في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَوۡمَئِذٖ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوۡ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضُ وَلَا يَكۡتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثٗا} (42)

24

وعندئذ يرتسم المشهد شاخصا . . ساحة العرض الواسعة . وكل أمة حاضرة . وعلى كل أمة شهيد بأعمالها . . وهؤلاء الكافرون المختالون الفخورون الباخلون المبخلون ، الكاتمون لفضل الله ، المراءون الذين لم يبتغوا وجه الله . . هؤلاء هم نكاد نراهم من خلال التعبير ! واقفين في الساحة وقد انتدب الرسول [ ص ] للشهادة ! هؤلاء هم بكل ما أضمروا وأظهروا . بكل ما كفروا وما أنكروا . بكل ما اختالوا وما افتخروا . بكل ما بخلوا وبخلوا . بكل ما راءوا وتظاهروا . . هؤلاء هم في حضرة الخالق الذي كفروا به ، الرازق الذي كتموا فضله وبخلوا بالإنفاق مما أعطاهم . في اليوم الآخر الذي لم يؤمنوا به . في مواجهة الرسول الذي عصوه . . فكيف ؟ ؟ ؟

إنها المهانة والخزي ، والخجل والندامة . . مع الاعتراف حيث لا جدوى من الإنكار . .

والسياق القرآني لا يصف هذا كله من الظاهر . إنما يرسم " صورة نفسية " تتضح بهذا كله ؛ وترتسم حواليها تلك الظلال كلها . ظلال الخزي والمهانة ، والخجل والندامة :

( يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ، ولا يكتمون الله حديثًا ) !

ومن خلال اللمسات المعبرة في الصورة الحية ، نحس بكل تلك المعاني ، وبكل تلك الانفعالات ، وهي تتحرك في هذه النفوس . . نحس بها عميقة حية مؤثرة . كما لا نحس من خلال أي تعبير آخر . . وصفي أو تحليلي . . وتلك طريقة القرآن في مشاهد القيامة ، وفي غيرها من مواضع التعبير بالتصوير .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَوۡمَئِذٖ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوۡ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضُ وَلَا يَكۡتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثٗا} (42)

و { يومئذ } ظرف ويصح أن يكون نصب «يوم » في هذا الموضع على الظرف ، على أنه معرب مع الأسماء غير المتمكنة ، ويصح أن يكون نصبه على أنه مبني على النصب مع الأسماء غير المتمكنة ، و «الود » إنما هو في ذلك اليوم .

وقرأ نافع وابن عامر «تسّوّى » بتشديد السين والواو ، على إدغام التاء الثانية من تتسوى ، وقرأ حمزة والكسائي «تسَوّى » بتخفيف السين وتشديد الواو{[4051]} ، على حذف التاء الثانية المذكورة ، وهما بمعنى واحد ، واختلف فيه ، فقالت فرقة : تنشق الأرض فيحصلون فيها ، ثم تتسوى هي في نفسها عليهم وبهم{[4052]} ، وقالت فرقة : معناه لو تستوي هي معهم في أن يكونوا تراباً كآبائهم ، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المستوية معهم ، والمعنى إنما هو أنهم يستوون مع الأرض ، ففي اللفظ قلب يخرج على نحو اللغة التي حكاها سيبويه ، أدخلت القلنسوة في رأسي وأدخلت فمي في الحجر ، وما جرى مجراه ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «تُسوى » على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ، فيكون الله تعالى يفعل ذلك على حسب المعنيين المتقدمين ، قال أبو علي : إمالة الفتحة إلى الكسرة والألف إلى الياء في «تسوى » حسنة .

قالت طائفة : معنى الآية أن الكفار لما يرونه من الهول وشدة المخاوف يودون أن تسوى بهم الأرض فلا ينالهم ذلك الخوف ، ثم استأنف الكلام فأخبر أنهم { لا يكتمون حديثاً } لنطق جوارحهم بذلك كله ، حين يقول بعضهم : { والله ربنا ما كنا مشركين }{[4053]} فيقول الله : كذبتم ، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثاً ، وهذا قول ابن عباس ، وقال فيه : إن الله إذا جمع الأولين والآخرين ظن بعض الكفار أن الإنكار ينجي ، فقالوا : { والله ربنا ما كنا مشركين } ، فيقول الله : كذبتم ، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثاً ، وهكذا فتح ابن عباس على سائل أشكل عليه الأمر{[4054]} ، وقالت طائفة : مثل القول الأول ، إلا أنها قالت : إنما استأنف الكلام بقوله : { ولا يكتمون الله حديثاً } ليخبر عن أن الكتم لا ينفع ، وإن كتموا ، لأن الله تعالى يعلم جميع أسرارهم وأحاديثهم ، فمعنى ذلك : وليس ذلك المقام الهائل مقاماً ينفع فيه الكتم .

قال القاضي أبو محمد : الفرق بين هذين القولين أن الأول يقتضي أن الكتم لا ينفع بوجه ، والآخر يقتضي أن الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع ، كما تقول : هذا مجلس لا يقال فيه باطل ، وأنت تريد لا ينتفع به ولا يستمع إليه ، وقالت طائفة : الكلام كله متصل ، ومعناه : يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض ، ويودون أن لا يكتموا الله حديثاً ، وودهم لذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا : { والله ربنا ما كنا مشركين } ، وقالت طائفة : هي مواطن وفرق ، وقالت طائفة : معنى الآية : يود الذين كفروا أن تسوى بهم الأرض ، وأنهم لم يكتموا الله حديثاً ، وهذا على جهة الندم على الكذب أيضاً ، كما تقول : وودت أن أعزم كذا ، ولا يكون كذا على جهة الفداء ، أي يفدون كتمانهم بأن تسوى بهم الأرض ، و { الرسول } في هذه الآية : للجنس ، شرف بالذكر وهو مفرد دل على الجمع ، وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر : «وعصِوا الرسول » بكسر الواو من { عصوا } .


[4051]:- أي: مع فتح التاء أيضا.
[4052]:- هذا رأي "أبو عبيدة" وجماعة – والباء في [بهم] بمعنى: عليهم.
[4053]:- من قوله تعالى في الآية (23) من سورة (الأنعام): {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين}.
[4054]:-أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردوية، والبيهقي في الأسماء والصفات عن سعد بن جبير قال: (جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيت أشياء تختلف عليّ في =القرآن؟ فقال ابن عباس: ما هو، أشك في القرآن؟ قال: ليس هو بالشك، ولكنه اختلاف، قال: هات ما اختلف عليك من ذلك، قال: أسمع الله يقول: [ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين}. وقال: {ولا يكتمون الله حديثا} فقد كتموا، وأسمعه يقول: [فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون]، ثم قال: [وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون]، الخ الحديث، وهو موجود في (الدر المنثور 2/164)، ونقل (ابن كثير) الجزء الخاص منه بهذه الآية فقط 2/ 291.