ولما كانت تلك طبيعة البيعة ، كان التخلف عن الجهاد للقادرين - أياً كانت الأسباب - أمراً مستنكراً عظيماً ؛ وكان ما بدا في الغزوة من التردد والتخلف ظاهرة لا بد من تتبعها والتركيز عليها . . وفي الآيات التالية يبين مدى فضل اللّه ورحمته بالمؤمنين إذ يتجاوز عما بدا من التردد والتخلف من المؤمنين المخلصين ، ويتوب عليهم فيما وقع منهم من اخطاء صغرت أم كبرت . . كذلك يبين عن مصير الثلاثة الذين خلفوا بغير حكم في أمرهم - وهم المرجون لأمر اللّه الذين سبق ذكرهم - حتى نزل هذا الحكم بعد فترة من الزمان :
( لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ، من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم . وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ؛ ثم تاب عليهم ليتوبوا . إن اللّه هو التواب الرحيم ) .
وتوبة اللّه على النبي - [ ص ] - تفهم بالرجوع إلى ما كان في أحداث الغزوة بجملتها ؛ والظاهر أنها متعلقة بما سبق أن قال اللّه عنه لنبيه : ( عفا اللّه عنك . لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) . . ذلك حين استأذنه جماعة من أولي الطول بأعذار منتحلة فأذن لهم . وقد عفا اللّه عنه في اجتهاده
[ ص ] - مع تنبيهه إلى أن الأولى كان هو التريث حتى يتبين الصادقين في أعذارهم من الكاذبين المتمحلين !
وتوبته على المهاجرين والأنصار يشير النص الذي بين أيدينا إلى ملابساتها في قوله تعالى : ( الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ) . . وقد كان بعضهم تثاقل في الخروج ثم لحق بالركب كما سنفصل - وهم من خلص المؤمنين - وبعضهم استمع للمنافقين المرجفين بهول لقاء الروم ! ثم ثبت اللّه قلبه ومضى بعد تردد .
ويحسن أن نستعرض بعض ظروف الغزوة وملابساتها لنعيش في جوها الذي يقرر اللّه - سبحانه - أنه كان ( ساعة العسرة ) . ولندرك طبيعة الانفعالات والحركات التي صاحبتها [ ونحن نلخص في هذا من السيرة لابن هشام ، ومن إمتاع الأسماع للمقريزي ، ومن البداية والنهاية لابن كثير ، ومن تفسير ابن كثير ] :
لما نزل قوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . . . )أمر رسول اللّه - [ ص ] - أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم [ ويلاحظ أن الاشتباك بالروم كان قد سبق نزول هذه الآيات في غزوة مؤتة فهذا الأمر الأخير إنما جاء تقريراً للخطة الدائمة المستقرة في آخر ما نزل من القرآن ] وذلك في زمن عسرة من الناس ، وشدة من الحر ، وجدب من البلاء ، وحين طابت الثمار ، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال والزمان الذي هم عليه . وكان رسول اللّه - [ ص ] - قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها ، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له [ أي يقصد إليه ] إلا ما كان من غزوة تبوك ، فإنه بينها للناس ، لبعد الشقة ، وشدة الزمان ، وكثرة العدو الذي يصمد له ، ليتأهب الناس لذلك أهبته . فأمر الناس بالجهاز ، وأخبرهم أنه يريد الروم .
واستأذن بعض المنافقين رسول اللّه - [ ص ] - في التخلف مخافة الفتنة ببنات الروم ! فأذن ! وفي هذا نزل عتاب اللّه لنبيه في الإذن مصدراً بالعفو عنه في اجتهاده :
( عفا اللّه عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ? ) . .
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض : لا تنفروا في الحر - زهادة في الجهاد ، وشكاً في الحق ، وإرجافاً برسول اللّه - [ ص ] - فأنزل اللّه تبارك وتعالى فيهم :
( وقالوا : لا تنفروا في الحر ، قل : نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون ، فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون ) .
وبلغ رسول اللّه - [ ص ] - أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي ، يثبطون الناس عن رسول اللّه - [ ص ] - في غزوة تبوك ؛ فبعث إليهم النبي - [ ص ] - طلحة ابن عبيد اللّه في نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ، ففعل طلحة ، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله ، واقتحم أصحابه فأفلتوا . ثم تاب الضحاك .
ثم إن رسول اللّه - [ ص ] - جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والإسراع . وحض أهل الغنى على النفقة وحمل المجاهدين الذين لا يجدون ما يركبون ؛ فحمل رجال من أهل الغنى محتسبين عند اللّه . وكان في مقدمة المنفقين المحتسبين ، عثمان بن عفان - رضي اللّه عنه - فأنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها . . قال ابن هشام : فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار ، فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض " . وقال عبد اللّه بن أحمد في مسند أبيه -بإسناده - عن عبد الرحمن بن حباب السلمي ، قال : خطب النبي - [ ص ] - فحث على جيش العسرة ، فقال عثمان بن عفان : عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها . قال : ثم نزل مرقاة من المنبر ، ثم حث ، فقال عثمان : عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها . قال : فرأيت رسول اللّه - [ ص ] - يقول بيده هكذا يحركها [ وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب ] : " ما على عثمان ما عمل بعد هذا " . . [ وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي ، عن سكن بن المغيرة أبي محمد مولى لآل عثمان به . وقال : غريب من هذا الوجه ] . ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة به ، وقال : ثلاث مرات وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها . .
وأخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير ، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة - بألفاظ مختلفة - قال : حث رسول اللّه - [ ص ] - على الصدقة [ يعني في غزوة تبوك ] فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف [ أي درهم ] ، فقال يا رسول اللّه ، ما لي ثمانية آلاف ، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها . فقال : " بارك اللّه لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " . وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال : يا رسول اللّه أصبت صاعين من تمر ، صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي . قال : فلمزه المنافقون ، وقالوا : ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء . وقالوا ألم يكن اللّه ورسوله غنيين عن صاع هذا ? !
وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل [ وهو الذي بات يعمل عند يهودي ليحصل على صاعين أجرا له جاء بأحدهما لرسول اللّه - [ ص ] - ] إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه !
ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول اللّه - [ ص ] - وهم البكاءون . وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، فاستحملوا رسول اللّه - [ ص ] - [ أي طلبوا منه أن يحملهم على ركائب إلى أرض المعركة ] ، وكانوا أهل حاجة . فقال : ( لا أجد ما أحملكم عليه ) . فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون .
قال ابن إسحاق : فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد اللّه بن مغفل [ من السبعة البكائين ] وهما يبكيان فقال : ما يبكيكما ? قال : جئنا رسول اللّه - [ ص ] - ليحملنا ، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه ، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه . فأعطاهما ناضحاً له [ أي جملاً يستقي عليه الماء ] فارتحلاه . وزودهما شيئاً من تمر ، فخرجا مع رسول اللّه [ ص ] .
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق : وأما علبة بن زيد [ أحد البكائين ] فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء اللّه ، ثم بكى وقال : اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغّبت فيه ، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به ، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه ، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض . . ثم أصبح مع الناس . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " أين المتصدق هذه الليلة ? " فلم يقم أحد ! ثم قال : " أين المتصدق ? فليقم " فقام إليه فأخبره . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " أبشر ، فوالذي نفسي بيده ، لقد كتبت لك في الزكاة المتقبلة " . .
ثم خرج رسول اللّه - [ ص ] - بمن معه وقد قارب عددهم ثلاثين ألفاً من أهل المدينة ومن قبائلالأعراب من حولها . وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية من غير شك ولا ارتياب ، منهم : كعب ابن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية [ وهم الثلاثة الذين سيرد تفصيل قصتهم ] وأبو خيثمة وعمير بن وهب الجمحي . . وضرب رسول اللّه - [ ص ] - عسكره على " ثنية الوداع " وضرب عبد اللّه بن أبي - رأس النفاق - عسكره على حدة ، أسفل منه ، قال ابن إسحاق : [ وكانوا فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين ] . . ولكن الروايات الأخرى تقول : إن الذين تخلفوا فعلاً دون المائة . . فلما سار رسول اللّه - [ ص ] - تخلف عنه عبد اللّه بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب .
ثم مضى رسول اللّه - [ ص ] - سائراً ، فجعل يتخلف عنه الرجل ، فيقولون : يا رسول اللّه ، تخلف فلان ، فيقول : " دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه تعالى بكم ، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه " حتى قيل : يا رسول اللّه ، قد تخلف أبو ذر ، وأبطأ به بعيره ، فقال : " دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه " . وتلوم أبو ذر على بعيره [ أي انتظر عليه ] ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ، ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه - [ ص ] - ماشياً . ونزل رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - في بعض منازله ، فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول اللّه ، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " كن أبا ذر " فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول اللّه ، هو واللّه أبو ذر . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " رحم اللّه أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده " .
ثم إن أبا خيثمة رجع - بعد أن سار رسول اللّه [ ص ] أياماً - إلى أهله في يوم حار ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه [ أي في حديقته ] قد رشت كل واحدة منهما عريشها ، وبردت له فيه ماء . وهيأت له فيه طعاماً . فلما دخل قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له ، فقال : رسول اللّه - [ ص ] - في الضحَ [ أي الشمس ] والريح والحر ، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم ? ! ما هذا بالنصف ! ثم قال : واللّه لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللّه - [ ص ] - فهيئا لي زاداً . ففعلتا . ثم قدم ناضحه فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول اللّه - [ ص ] - حتى أدركه حين نزل تبوك . . وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطلب يطلب رسول اللّه - [ ص ] - فترافقا ، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب : إن لي ذنباً فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول اللّه - [ ص ] - ففعل . حتى إذا دنا من رسول اللّه - [ ص ] - وهو نازل بتبوك قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " كن أبا خيثمة " . فقالوا : يا رسول اللّه ، هو واللّه أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول اللّه - [ ص ] - فقال له رسول اللّه [ ص ] " أولى لك يا أبا خيثمة ! " . ثم أخبر رسول اللّه - [ ص ] - الخبر . فقال له رسول اللّه - [ ص ] - خيرا ، ودعا له بخير .
