميع الخلائق التي تشهد ذلك اليوم المشهود وتلتقي الخلائق كلها بربها في ساعة الحساب فهو يوم التلاقي بكل معاني التلاقي .
وقوله تعالى : { رفيع الدرجات } صفاته العلى ، وعبر بما يقرب لأفهام السامعين ، ويحتمل أن يريد ب { رفيع الدرجات } التي يعطيها للمؤمنين ويتفضل بها على عباده المخلصين في جنة . و : { العرش } هو الجسم المخلوق الأعظم الذي السماوات السبع والأرضون فيه كالدنانير في الفلاة من الأرض .
وقوله تعالى : { يلقي الروح } قال الضحاك : { الروح } هنا هو الوحي القرآن وغيره مما لم يتل . وقال قتادة والسدي : { الروح } النبوءة ومكانتها كما قال تعالى : { روحاً من أمرنا }{[9972]} ويسمى هذا روحاً لأنه يحيي به الأمم والأزمان كما يحيي الجسد بروحه ، ويحتمل أن يكون إلقاء الروح عاماً لكل ما ينعم الله به على عباده المعتدين في تفهيمه الإيمان والمعتقدات الشريفة . والمنذر على هذا التأويل : هو الله تعالى . قال الزجاج : { الروح } : كل ما به حياة الناس ، وكل مهتد حي ، وكل ضال كالميت .
وقوله : { من أمره } إن جعلته جنساً للأمور ف { من } للتبعيض أو لابتداء الغاية ، وإن جعلنا الأمر من معنى الكلام : ف { من } إما لابتداء الغاية ، وإما بمعنى الباء ، ولا تكون للتبعيض بتة وقرأ أبي بن كعب : وجماعة : «لينذِر » بالياء وكسر الذال ، وفي الفعل ضمير يحتمل أن يعود على الله تعالى ، ويحتمل أن يعود على { الروح } ، ويحتمل أن يعود على { من } في قوله : { من يشاء } . وقرأ محمد بن السميفع اليماني : «لينذَر » بالياء وفتح الذال ، وضم الميم من «يومُ » وجعل اليوم منذراً على الاتساع . وقرا جمهور الناس : «لتنذر » بالتاء على مخاطبة محمد عليه السلام ، ويومَ «بالنصب .
وقرأ أبو عمرو ونافع وجماعة : » التلاق «دون ياء . وقرأ أبو عمرو أيضاً وعيسى ويعقوب : » التلاقي «بالياء ، والخلاف فيها كالخلاف الذي مر في { التنادي }{[9973]} ، ومعناه : تلاقي جميع العالم بعضهم ببعض ، وذلك أمر لم يتفق قبل ذلك اليوم ، وقال السدي : معناه : تلاقي أهل السماء وأهل الأرض ، وقيل معناه تلاقي الناس مع بارئهم ، وهذا المعنى الأخير هو أشدها تخويفاً ، وقيل يلتقي المرء وعمله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هو رفيع الدرجات... "ذُو العَرْشِ "يقول: ذو السرير المحيط بما دونه.
وقوله: "يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ" يقول: ينزل الوحي من أمره على من يشاء من عباده.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الروح في هذا الموضع؛
وقال آخرون: عُني به القرآن والكتاب... قال ابن زيد، في قوله: "يُلْقِي الرّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ"، وقرأ: "وكذَلكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنا" قال: هذا القرآن هو الروح، أوحاه الله إلى جبريل، وجبريل روح نزل به على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقرأ: "نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ" قال: فالكتب التي أنزلها الله على أنبيائه هي الروح، ليُنذر بها ما قال الله يوم التلاق، "يَوْمَ يَقُومُ الرّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفّا"...
وقال آخرون: عُني به النبوّة...
وهذه الأقوال متقاربات المعاني، وإن اختلفت ألفاظ أصحابها بها.
وقوله: "لِيُنْذِرَ يَوْمَ التّلاقِ" يقول: لينذر من يلقي الروح عليه من عباده من أمر الله بإنذاره من خلقه عذاب يوم تلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض، وهو يوم التلاق، وذلك يوم القيامة.
