والآن يجيء الحكم الأخير من الأحكام الشرعية التي تتضمنها السورة ، في بيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع المسلم ، وهو الخاص بتشريع الإشهاد على الوصية في حالة الضرب في الأرض ، والبعد عن المجتمع والضمانات التي تقيمها الشريعة ليصل الحق إلى أهله .
( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت - حين الوصية - اثنان ذوا عدل منكم ، أو آخران من غيركم ، إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، تحبسونهما من بعد الصلاة ، فيقسمان بالله - إن ارتبتم - لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذا لمن الآثمين . فإن عثر على أنهما استحقا إثما فالآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم . . الأوليان . . فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا ، إنا إذن لمن الظالمين . ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا أن ترد إيمان بعد أيمانهم ؛ واتقوا الله واسمعوا ، والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . .
وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث : أن على من يحس بدنو أجله ، ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال ، أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر ، ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين . فأما إذا كان ضاربا في الأرض ، ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه ، فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين .
فإن ارتاب المسلمون - أو ارتاب أهل الميت - في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه ، فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة - حسب عقيدتهما - ليحلفا بالله ، أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر ، ولو كان ذا قربى ، ولا يكتمان شيئا مما استحفظا عليه . . وإلا كانا من الآثمين . . وبذلك تنفذ شهادتهما .
قال مكي بن أبي طالب رضي الله عنه : هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كلام من لم يقع له الثلج{[4766]} في تفسيرها ، وذلك بين من كتابه رحمه الله وبه نستعين ، لا نعلم خلافاً أن سبب هذه الآية أن تميماً الداري وعدي بن بداء ، كانا نصرانيين سافرا إلى المدينة يريدان الشام لتجارتهما ، قال الواقدي : وهما أخوان وقدم المدينة أيضاً ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص يريد الشام تاجراً فخرجوا رفاقة فمرض ابن أبي مارية في الطريق ، قال الواقدي فكتب وصية بيده ودسها في متاعه وأوصى إلى تميم وعدي أن يؤديا رحله ، فأتيا بعد مدة المدينة برحله فدفعاه ، ووجد أولياؤه من بني سهم وصيته مكتوبة ، ففقدوا أشياء قد كتبها فسألوهما عنها فقالا ما ندري ، هذا الذي قبضناه له ، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية الأولى فاستحلفهما رسول الله بعد العصر ، فبقي الأمر مدة ثم عثر بمكة من متاعه على إناء عظيم من فضة مخوص بالذهب{[4767]} ، فقيل لمن وجد عنده من أين صار لكم هذا الإناء ؟ قالوا : ابتعناه من تميم الداري وعدي بن بداء ، فارتفع في الأمر إلى النبي عليه السلام فنزلت الآية الأخرى ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا ، قال الواقدي : فحلف عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة ، واستحقا ، وروى ابن عباس عن تميم الداري أنه قال : برىء الناس من هذه الآيات غيري وغير عدي بن بداء ، وذكر القصة ، إلا أنه قال وكان معه جام{[4768]} فضة يريد به الملك ، فأخذته أنا وعدي فبعناه بألف وقسمنا ثمنه ، فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة ، فوثبوا إلى عدي فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف عمرو بن العاص ورجل آخر معه ، ونزعت من عدي خمسمائة .
قال القاضي أبو محمد : تختلف ألفاظ هذه القصة في الدواوين وما ذكرته هو عمود الأمر ، ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامه ، وقد صنفه في الصحابة بعض المتأخرين ، وضعف أمره ، ولا وجه عندي لذكره في الصحابة .
وأما معنى الآية من أولها إلى آخرها ، فهو أن الله تعالى أخبر المؤمنين أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضره الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن معه من المؤمنين أحد ليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر ، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا وأن ما شهدا به حق ما كتما فيه شهادة الله ، وحكم بشهادتهما ، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم ، حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما ، هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وابن عباس وغيرهم ، يقولون معنى قوله ، { منكم } من المؤمنين ، ومعنى ، { من غيركم } من الكفار ، قال بعضهم ذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون في التجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة ، واختلفت هذه الجماعة المذكورة ، فمذهب أبي موسى الأشعري وشريح وغيرهما أن الآية محكمة ، وأسند الطبري إلى الشعبي أن رجلاً حضرته المنية بدقوقا{[4769]} ولم يجد أحداً من المؤمنين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ، فقال أبو موسى الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في مدة النبي عليه السلام ثم أحلفهما بعد صلاة العصر وأمضى شهادتهما ، وأسند الطبري عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة النصراني واليهودي على مسلم إلا في الوصية ، ولا تجوز أيضاً في الوصية إلا إذا كانوا في سفر ، ومذهب جماعة ممن ذكر ، أنها منسوخة بقوله تعالى :{ وأشهدوا ذوي عدل منكم }{[4770]} وبما استند إليه إجماع جمهور الناس على أن شهادة الكافر لا تجوز .
