في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} (45)

14

وفي نهاية الشوط يربط الكتاب الذي أنزل على محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ويربط الصلاة وذكر الله ، بالحق الذي في السماوات والأرض ، وبسلسلة الدعوة إلى الله من لدن نوح عليه السلام :

( اتل ما أوحي إليك من الكتاب ، وأقم الصلاة ، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) . .

اتل ما أوحي إليك من الكتاب فهو وسيلتك للدعوة ، والآية الربانية المصاحبة لها ، والحق المرتبط بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض .

وأقم الصلاة إن الصلاة - حين تقام - تنهى عن الفحشاء والمنكر . فهي اتصال بالله يخجل صاحبه ويستحيي أن يصطحب معه كبائر الذنوب وفواحشها ليلقى الله بها ، وهي تطهر وتجرد لا يتسق معها دنس الفحشاء والمنكر وثقلتهما . " من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا " . وما أقام الصلاة كما هي إنما أداها أداء ولم يقمها . . وفرق كبير بينهما . . فهي حين تقام ذكر لله . ( ولذكر الله أكبر ) . أكبر إطلاقا أكبر من كل اندفاع ومن كل نزوع . وأكبر من كل تعبد وخشوع .

( والله يعلم ما تصنعون ) . .

فلا يخفى عليه شيء ، ولا يلتبس عليه أمر . وأنتم إليه راجعون . فمجازيكم بما تصنعون . .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} (45)

قوله تعالى : { اتل ما أوحي إليك من الكتاب } يعني القرآن ، { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } الفحشاء : ما قبح من الأعمال ، والمنكر : ما لا يعرف في الشرع . قال ابن مسعود ، وابن عباس : في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله ، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ، ولم تنهه عن المنكر ، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً . وقال الحسن ، وقتادة : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه . وروي عن أنس قال : " كان فتىً من الأنصار يصلي الصلوات الخمس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه ، فوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاله فقال : إن صلاته تنهاه يوماً ، فلم يلبث أن تاب وحسن حاله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم أل كم إن لاته تنهاه يوما " ؟ وقال ابن عون : معنى الآية : إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها . وقيل : أراد بالصلاة القرآن ، كما قال تعالى : { ولا تجهر بصلاتك } أي : بقراءتك ، وقيل أراد أنه يقرأ القرآن في الصلاة ، فالقرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، أنبأنا علي بن الجعد ، أنبأنا قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن رجلاً يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق ، قال : ستنهاه قراءته " . وفي رواية قيل : " يا رسول الله إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل ، فقال : إن صلاته لتردعه " . قوله عز وجل : { ولذكر الله أكبر } أي : ذكر الله أفضل الطاعات .

أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري ، أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ببغداد ، أنبأنا أبو علي الحسين بن صفوان البردعي ، أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا ، أنبأنا هارون بن معروف ، أنبأنا أبو علي الضرير ، أنبأنا أنس بن عياض ، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عباس ، عن أبي مخرمة ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لمن من أن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى قال ذكر الله " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حميد بن زنجويه ، أنبأنا أبو الأسود ، أنبأنا ابن لهيعة عن دراج ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العباد أفضل درجةً عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات قيل : يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر و يختضب دماً ، لكان الذاكر لله كثيراً أفضل منه درجة " . وروينا " أن أعرابياً قال : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله " .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج القشيري ، أنبأنا أمية بن بسطام العبسي ، أنبأنا يزيد بن زريع ، أنبأنا روح بن القاسم ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان ، فقال : جيروا ، هذا جمدان ، سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات " .

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا خلاد بن أسلم ، حدثنا النضر ، أنبأنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت الأغر قال أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده " . وقال قوم معنى قوله : ( ولذكر الله أكبر ) أي : ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه . ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ويروى ذلك مرفوعاً عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عطاء في قوله : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ، قال : ولذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية . { والله يعلم ما تصنعون } قال عطاء : يريد لا يخفى عليه شيء .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} (45)

قوله تعالى : " اتل " أمر من التلاوة والدؤوب عليها وقد مضى في " طه " {[12412]} الوعيد فيمن أعرض عنها وفي مقدمة الكتاب{[12413]} الأمر بالحض عليها والكتاب يراد به القرآن . " وأقم الصلاة " الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته وإقامة الصلاة أداؤها في أوقاتها بقراءتها وركوعها وسجودها وقعودها وتشهدها وجميع شروطها وقد تقدم بيان ذلك في " البقرة " {[12414]} فلا معنى للإعادة .