اعلم أن أشرف الأحوال الظاهرة في روحانيات هذا العالم ظهور آثار الوحي، والوحي إنما يتم بأركان أربعة:
فأولها: المرسِل وهو الله سبحانه وتعالى، فلهذا أضاف إلقاء الوحي إلى نفسه فقال: {يلقي الروح}.
والركن الثاني: الإرسال والوحي وهو الذي سماه بالروح.
والركن الثالث: أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الملائكة، وهو المشار إليه في هذه الآية بقوله {من أمره} فالركن الروحاني يسمى أمرا، قال تعالى: {وأوحى في كل سماء أمرها}.
والركن الرابع: الأنبياء الذين يلقي الله الوحي إليهم وهو المشار إليه بقوله {على من يشاء من عباده}.
والركن الخامس: تعيين الغرض والمقصود الأصلي من إلقاء هذا الوحي إليهم، وذلك هو أن الأنبياء عليهم السلام يصرفون الخلق من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، ويحملونهم على الإعراض عن هذه الجسمانيات والإقبال على الروحانيات، وإليه الإشارة بقوله {لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون} فهذا ترتيب عجيب.
أما السبب في تسمية يوم القيامة بيوم التلاق ففيه وجوه:
الأول: أن الأرواح كانت متباينة عن الأجساد فإذا جاء يوم القيامة صارت الأرواح ملاقية للأجساد فكان ذلك اليوم يوم التلاق.
الثاني: أن الخلائق يتلاقون فيه فيقف بعضهم على حال البعض.
الثالث: أن أهل السماء ينزلون على أهل الأرض فيلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض قال تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا}.
الرابع: أن كل أحد يصل إلى جزاء عمله في ذلك اليوم فكان ذلك من باب التلاق وهو مأخوذ من قولهم فلان لقي عمله.
السابع: يوم يلتقي فيه آدم عليه السلام وآخر ولده.
الثامن: قال ميمون بن مهران يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم، فربما ظلم الرجل رجلا وانفصل عنه ولو أراد أن يجده لم يقدر عليه ولم يعرفه، ففي يوم القيامة يحضران ويلقى بعضهم بعضا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الإخلاص لا يتأتى إلا ممن رفعه إشراق الروح عن كدورات الأجسام، وطارت به أنوارها عن حضيض ظلمات الجهل إلى عرش العرفان، فصار إذ كان الملك الديان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، بمعنى أنه لا يفعل بشيء من هذه الجوارح إلا ما أمره به سبحانه يتصرف في الأكوان بإذن الفتاح العليم، تكسب القلوب من ضياء أنواره ويحيى ميت الهمم بصافي أسراره، نبه سبحانه على ذلك حثاً عليه وتشويقاً إليه بقوله ممثلاً بما يفهمه العباد مخبراً عن مبتدأ محذوف تقديره: هو {رفيع الدرجات} أي فلا يصل إلى حضرته الشماء إلا من علا في معارج العبادات ومدارج الكمالات.
ولما كنا لا نعرف ملكاً إلا بغلبته على سرير الملك، وكانت درج كل ملك ما يتوصل بها إلى عرشه، أشار سبحانه بجمع القلة إلى السماوات التي هي دون عرشه سبحانه، ثم أشار إلى أن الدرج إليه لا تحصى بوجه؛ لأنا لو أنفقنا عمر الدنيا في اصطناع درج للتوصل إلى السماء الدنيا ما وصلنا، فكيف بما فوقها فكيف وعلوه سبحانه، ليس هو بمسافة بل علو عظمة ونفوذ كلمة تنقطع دونها الآمال وتفنى الأيام والليال والكاشف لذلك أتم كشف تعبيره في {سأل} بصيغة منتهى الجموع {المعارج} -ثم قال ممثلاً لنا بما نعرف: {ذو العرش} أي الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو فهو محيط لجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان، وعال بجلاله وعظمه عن كل ما يخطر في الأذهان.
ولما كان الملوك يلقون أوامرهم من مراتب عظمائهم إلى من أخلصوا في ودادهم قال: {يلقي الروح} أي الذي تحيى به الأرواح حياة الأشباح بالأرواح.