وتأول الآية جماعة من أهل العلم على غير هذا كله ، قال الحسن بن أبي الحسن وقوله تعالى : { منكم } يريد من عشيرتكم وقرابتكم ، وقوله { أو آخران من غيركم } يريد من غير القرابة والعشيرة ، وقال بهذا عكرمة مولى ابن عباس وابن شهاب ، قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم ألحن{[4771]} بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها ، فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أشهد أجنبيان ، فإذا شهدا فإن لم يقع ارتياب مضت الشهادة ، وإن ارتيب أنهما مالا بالوصية إلى أحد أو زادا أو نقصا حلفا بعد صلاة العصر ومضت شهادتهما ، فإن عثر بعد ذلك على تبديل منهما واستحقاق إثم حلف وليان من القرابة وبطلت شهادة الأولين{[4772]} .
وقال بعض الناس الآية منسوخة ، ولا يحلف شاهد ، ويذكر هذا عن مالك بن أنس والشافعي وكافة الفقهاء ، وذكر الطبري رحمه الله أن هذا التحالف الذي في الآية إنما هو بحسب التداعي ، وذلك أن الشاهدين الأولين إنما يحلفان إن ارتيب فقد ترتبت عليهما دعوى فلتزمهما اليمين ، لكن هذا الارتياب إنما يكون في خيانة منهما ، فإن عثر بعد ذلك على أنهما استحقا إثماً نظر ، فإن كان الأمر بيناً غرما دون يمين َوِلَّيين ، وإن كان بشاهد واحد أو بدلا بل تقتضي خيانتهما أو ما أشبه ذلك مما هو كالشاهد حمل على الظالم وحلف المدعيان مع ما قام لهما من شاهد أو دليل .
قال القاضي أبو محمد : فهذا هو الاختلاف في معنى الآية وصورة حكمهما ، ولنرجع الآن إلى الإعراب والكلام على لفظة لفظة من الآية ، ولنقصد القول المفيد لأن الناس خلطوا في تفسير هذه الآية تخليطاً شديداً ، وذكر ذلك والرد عليه يطول ، وفي تبيين الحق الذي تتلقاه الأذهان بالقبول مقنع ، والله المستعان ، قوله { شهادة بينكم } قال قوم الشهادة هنا بمعنى الحضور ، وقال الطبري : الشهادة بمعنى اليمين وليست بالتي ُتَؤَّدى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، والصواب أنها الشهادة التي تحفظ لتؤدى{[4773]} ، ورفعهما بالابتداء والخبر في قوله { اثنان } قال أبو علي : التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقدره غيره أولاً كأنه قال«مقيم شهادة بينكم اثنان » وأضيفت الشهادة إلى «بين » اتساعاً في الظرف بأن يعامل معاملة الأسماء ، كما قال تعالى : { لقد تقطع بينكم }{[4774]} .
وقرأ الأعرج والشعبي والحسن «شهادةٌ » بالتنوين «بينكَم » بالنصب ، وإعراب هذه القراءة على نحو إعراب قراءة السبعة وروي عن الأعرج وأبي حيوة «شهادة » بالنصب والتنوين «بينكم » نصب ، قال أبو الفتح : التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان ، وقوله تعالى : { إذا حضر أحدكم الموت } معناه إذا قرب الحضور وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت وهذا كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله }{[4775]} وكقوله { إذا طلقتم النساء فطلقوهن }{[4776]} وهذا كثير ، والعامل في { إذا } المصدر الذي هو { شهادة } ، وهذا على أن تجعل { إذا } بمنزلة حين لا تحتاج إلى جواب ولك أن تجعل { إذا } في هذه الآية المحتاجة إلى الجواب ، لكن استغني عن جوابها بما تقدم في قوله { شهادة بينكم } إذ المعنى إذا حضر أحدكم الموت فينبغي أن يشهد ، وقوله { حين الوصية } ظرف زمان ، والعامل فيه { حضر } ، وإن شئت جعلته بدلاً من { إذا } ، قال أبو علي :
