مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{كَلَّا لَئِن لَّمۡ يَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ} (15)

ثم قال تعالى : { كلا } وفيه وجوه ( أحدها ) : أنه ردع لأبي جهل ومنع له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات ( وثانيها ) : كلا لن يصل أبو جهل إلى ما يقول إنه يقتل محمدا أو يطأ عنقه ، بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره ( وثالثها ) قال مقاتل : كلا لا يعلم أن الله يرى وإن كان يعلم لكن إذا كان لا ينتفع بما يعلم فكأنه لا يعلم .

ثم قال تعالى : { لئن لم ينته } أي عما هو فيه : { لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في قوله : { لنسفعا } وجوه ( أحدها ) : لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار ، والسفع القبض على الشيء ، وجذبه بشدة ، وهو كقوله : { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } ( وثانيها ) : السفع الضرب ، أي لنلطمن وجهه ( وثالثها ) : لنسودن وجهه ، قال الخليل : تقول للشيء إذا لفحته النار لفحا يسيرا يغير لون البشرة قد سفعته النار ، قال : والسفع ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر سميت بذلك لسوادها ، قال : والسفعة سواد في الخدين . وبالجملة فتسويد الوجه علامة الإذلال والإهانة ( ورابعها ) : لنسمنه قال ابن عباس في قوله : { سنسمه على الخرطوم } إنه أبو جهل ( وخامسها ) : لنذلنه .

المسألة الثانية : قرئ لنسفعن بالنون المشددة ، أي الفاعل لهذا الفعل هو الله والملائكة ، كما قال : { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } وقرأ ابن مسعود لأسعفن ، أي يقول الله تعالى يا محمد . أنا الذي أتولى إهانته ، نظيره : { هو الذي أيدك } ، { هو الذي أنزل السكينة } .

المسألة الثالثة : هذا السفع يحتمل أن يكون المراد منه إلى النار في الآخرة وأن يكون المراد منه في الدنيا ، وهذا أيضا على وجوه ( أحدها ) : ما روي أن أبا جهل لما قال : إن رأيته يصلي لأطأن عنقه ، فأنزل الله هذه السورة ، وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأ على أبي جهل ويخر لله ساجدا في آخرها ففعل ، فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه ، فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعا ، فقيل له مالك ؟ قال : إن بيني وبينه فحلا فاغرا فاه لو مشيت إليه لالتقمني ، وقيل : كان جبريل وميكائيل عليهما السلام على كتفيه في صورة الأسد ( والثاني ) : أن يكون المراد يوم بدر فيكون ذلك بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجرونه إلى القتل إذا عاد إلى النهي ، فلما عاد لا جرم مكنهم الله تعالى من ناصيته يوم بدر ، روى أنه لما نزلت سورة { الرحمن علم القرآن } قال عليه السلام : لأصحابه من يقرؤها منكم على رؤساء قريش ، فتثاقلوا مخافة أذيتهم ، فقام ابن مسعود وقال : أنا يا رسول الله ، فأجلسه عليه السلام ، ثم قال : من يقرؤها عليهم فلم يقم إلا ابن مسعود ، ثم ثالثا كذلك إلى أن أذن له ، وكان عليه السلام يبقي عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته ، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة ، فافتتح قراءة السورة ، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه ، فانصرف وعيناه تدمع ، فلما رآه النبي عليه السلام رق قلبه وأطرق رأسه مغموما ، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكا مستبشرا ، فقال : يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي ! فقال : ستعلم ، فلما ظهر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في المجاهدين ، فأخذ يطالع القتلى .

فإذا أبو جهل ، مصروع يخور ، فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه ، ولعل هذا معنى قوله : { سنسمه على الخرطوم } ثم لما عرف عجزه ولم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة ، فلما رآه أبو جهل قال : يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا ، فقال ابن مسعود : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، فقال أبو جهل : بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي ولا أبغض إلي منه في حال مماتي ، فروي أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال : «فرعوني أشد من فرعون موسى فإنه قال { آمنت } وهو قد زاد عتوا » ثم قال لابن مسعود : اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع ، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله ، ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفا لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه : ( أحدها ) : أنه كلب والكلب يجر ( والثاني ) : لشق الأذن فيقتص الأذن بالأذن ( والثالث ) : لتحقيق الوعيد المذكور بقوله : { لنسفعا بالناصية } فتجر تلك الرأس على مقدمها ، ثم إن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل بين يديه يضحك ، ويقول : يا محمد أذن بأذن لكن الرأس ههنا مع الأذن ، فهذا ما روي في مقتل أبي جهل نقلته معنى لا لفظا ، الخاطئ معنى قوله : { لنسفعا بالناصية } .

المسألة الرابعة : الناصية شعر الجبهة وقد يسمى مكان الشعر الناصية ، ثم إنه تعالى كنى ههنا عن الوجه والرأس بالناصية ، ولعل السبب فيه أن أبا جهل كان شديد الاهتمام بترجيل تلك الناصية وتطييبها ، وربما كان يهتم أيضا بتسويدها فأخبره الله تعالى أنه يسودها مع الوجه .

المسألة الخامسة : أنه تعالى عرف الناصية بحرف التعريف كأنه تعالى يقول : الناصية المعروفة عندكم ذاتها لكنها مجهولة عندكم صفاتها ناصية وأي ناصية كاذبة قولا خاطئة فعلا ، وإنما وصف بالكذب لأنه كان كاذبا على الله تعالى في أنه لم يرسل محمدا وكاذبا على رسوله في أنه ساحر أو كذاب أو ليس بنبي ، وقيل : كذبه أنه قال : أنا أكثر أهل هذا الوادي ناديا ، ووصف الناصية بأنها خاطئة لأن صاحبها متمرد على الله تعالى قال الله تعالى : { لا يأكله إلا الخاطئون } والفرق بين الخاطئ والمخطئ أن الخاطئ معاقب مؤاخذ والمخطئ غير مؤاخذ ، ووصف الناصية بالخاطئة الكاذبة كما وصف الوجوه بأنها ناظرة في قوله تعالى : { إلى ربها ناظرة }