{من أمره} أي من كلامه، ولا شك أن الذي يلقي ليس الكلام النفسي وإنما هو ما يدل عليه، وهو الذي يقبل النزول والتلاوة والكتابة ونحو ذلك.
ولما كان أمره عالياً على كل أمر، أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال: {على من يشاء}.
ولما كان ما رأوه من الملوك لا يتمكنون من رفع كل من أرادوا من رقيقهم، نبه على عظمته بقوله: {من عباده} وأشار بذلك مع الإشارة إلى أنه مطلق الأمر لا يسوغ لأحد الاعتراض عليه، ولو اعترض كان اعتراضه أقل من أن يلتفت إليه أو يعول بحال عليه إلى توهية قولهم {أو أنزل عليه الذكر من بيننا} [ص: 8] بأنه عليه السلام المخلص في عبادته لم يمل إلى شيء من أوثانهم ساعة ما، ولا صرف لحظة عن الإله الحق طرفة عين؛ فلذلك اختصه من بينهم بهذا الروح الذي لا روح في الوجود سواه، فمن أقبل عليه وأخلص في تلاوته والعمل بما يدعو إليه والبعد عما ينهى عنه، صار ذا روح موات يحيي الأموات ويزري بالنيرات...
ولما بين سر اختصاصه بالإرسال لهذا النبي الكريم، أتبع ذلك بما يزيده بياناً من ثمرة الإرسال فقال: {لينذر} أي الذي اختصه سبحانه بروحه، وعبر بما يقتضيه تصنيف الناس الذي هو مقصود السورة من الاجتماع، وأزال وهم من قد يستحيل لقاء سبحانه لرفعة درجاته وسفول درجات غيره.
{يوم التلاق} أي الذي لا يستحق أن يوصف بالتلاقي على الحقيقة غيره.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
معنى ذو العرش: مالكه وخالقه، والمتصرف فيه، وذلك يقتضي علوّ شأنه، وعظم سلطانه، ومن كان كذلك، فهو الذي يحقّ له العبادة، ويجب له الإخلاص...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{رفيعُ الدرجات} خبر عن مبتدأ محذوف هو ضمير اسم الجلالة في قوله: {فادعوا الله} [غافر: 14] وليس خبراً ثانياً بعد قوله: {هُو الَّذي يُريكم آياته} [غافر: 13] لأن الكلام هنا في غرض مستجدّ، وحذف المسند إليه في مثله حذف اتِّبَاع للاستعمال في حذف مثله، كذا سماه السكاكي بعد أن يَجري من قبل الجملة حديثٌ عن المحذوف.
و {رفيع} يجوز أن يكون صفة مشبهة، والتعريف في {الدرجات} عوض عن المضاف إليه، والتقدير: رفيعةٌ درجاتُه، فلما حُول وصف ما هو من شؤونه إلى أن يكون وصفاً لذاته، سلك طريق الإضافة، وجُعلت الصفة المشبهة خبراً عن ضمير الجلالة، وجعل فاعل الصفة مضافاً إليه، وذلك من حالات الصفة المشبهة يقال: فلان حسنٌ فعلُه، ويقال: فلان حسَنُ الفعل، فيؤُول قوله: {رَفِيعُ الدَّرَجات} إلى صفة ذاته.
ويجوز أن يكون {الكافرون} من أمثلة المبالغة، أي كثير رفعِ الدرجات لمن يشاء وهو معنى قوله تعالى: {نرفع درجات من نشاء} [يوسف: 76].
وإضافته إلى {الدرجات} من الإِضافة إلى المفعول، فيكون راجعاً إلى صفات أفعال الله تعالى، والمقصود: تثبيتهم على عبادة الله مخلصين له الدين بالترغيب بالتعرض إلى رفع الله درجاتهم كقوله: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} في سورة [المجادلة: 11].
و {ذُو العَرْش} خبر ثان وفيه إشارة إلى أن رفع الدرجات منه متفاوت، كما أن مخلوقاته العليا متفاوتة في العظم والشرف إلى أن تنتهي إلى العرش وهو أعلى المخلوقات كأنه قيل: إن الذي رفع السماوات ورفع العرش مَاذَا تُقَدِّرون رَفعه درجات عابديه على مراتب عبادتهم وإخلاصهم.