ولك أن تعلقه { بالموت } لا يجوز أن تعمل فيه { شهادة } لأنها إذا عملت في ظرف من الزمان لم تعمل في ظرف آخر منه ، وقوله { ذوا عدل } صفة لقوله اثنان ، و { منكم } صفة أيضاً بعد صفة ، وقوله تعالى : { من غيركم } صفة لآخران ، و { ضربتم في الأرض } معناه سافرتم للتجارة ، تقول ضربت في الأرض أي سافرت للتجارة ، وضربت الأرض ذهبت فيها لقضاء حاجة الإنسان ، وهذا السفر كان الذي يمكن أن يعدم المؤمن مؤمنين ، فلذلك خص بالذكر لأن سفر الجهاد لا يكاد يعدم فيه مؤمنين ، قال أبو علي : قوله { تحبسونهما } صفة ل { آخران } واعترض بين الموصوف والصفة بقوله : إن أنتم إلى الموت ، وأفاد الاعتراض أن العدول إلى { آخران } من غير الملة والقرابة حسب اختلاف العلماء في ذلك إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه ، واستغني عن جواب { إن } لما تقدم من قوله { أو آخران من غيركم } وقال جمهور العلماء { الصلاة } هنا صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس ، وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيمن حلف على سلعته وأمر باللعان فيه ، وقال ابن عباس : إنما هي بعد صلاة الذميين{[4777]} ، وأما العصر فلا حرمة لها عندهما ، والفاء في قوله { فيقسمان } عاطفة جملة على جملة لأن المعنى تم في قوله { من بعد الصلاة } قال أبو علي : وإن شئت لم تقدر الفاء عاطفة جملة على جملة ، ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرمة :
وإنسان عيني يحسر الماء تارة *** فيبدو وتارات يجم فيغرق{[4778]}
تقديره عندهم إذا حسر بدا ، فكذلك إذا حبستموهما أقسما وقوله { إن ارتبتم } شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به ، ومتى لم يقع ارتياب ولا اختلاف فلا يمين ، أما أنه يظهر من حكم أبي موسى تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها وإن لم يرتب ، وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة ترتب في الخيانة وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهما دون بعض وتقع مع ذلك اليمين عنده ، وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا بأن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة ، والضمير في قول الحالفين { لا نشتري به ثمناً } عائد على القسم ، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى ، قال أبو علي : يعود على تحريف الشهادة ، وقوله { لا نشتري } جواب ما يقتضيه قوله : فيقسمان بالله ، لأن القسم ونحوه يتلقى بما تتلقى به الأيمان ، وتقديره به ثمناً ، أي ذا ثمن لأن الثمن لا يشترى .
وكذلك قوله تعالى : { اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً }{[4779]} معناه ذا ثمن ، ولا يجوز أن يكون { نشتري } في هذه الآية بمعنى نبيع لأن المعنى يبطله وإن كان ذلك موجوداً في اللغة في غير هذا الموضع ، وخص «ذو القربى » بالذكر لأن العرف ميل النفس إلى قرابتهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل ، وقوله تعالى : { ولا نكتم شهادة الله } أضاف { شهادة } إليه تعالى من حيث هو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها ، وقرأ الحسن والشعبي «ولا نكتمْ » بجزم الميم{[4780]} ، وقرأ علي بن أبي طالب ونعيم بن ميسرة والشعبي بخلاف عنه «شهادةً » بالتنوين «الله » نصب ب { نكتم } ، كأن الكلام ولا نكتم الله شهادة قال الزهري ويحتمل أن يكون المعنى «ولا نكتم شهادة والله » ثم حذفت الواو ونصب الفعل إيجازاً ، وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش «شهادةً » بالتنوين( ألله ) بقطع الألف دون مد وخفض الهاء ، ورويت أيضاً عن الشعبي وغيره أنه كان يقف على الهاء من الشهادة بالسكون ، ثم يقطع الألف المكتوبة من غير مد كما تقدم ، وروي عنه أنه كان يقرأ «الله » بمد ألف الاستفهام في الوجهين أعني بسكون الهاء من الشهادة وتحريكها منّونة منصوبة ، ورويت هذه التي هي تنوين ( الشهادة ) ومد ألف الاستفهام بعد عن علي بن أبي طالب ، قال أبو الفتح : أما تسكين هاء شهادة والوقف عليها واستئناف القسم فوجه حسن لأن استئناف القسم في أول الكلام أوقر له وأشد هيبة أن يدرج في عرض القول ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن حبيب والحسن البصري فيما ذكر أبو عمرو الداني «شهادةً » بالنصب والتنوين «آلله » بالمد في همزة الاستفهام التي هي عوض من حرف القسم «آنا » بمد ألف الاستفهام أيضاً دخلت لتوقيف وتقرير لنفوس المقسمين أو لمن خاطبوه وقرأ ابن محيصن «لملآثمين » بالإدغام .