قوله تعالى : " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " يريد إن الصلوات الخمس هي التي تكفر ما بينها من الذنوب ، كما قال عليه السلام : ( أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء ) قالوا : لا يبقى من درنه شيء ، قال : ( فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ) خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة ، وقال فيه حديث حسن صحيح وقال ابن عمر : الصلاة هنا القرآن . والمعنى : الذي يتلى في الصلاة ينهى عن الفحشاء والمنكر وعن الزنى والمعاصي .

قلت : ومنه الحديث الصحيح : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) يريد قراءة الفاتحة ، وقال حماد بن أبي سليمان وابن جريج والكلبي : العبد ما دام في صلاته لا يأتي فحشاء ولا منكرا ، أي إن الصلاة تنهى ما دمت فيها قال ابن عطية : وهذه عجمة وأين هذا مما رواه أنس بن مالك قال : كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن الصلاة ستنهاه ) فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألم أقل لكم ) وفي الآية تأويل ثالث ، وهو الذي ارتضاه المحققون وقال به المشيخة الصوفية وذكره المفسرون ، فقيل المراد ب " أقم الصلاة " إدامتها والقيام بحدودها ثم أخبر حكما منه بأن الصلاة تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر ، وذلك لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة والصلاة تشغل كل بدن المصلي ، فإذا دخل المصلي في محرابه وخشع وأخبت لربه وادكر أنه واقف بين يديه ، وأنه مطلع عليه ويراه صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى وظهرت على جوارحه هيبتها ، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حالة فهذا معنى هذه الأخبار لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون .

قلت : لا سيما وإن أشعر نفسه أن هذا ربما يكون آخر عمله وهذا أبلغ في المقصود وأتم في المراد ، فإن الموت ليس له سن محدود ولا زمن مخصوص ولا مرض معلوم ، وهذا مما لا خلاف فيه ، وروي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه ، فكلم في ذلك فقال : إني واقف بين يدي الله تعالى وحق لي هذا مع ملوك الدنيا ، فكيف مع ملك الملوك ، فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر ، ومن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل كصلاتنا - وليتها تجزي- فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان ، فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تعالى ، تركته الصلاة يتمادى على بعده ، وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن والأعمش قولهم : ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا ) وقد روي أن الحسن أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك غير صحيح السند . قال ابن عطية : سمعت أبي رضي الله عنه يقول : فإذا قررناه ونظر معناه فغير جائز أن يقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من الله ، حتى كأنها معصية وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من الله ، بل تتركه على حال ومعاصيه من الفحشاء والمنكر والبعد ، فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان سبيله ، فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن الله ، وقيل لابن مسعود : إن فلانا كثير الصلاة فقال : إنها لا تنفع إلا من أطاعها .

قلت : وعلى الجملة فالمعنى المقصود بالحديث : ( لم تزده من الله إلا بعدا ولم يزدد بها من الله إلا مقتا ) إشارة إلى أن مرتكب الفحشاء والمنكر لا قدر لصلاته ؛ لغلبة المعاصي على صاحبها . وقيل : هو خبر بمعنى الأمر أي لينته المصلي عن الفحشاء والمنكر والصلاة بنفسها لا تنهى ، ولكنها سبب الانتهاء وهو كقوله تعالى : " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق " [ الجاثية : 29 ] وقوله : " أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون " [ الروم : 35 ] .

قوله تعالى : " ولذكر الله أكبر " أي ذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم قال معناه ابن مسعود وابن عباس وأبو الدرداء وأبو قرة وسلمان والحسن ، وهو اختيار الطبري ، وروي مرفوعا من حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قول الله عز وجل : " ولذكر الله أكبر " قال : ( ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ) وقيل : ذكركم الله في صلاتكم وفي قراءة القرآن أفضل من كل شيء وقيل : المعنى ، إن ذكر الله أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر . وقال الضحاك : ولذكر الله عند ما يحرم فيترك أجلّ الذكر وقيل : المعنى ولذكر الله للنهي عن الفحشاء والمنكر أكبر أي كبير وأكبر يكون بمعنى كبير . وقال ابن زيد وقتادة : ولذكر الله أكبر من كل شيء أي أفضل من العبادات كلها بغير ذكر . وقيل : ذكر الله يمنع من المعصية فإن من كان ذاكرا له لا يخالفه . قال ابن عطية : وعندي أن المعنى ولذكر الله أكبر على الإطلاق أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل في غير الصلاة ؛ لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر الله مراقب له وثواب ذلك أن يذكره الله تعالى ، كما في الحديث ( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ) والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهيٍ . والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله ، وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى ، وذكر الله تعالى للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه وذلك ثمرة لذكر العبد ربه قال الله عز وجل : " فاذكروني أذكركم " [ البقرة : 152 ] وباقي الآية ضرب من الوعيد والحث على المراقبة .