وجملة {يُلْقِي الرُّوح مِن أمْرِه} خبر ثالث، أو بدلُ بعض من جملة {رَفِيعُ الدرجات} فإن مِنْ رفع الدرجات أَنْ يرفع بعض عِباده إلى درجة النبوءة، وذلك أعظم رفع الدرجات بالنسبة إلى عِباده، فبدل البعض هو هنا أهم أفراد المبدل منه.
والإِلقاء: حقيقته رميُ الشيء من اليد إلى الأرض، ويستعار للاعطاء إذا كان غير مترقب، وكثر هذا في القرآن، قال: {فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم} [النحل: 86، 87]. واستعير هنا للوحي لأنه يجيء فجأة على غير ترقب كإلقاء الشيء إلى الأرض.
والروح: الشريعة، وحقيقة الروح: ما به حياة الحيّ من المخلوقات، ويستعار للنفيس من الأمور وللوحْي؛ لأنه به حياة الناس المعنوية وهي كمالهم وانتظام أمورهم فكما تستعار الحياة للإِيمان والعِلمِ، كذلك يستعار الروح الذي هو سبب الحياة لكمال النفوس وسلامتها من الطوايا السيئة، ويطلق الروح على المَلَك قال:
{فأرسلنا إليها روحَنا فتمثل لها بشراً سويا} [مريم: 17].
و {مِنْ} ابتدائية في {مِن أمْرِهِ}، أي بأمره، فالأمر على ظاهره. ويجوز أن تكون {من} تبعيضية ظرفاً مستقراً صفة {الروح} أي بَعْضَ شؤونه التي لا يطلع عليها غيره إلا من ارتضى فيكون الأمر بمعنى الشأن، أي الشؤون العجيبة،وقيل: {من} بيانية وأن الأمر هو الروح وهذا بعيد، وهذه الآية تشير إلى أن النبوءة غير مكتسبة لأنها ابتدئت بقوله: {فادعوا الله مخلصين له الدين} [غافر: 14] ثم أُعقب بقوله:
{رفيع الدرجات} فأشار إلى عبادة الله بإخلاص سبب لرفع الدرجات، ثم أعقب بقوله: {يُلقِي الرُّوح من أمرِه} فجيء بفعل الإِلقاء وبكون الروح من أمره وبصلة
{مَن يَشاء مِن عِباده}، فآذن بأن ذلك بمحض اختياره وعلمه كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124].
وهذا يرتبط بقوله في أول السورة [2] {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين} فأمَر رسولَه صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في العبادة مفرعاً على إنزال الكتاب إليه، وجاء في شأن الناس بقوله: {فادعوا الله مُخْلِصين}
ثم أعقبه بقوله: {رَفِيع الدرجات}. وقد ضَرب لهم العرشَ والأنبياء مثلين لرفع الدرجات في العوالم والعقلاء، وفيه تعريض بتسفيه المشركين {فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه} [القمر: 24]، {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] وتخلص من ذكر النبوءة إلى النذارة بيوم الجزاء ليعود وصف يوم الجزاء الذي انقطع الكلام عليه من قوله تعالى: {ذلكم بأنه إذا دُعي الله وحده كفرتم} [غافر: 12] الخ.
والإِنذار: إِخبار فيه تحذير مما يسوء، وهو ضد التبشير إذ هو إخبار بما فيه مسرة. وفعله المجرد: نَذِر كعلم، يقال: نَذِر بالعدوّ فحَذِره. والهمزة في أنذر للتعدية فحقه أن لا يتعدى بالهمزة إلا إلى مفعول واحد، وهو الذي كان فاعل الفعل المجرد، وأن يتعدى إلى الأمر المخبَر به بالباء، يقال: أنذرتُهم بالعَدوّ، غير أنه غلب في الاستعمال تضمينه معنى التحذير فعدوه إلى مفعول ثان وهو استعمال القرآن، وأما قوله في أول [الأعراف: 2] {لتنذر به} فالباء فيه للسببية أو الآلة المجازية وليست للتعدية وضمير به عائداً إلى الكتاب. والضمير المستتر في {لينذر} عائد إلى اسم الجلالة من قوله: {فادعوا الله}، والأحسن أن يعود على {مَن} الموصولة لينذر من ألقَى عليه الروحَ قومَه؛ ولأن فيه تخلصاً إلى ذكر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي هو بصدد الإِنذار دون الرسل الذين سبقوا إذ لا تلائمهم صيغة المضارع؛ ولأنه مرجِّح لإِظهار اسم الجلالة في قوله: {لا يخفى على الله منهم شيء} كما سيأتي.
