وأمام مشهد الطغيان الذي يقف في وجه الدعوة وفي وجه الإيمان ، وفي وجه الطاعة ، يجيء التهديد الحاسم الرادع الأخير ، مكشوفا في هذه المرة لا ملفوفا : كلا . لئن لم ينته لنسفعا بالناصية . ناصية كاذبة خاطئة . فليدع ناديه . سندع الزبانية .
إنه تهديد في إبانه . في اللفظ الشديد العنيف : ( كلا . لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ) .
هكذا( لنسفعن ) بهذا اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه . والسفع : الأخذ بعنف . والناصية : الجبهة . أعلى مكان يرفعه الطاغية المتكبر . مقدم الرأس المتشامخ :
قوله تعالى : " كلا لئن لم ينته " أي أبو جهل عن أذاك يا محمد . " لنسفع بالناصية " " لنسفعا " أي لنأخذن " بالناصية " فلنذلنه . وقيل : لنأخذن بناصيته يوم القيامة ، وتطوى مع قدميه ، ويطرح في النار ، كما قال تعالى : " فيؤخذ بالنواصي والأقدام " {[16216]} [ الرحمن : 41 ] . فالآية - وإن كانت في أبي جهل - فهي عظة للناس ، وتهديد لمن يمتنع أو يمنع غيره عن الطاعة . وأهل اللغة يقولون : سفعت بالشيء : إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا . ويقال : سفع بناصية فرسه . قال :
قوم إذا كثر الصياح رأيتهم *** من بين مُلْجِم مُهْرِهِ أو سَافِعِ{[16217]}
وقيل : هو مأخوذ من سفعته النار والشمس : إذا غيرت وجهه إلى حال تسويد ، كما قال :
أثافِيَّ سُفْعاً في مُعَرَّسِ مِرْجَلِ *** ونُؤْيٌ كَجِذْمِ الحوضِ أثلَمَ خاشِعِ{[16218]}
والناصية : شعر مقدم الرأس . وقد يعبر بها عن جملة الإنسان ، كما يقال : هذه ناصية مباركة ، إشارة إلى جميع الإنسان . وخص الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته . وقال المبرد : السفع : الجذب بشدة ، أي لنجرن بناصيته إلى النار . وقيل : السفع الضرب ، أي لنلطمن وجهه . وكله متقارب المعنى . أي يجمع عليه الضرب عند الأخذ ، ثم يجر إلى جهنم .
ولما ذكر ما يمكن أن يكون عليه حال الناهي من السداد ، ذكر ما يمكن أن يكون عليه من الفساد ، فقال مقرراً معجباً معيداً العامل لزيادة التعجيب على النمط الأول : " أرأيت إن كذب " أي هذا الناهي بالحق في وقت النهي - ولما كان لا يلزم من التكذيب التولي قال : " وتولى " أي عن الدين بنهيه هذا ، فكان على الضلال والهوى متمكناً في ذلك بحيث إنه لا يصدر عنه فعل إلا فاسداً { ألم يعلم بأن الله يرى } فيحاسب نفسه بما أرشد إليه سبحانه من البراهين فيعلم أن ما هو عليه من الرشد إن كان الله يقره عليه ويمكنه منه ، أو الغواية إن كان ينهاه عنه ولا يقره عليه ، كما فعل بهذا الذي أقسم : ليرضخن رأس هذا المصلي ، وأقدم عليه بصخرته وهو عند نفسه في غاية القدرة على ذلك بزعمه ، فمنعه الله منه ، ورده عنه ، فرجع على عقبيه خاسئاً ظاهراً عليه الجبن والرعب وغيرهما مما يتحاماه الرجال ، ويأنف منه الضراغمة الأبطال ، والاحتباك هنا بطلب " أرءيت " جملة ليس هو من التنازع ؛ لأنه يستدعي إضماراً والجمل لا تضمر ، إنما هو من باب الحذف لدليل ، فحذف الكون على الضلال ثانياً لدلالة الكون على الهدى عليه أولاً ، وحذف " ألم يعلم بأن الله يرى " أولاً لدلالة ذكره آخراً عليه .
ولما كان هذا الخبيث معرضاً عن هذا العلم الذي هو معترف به كله ، وإنما كان إعراضه لما عنده من الحظوظ والشهوات الموقعة له - بحكم الرد أسفل سافلين - إلى رتبة البهائم ، أتى بأعظم أدوات الردع فقال : { كلا } أي ليس عنده علم بشيء من ذلك لسفول رتبته عن رتبة البهائم ، ولا في يده شيء من الأشياء ، فهو لا يقدر على شيء مما رامه من الأذى ، فليرتدع عن تعاطي ذلك ؛ لأنه لا يضر إلا نفسه .
ولما كان نفي العلم عنه يوهم أنه في عداد الغافلين الذي لا ملامة عليهم ، بين أن انتفاء العلم عنه ليس عن غفلة يعذر صاحبها ، إنما هو عن تهاون في الخير ورضى بالعمى والتقليد ، فهو من قسم الضال الذي فرط في استعمال القوة العلمية المذكورة في الفاتحة ، فاستأنف الإخبار عنه في جواب من يقول : فما يفعل به ؟ معبراً بأداة الشك إقامة له ولغيره في محل الرجاء لانتهائه إبقاء للتكليف ومؤكداً لأنهم منكرون : { لئن لم ينته } أي يفتعل هذا الناهي لهذا العبد المطيع فيقف ويكف عما هو فيه من نهيه وتكذيبه وتوليه .
ولما كان الحال غير محتاج إلى أكثر من التأكد لإيقاع الفعل ، عبر بالحقيقة ولم ينقلها إشارة إلى أن هذا الناهي أقل من أن يحتاج فيه إلى فعل شديد ، بل أقل نفحة من العذاب تكفي في إهلاكه ، وما كان أصل التأكيد إلاّ تطيبباً لقلوب الأولياء وتكذيباً للأعداء فقال : { لنسفعاً } أي والله لنأخذن ونقبضن قبضاً وأخذاً بشدة وعنف مع الجر والاجتذاب واللطم والدفع والغيظ أخذ من يعض مأخوذه ويذله ويسود وجهه ويقذره { بالناصية * } أي بالشعر الذي في مقدم رأسه وهو أشرف ما فيه ، والعرب لا تأنف من شيء أنفتهم من أخذ الناصية ، وإذا انتهكت حرمة الأشرف فما بالك بغيره ، واستغنى بتعريف العهد عن الإضافة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.