[12412]:راجع ج 11 ص 258 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
[12413]:راجع ج 1 ص 1 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة.
[12414]:راجع ج 1 ص 164 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} (45)

ولما أفاد هذا الخبر كله القرآن الذي لا حق أحقّ منه ، ودل على أن فهم أمثاله يحتاج إلى مزيد علم ، وأن مفتاح العلم به سبحانه رسوخ الإيمان ، خاطب رأس أهل الإيمان لأنه أعظم الفاهمين له ليقتدي به الأتباع فقال : { اتل ما } أي تابع قراءته ؛ ودل على شرفه لا ختصاصه به بقوله : { أوحي إليك } إذ الوحي الإلقاء سراً { من الكتاب } أي الجامع لكل خير ، فإنه المفيد للإيمان ، مع أنه أحق الحق الذي خلقت السماوات والأرض لأجله ، والإكثار في تلاوته يزيد بصيرة في أمره ، ويفتح كنوز الدقائق من علمه ، وهو أكرم من أن ينيل قارئه فائده وأجلّ من أن يعطي قياد فوائده ويرفع الحجاب عن جواهره وفرائده في أول مرة ، بل كلما ردده القارىء بالتدبر حباه بكنز من أسراره ، ومهما زاد زاده من لوامع أنواره ، إلى أن يقطع بأن عجائبه لا تعد ، وغرائبه لا تحد .

ولما أرشد إلى مفتاح العلم ، دل قانون العمل الذي لايصح إلا بالقرآن ، وهو ما يجمع الهم ، فيحضر القلب ، فينشرح الصدر ، فينبعث الفكر في رياض علومه ، فقال : { وأقم الصلاة } أي التي هي أحق العبادات ، ثم علل ذلك بقوله دالاً بالتأكيد على فخامة أمرها ، وأنه مما يخفى على غالب الناس : { إن الصلاة تنهى } أي توجد النهي وتجدده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها { عن الفحشاء } أي الخصال ألتي بلغ قبحها { والمنكر } أي الذي فيه نوع قبح وإن دق ، وأقل ما فيها من النهي النهي عن تركها الذي هو كفر ، ومن انتهى عن ذلك انشرح صدره ، واتسع فكره ، فعلم من أسرار القرآن ما لا يعلمه غيره

{ واتقوا الله ويعلمكم الله }[ البقرة : 282 ] .

ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله ، أتبع ذلك الحث على روح الصلاة والمقصد الأعظم منها ، وهو المراقبة لمن يصلي له حتى كأنه يراه ليكون بذلك في أعظم الذكر بقوله : { ولذكر الله } أي ولأن ذكر المستحق لكل صفة كمال { أكبر } أي من كل شيء ، فمن استحضر ذلك بقلبه هان عنده كل شيء سواه " إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه " أو يكون المراد أن من واظب على الصلاة ذكر الله ، ومن ذكره أوشك أن يرق قلبه ، ومن رق قلبه استنار لبه ، فأوشك أن ينهاه هذا الذكر المثمر لهذه الثمرة عن المعصية ، فكان ذكر الذاكر له سبحانه أكبر نهياً له عن المنكر من نهي الصلاة له ، وكان ذكره له سبحانه كبيراً ، كما قال تعالى { فاذكروني أذكركم } وإذا كان هذا شأن ذكر العبد لمولاه ، فما ظنك بذكر مولاه له كلما أقبل عليه بصلاة فإنه جدير بأن يرفعه إلى حد لا يوصف ، ويلبسه من أنواره ملابس لا تحصر .

ولما كان ذلك يحتاج إلى علاج لمعوج الطباع ومنحرف المزاج ، وتمرن على شاق الكلف ، ورياضة لجماح النفوس ، وكان صلى الله عليه وسلم قد نزه عن ذلك كله بما جبل عليه من أصل الفطرة ، ثم بما غسل به قلبه من ماء الحكمة ، وغير ذلك من جليل النعمة ، عدل إلى خطاب الأتباع يحثهم على المجاهدة فقال : { والله } أي المحيط علماً وقدرة { يعلم } أي في كل وقت { ما تصنعون* } من الخير والشر ، معبراً بلفظ الصنعة الدال على ملازمة العمل تنبيهاً على أن إقامة ما ذكر تحتاج إلى تمرن عليه وتدرب ، حتى يصير طبعاً صحيحاً ، ومقصوداً صريحاً .