وانتصبَ {يوم التلاقي} على أنه مفعول ثان ل {ينذر}، وحذف المفعول الأول لظهوره، أي لينذر الناسَ. وبَين {التَّلاَقي} و {يُلْقي} جناس...
كلمة (رَفيع) على وزن (فعيل) من الفعل رفع، وهذا الوزن يأتي بمعنى فاعل مثل (رحيم) مبالغة من راحم، وتأتي بمعنى مفعول مثل قتيل يعني مقتول، كذلك كلمة (رفيع) يصح أنْ تكون بمعنى رافع. أي: أنه سبحانه رافع لغيره، كما يرفع سبحانه بعض الخلق على بعض.
ويصح أنْ تكون (رفيع) بمعنى مفعول أي مرتفع في ذاته، والرافع لا يرفع غيره إلا إذا كان مرتفعاً في ذاته، فرفيع هنا بمعنى مرتفع عن كل شيء، كما نقول: الله أكبر والله أعلى وأجلّ.
فالله تعالى مرتفع الوجود لأن وجوده أزليٌّ لا عن عدم، أما وجودنا نحن فعن عدم، ووجوده سبحانه إلى دوام ووجودنا إلى عدم، وهو موجود سبحانه بذاته ووجودنا نحن به سبحانه، إذن: فهو سبحانه أحسن مرتفع في الوجود، نعم.
والله سبحانه مرتفع في قيوميته، فنحن نعمل ونتعب وننام لنرتاح، أما هو سبحانه فلا يُتبعه عمل ولا ينام ليستريح، لذلك قال سبحانه: {اللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] وكأن الحق سبحانه يقول لنا: ناموا أنتم مِلْءَ جفونكم لأني لا تأخذني سِنَةٌ ولا نوم، يريد أنْ نطمئن ونحن في معيته سبحانه.
وبهذه القيومية يرفع الله مَنْ يشاء، وبطلاقة قدرته سبحانه يُبقي مَنْ يشاء في الرفعة ويُنزل مَنْ يشاء إلى الضِّعَة {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} [آل عمران: 26].
وقوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} لأن الرفع يقتضي منزلة أعلى من منزلة، وهذه هي الدرجات أي: ما بين كل منزلة وأخرى، والدرجات لا تكون إلا في العُلُو، أما النزول إلى أسفل فتسمى مراحله دركات.
والحق سبحانه يرفع من خَلْقه ما يشاء على ما يشاء، كما رفع من الزمان رمضان على غيره من الشهور، ورفع من المكان البيتَ الحرام وبيت المقدس، ورفع من الملائكة كما في قوله تعالى على لسان الملائكة: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164].
ورفع من الرسل أُولي العزم منهم، كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} [البقرة: 253] ويرفع من عامة الخَلْق كما قال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وكما رفع الله سبحانه أُولِي العلم كذلك رفع أصحاب الحركة في الحياة الذين ما أُوتوا علماً، إنما عندهم حركة تنفذ هذا العلم وتُطبِّقه وتحقق مطلوبه في الحياة، فالعلم يحتاج في تنفيذه ليد عاملة كأصحاب الحِرَف والعمال والصُّناع، لذلك قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165].
إذن: عندنا رفعةٌ للزمان، ورفعة للمكان، ورفعة للملائكة، ورفعة للأنبياء، ورفعة للمؤمنين، ورفعة لأُولي العلم، وأخيراً رفعة للخلائق في الأرض، وتأمل العدالة الإلهِية في رفعة الخلائف بعضهم على بعض.
فالحق سبحانه لم يَقُل لنا أيَّ بعض مرفوع وأيَّ بعض مرفوع عليه، ليبين لنا أن كل بعض مرفوع في شيء ومرفوع عليه في شيء آخر، إذن: لا يرفع الغني على الفقير، ولا الجميل على القبيح، ولا الذكي على الغبي، إنما يُرفع كلٌّ بحسْب عمله، كما ورد في قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
فكل الخَلْق غير ما تقدم ممَّنْ رفعهُ الله مرفوعٌ في شيء ومرفوع عليه في شيء آخر، فالنجار الذي يصنع لي المكتب مرفوع عليَّ في هذا العمل ومُفضَّل عليَّ فيه، لأنه يعرف هذه الصَّنعة ويتقنها وأنا لا أعرفها.
فإذا ما جاء هذا العامل يسألني في مسألة كنت أنا مرفوعاً عليه فيها، لأنني أعرفها وهو لا يعرفها، وقلنا: إن الحق سبحانه أراد لحركة الحياة بين الخلق أنْ تُبْنى على الحاجة لا على التفضل، فكُلٌّ منا يحتاج الآخر ولا تكتمل حركةُ حياته إلا به.
ولو قامتْ حركة الحياة على التفضّل لتعطلتْ أكثر المصالح ولما استقامتْ الحياة، وتصور أننا جميعاً تخرَّجنا في الجامعة وصرْنا علماء، مَنْ سيؤدي لنا الأعمال الأخرى؟ مَنْ يكنس الشارع؟ ومَنْ يعمل في المجاري؟ ومن يبيع في الأسواق؟.. إلخ وهذا هو مقصود الشاعر الذي قال:
النَّاسِ للنَّاسِ مِن بَدْوٍ وَحَاضِرَةٍ بَعْضٌ لِبَعْضٍ وإنْ لَمْ يَعْلَمُوا خَدَمُ
فليس منا مَنْ هو مُسخَّر فقط، بل كل منا مُسخَّر في شيء ومُسخر له في شيء آخر، لذلك يقول تعالى وهو يُعلِّمنا هذا الدرس: {يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} [الحجرات: 11].
لذلك لا تنظر إلى عمل على أنه أفضل من عمل، إنما هناك عامل أفضل من عامل، والأفضل هو الذي يتقن عمله أكثر، فالعامل الذي يتقن عمله في الأدنى أفضل من العامل الذي لا يتقن عمله في العمل الأعلى.
لذلك قال الإمام علي كرَّم الله وجه: (قيمة كل امرئ ما يُحسنه) فمَنْ أراد من العلو الأفضلية فليتقن عمله مهما كان هذا العمل حقيراً -أي: في نظر البعض منا- فليس في الإسلام عمل حقير، إنما هناك عامل حقير، وهو المتهاون الذي لا يجيد ولا يتقن ما في يده ولا يخلص فيه... وقوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15] يعني: الذي يملك كوناً استقر له بدون شغب عليه، وهو المستقر في كمال قدرته وألوهيته، والملك لا يُتاح له الجلوس والاستواء على عرشه إلا بعد أن يستتبَّ له الأمر مع الفارق بين جلوسه سبحانه واستوائه على عرشه وبين جلوس ملوك الدنيا على عروشهم، فنحن نؤمن بهذا الجلوس دون تكييف أو تشبيه، وما دام وجوده تعالى ليس كوجودنا فكذلك جلوسه ليس كجلوسنا، وقلنا: إننا نأخذ هذه المسائل في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
والحق سبحانه وتعالى استتبَّ له الأمر في الكون دون منازع، بدليل قوله سبحانه: {ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11].
ولأنه سبحانه رفيع الدرجات، وهو سبحانه ذو العرش أراد سبحانه أنْ يضفي من رفعته على المؤمنين به، وأن يرفعهم على غيرهم، وألاَّ يتركهم هَمَلاً وهمجاً بدون منهج، لذلك أنزل عليهم رُوحاً منه سبحانه: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ}.
فما كان سبحانه ليستعبد الخَلْق ثم يتركهم، إنما أنزل لهم المنهج الذي يحكم حركتهم في الحياة بافعل كذا، ولا تفعل كذا، وهذا هو قانون الصيانة الذي يضمن للبشر الصلاح والرِّفْعة وعُلُوَّ المنزلة، وجعل هذا المنهج اختياراً، مَنْ شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، مَنْ شاء أطاع ومَنْ شاء عصى، ليرى المؤمن أثر رفعة الله له في الآخرة حين يُدخِله الجنةَ دار النعيم الباقي، حيث لا فَوْتَ للنعمة، ولا مَوْتَ للوجود.
وهذا المنهج جاءنا في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ينظم حركة حياتنا حتى تتكامل الحركات ولا تتصادم، فحين ترى شرع الله يقيد حركتك في شيء، فاعلم أنه قيَّد حركات الملايين من أجلك، فحين ينهاك عن السرقة مثلاً يُقيّد حركتك وأنت فرد ويمنع يدك أنْ تمتد لما لا تملك، وفي المقابل قيَّد ملايين الأيدي حتى لا تمتد إلى مالك أنت، حين أمرك بغضِّ البصر وحفظ المحارم أمر الخَلْق جميعهم أنْ يغضُّوا أبصارهم عن محارمك.. إلخ فتأمل مَنِ المستفيد من تطبيق هذا المنهج؟
وقوله: {يُلْقِي الرُّوحَ} الروح لها معَانٍ عدَّة. فالذي يتبادر إلى الذِّهْن أنها هي الروح التي تدبّ في المادة فتمنحها الحياة والحركة، وهذه هي الروح التي ألقاها الخالق سبحانه في آدم فتحرَّك وأدت كل الجوارح وظائفها بعد أنْ كانت طيناً.
ثم أراد سبحانه أنْ يحرس حركة المادة حتى لا تنطق في شهواتها، فأنزل روحاً أخرى من عنده سبحانه هي المنهج القيمي في القرآن الكريم؛ لذلك قال سبحانه: {يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
كيف يُحييهم وهم أحياء مخاطبين بهذا الكلام؟ نعم هم أحياء حياةَ المادة بالروح التي دبَّتْ في أجسامهم فتحركوا بها، إنما المراد هنا حياة أرقى من حياة المادة هي حياة القيم التي تُرقِّي حركة الإنسان وتجعلها دائماً في الخير لنفسه ولمن حَوْله، وكما أن حياة المادة لها روح كذلك حياة القيم لها روح.
لذلك سمَّى القرآنَ روحاً، وسمَّى الذي نزل به من الملائكة رُوحاً، فقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].
وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193].
هذه هي حياة القيم والمثُل الرفيعة، الحياة التي تُؤهلك لحياة أخرى باقية لا تفنى، ولك أنْ توازن بين حياة تُؤهِّلك للدنيا الفانية وحياة تؤهلك للآخرة الباقية، لابدَّ أنك ستجد الروح الثانية أعظم وأفضل من الأولى.
ويكفي في التفريق بينهما أن الروح الأولى، وهي روح المادة تسري في المؤمن والكافر، وبهذه الروح يأتي كفر الكافر ومعصية العاصي، أمَّا روح المنهج والقيم فلا تكون إلا للمؤمن، ولا تُحرِّكه إلا في الخير حركةً سويّة تُسعده وتسعد مَنْ حوله في الدنيا قبل الآخرة.
لذلك قال سبحانه: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] ومعنى (الحيوان) يعني: الحياة الحقيقية الدائمة الباقية التي لا ينتهي نعيمها ولا يدركها فناء، وإنْ كان نعيم البشر في الدنيا على قَدْر حركتهم وإمكاناتهم فنعيمهم في الآخرة على قدر المنعم سبحانه.
ثم أنت تعيش في الدنيا عُرْضة للموت يهددك في كل لحظة، وربما يهجم عليك بغتة فليس له وقتٌ ولا سِنٌّ معين، وليس له سبب يرتبط به، فمنا مَنْ يموت بعد عام، ومنا مَنْ يموت بعد مائة عام، ومنا مَنْ يموت وهو في بطن أمه، الموت لا يفرق بين كبير أو صغير، ولا بين مريض أو سليم. لذلك أبهمه الله، لماذا؟ لِنظلَّ دائماً ذاكرين له منتظرين هجمته، فكأن الإبهام هنا هو عَيْن البيان.
لذلك الحق سبحانه ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 1-2].
تأمل {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] فبدأ بالموت وقدَّمه على الحياة، وكأنه سبحانه يقول لنا: لا تستقبلوا الحياة إلا وفي أذهانكم الموت، لماذا؟ لأن ذكر الموت يمنع الغرور بالدنيا والركون إليها ويضبط سلوك الإنسان، فلا يتحرك إلا في الخير لأنه دائماً يعمل حسابَ العواقب التي تنتظره.
وقوله سبحانه: {عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} يعني: على مَنْ يختاره ويصفيه لهذه المنزلة، وهذا مثل قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75].
وقوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
ثم يوضح الحق سبحانه العلة من قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} لماذا؟ {لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ} يعني: إياك أنْ تفهم أن المسألة تنتهي بنهاية الحياة الدنيا، ويفلت أهل المعاصي بمعاصيهم وأهل الظلم بظلمهم لا، إنما هناك مرجع ومردٌّ إلى هذا الإله الذي كفرت به أو الذي عصيته وتجرأت على محارمه، تذكّر هذه الحقيقة مهما نفرت عنه بالكفر أو نَبَا جانبك عن جانب ربك، فأنت مردود إليه رغماً عنك، موقوفٌ بين يديه، لا مهربَ لك منه أبداً، ولا مفرَّ.
وقلنا: إن الإنذار يعني التخويف من شرٍّ قبل أوانه لتستعدَّ له بأنْ تتجنب دواعي ما يخيف لتسلم منها، ولا معنى للأنذار ساعة وقوع الحدث، لابدَّ أنْ يكون قبل الحدوث بفترة كافية تمكنني من أن أتدارك الأمر وأعمل حسابي.
وقوله {يَوْمَ التَّلاَقِ} أي: التلاقي، والتلاقي لا ينشأ إلا عن تباعد كان موجوداً بين شيئين، فبين أيِّ الأشياء يكون هذا التلاقي؟ قالوا: التلاقي هنا والمراد يوم القيامة سيكون في عدة صور، ففي الآخرة سترى الملائكة الذين آمنتَ بهم في الدنيا إيماناً غيبياً وتلتقي بهم مشهداً.
وفي الآخرة سترى رحمك وأسرتك الكبيرة من لَدُنْ أبيك آدم حتى آخر ولد له في الدنيا، ستلتقي بهم جميعاً، وسترى هذا الرحم الذي قطعته في الدنيا، ستتمثل لك هذه الشجرة الكبيرة متشابكة الأغصان متداخلة الفروع، وعندها ستقول: كيف قطعتُ هذه الرحم؟ وكيف جفوتُ هذه القربات لسبب وبدون سبب، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"كلكم لآدم، وآدم من تراب"...
ومن التلاقي الذي سيكون في الآخرة أنْ يلتقي المظلومُ بظالمه، والخصمُ بمخصومه، نعم وعند الله تجتمع الخصومُ، وعلى العاقل أن يحسب لهذا اللقاء ألف حساب، ومَنْ تدبَّر العواقب نجا.
ومن التلاقي في الآخرة أنْ يلتقي الإنسان بصحيفة أعماله التي أحصتْ عليه كل صغيرة وكبيرة {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6].
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً} [آل عمران: 30].
يوم يقول لك ربك: {اقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14].
ثم يرتفع التلاقي إلى قمته، فيلتقي المؤمنون بربهم عز وجل حين يتجلَّى عليهم سبحانه فيروْنَه، وتكون هذه أعظم النعم تفضلاً من الله وكرماً واقرأ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22-25].
وإذا كانت رؤية الحق سبحانه هي أعظم النعم للمؤمنين فهي أشدّ ألوان العذاب للكافرين لأنهم سيُحرمون منها {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] يومها ستشتد حسرتهم وأسفهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].
وجد اللهَ الذي كفر به في الدنيا، ووجد العاقبة التي طالما حذَّرناه منها وذكّرناه بها.