قال ابن إسحاق : وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف ، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له : " مُخشن بن حُمير " [ قال ابن هشام : ويقال : مخشى ] يشيرون إلى رسول اللّه - [ ص ] - وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر[ يعنون الروم ] كقتال العرب بعضهم بعضاً ? واللّه لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال . . إرجافاً وترهيباً للمؤمنين . . فقال مخشن بن حمير : واللّه لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . وقد قال رسول اللّه [ ص ] - فيما بلغني - لعمار بن ياسر : " أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن أنكروا فقل : بلى قلتم كذا وكذا " . فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول اللّه - [ ص ] - يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت ، ورسول اللّه - [ ص ] - واقف على ناقته ، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها [ وهو الحبل يشد على بطن البعير ] يا رسول اللّه ، إنما كنا نخوض ونلعب . فأنزل اللّه عز وجل : ( ولئن سألتهم ليقولن : إنما كنا نخوض ونلعب . قل : أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون ? )وقال مخشن بن حمير : يا رسول اللّه ، قعد بي اسمي واسم أبي ! وكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشن بن حمير . فتسمى عبد الرحمن . وسأل اللّه تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة ، فلم يوجد له أثر . .
قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : لما قفل رسول اللّه - [ ص ] من تبوك - بعدما أقام بها بضع عشرة ليلة لم يلق فيها حرباً - هَمَّ جماعة من المنافقين بالفتك به ، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق ، فأخبر بخبرهم ، فأمر الناس بالمسير من الوادي ، وصعد هو العقبة ، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا ، وأمر رسول اللّه - [ ص ] - عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه . عمار آخذ بزمام الناقة ، وحذيفة يسوقها ؛ فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم ، فغضب رسول اللّه - [ ص ] - وأبصر حذيفة غضبه ، فرجع إليهم ومعه محجن ، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه ، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد ظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم ؛ فأسرعوا حتى خالطوا الناس ؛ وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول اللّه - [ ص ] - فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة ، ووقفوا ينتظرون الناس . ثم قال رسول اللّه - [ ص ] - لحذيفة : " هل عرفت هؤلاء القوم ? " قال : ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم . ثم قال : " علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب ? " قالا : لا . فأخبرهما بما كانوا تمالأوا عليه ، وسماهم لهما ، واستكتمهما ذلك ، فقالا : يا رسول اللّه ، أفلا تأمر بقتلهم ? فقال : " أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " . .
قال ابن كثير في البداية والنهاية :
وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي - [ ص ] - إنما أعلم بأسمائهم حذيفة ابن اليمان وحده . وهذا هو الأشبه ، واللّه أعلم . .
فأما العسرة التي لقيها المسلمون في الغزوة فقد وردت بعض الروايات بشواهد منها . . قال ابن كثير في التفسير :
قال مجاهد وغير واحد نزلت هذه الآية : ( لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم ) . . في غزوة تبوك . وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر ، في سنة مجدبة ، وحر شديد ، وعسر من الزاد والماء . . قال قتادة : خرجوا إلى الشام على تبوك في لهبان الحر ، على ما يعلم اللّه من الجهد ، فأصابهم فيها جهد شديدحتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها ، فتاب اللّه عليهم وأقفلهم من غزوتهم .
وروى ابن جرير - بإسناده - إلى عبد اللّه بن عباس : أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة ، فقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول اللّه - [ ص ] - إلى تبوك ، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده .
وقال ابن جرير في قوله : ( لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة )- أي من النفقة والظهر والزاد والماء - ( من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم )- أي عن الحق ، ويشك في دين الرسول - [ ص ] ويرتاب للذي نالهم من المشقة ولشدة في سفرهم وغزوهم - ( ثم تاب عليهم ) يقول : ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه ( إنه بهم رؤوف رحيم ) . .
ولعل هذا الاستعراض أن يصور لنا اليوم كيف كانت( العسرة )كما ينقل لنا لمحة من الجو الذي عاشه المجتمع المسلم في تلك الفترة ؛ يتجلى فيها تفاوت المقامات الإيمانية ؛ من اليقين الجاد عند طائفة . إلى الزلزلة والأرجحة تحت مطارق العسرة عند طائفة . إلى القعود والتخلف - بغير ريبة - عند طائفة . إلى النفاق الناعم عند طائفة . إلى النفاق الفاجر عند طائفة . إلى النفاق المتآمر عند طائفة . . مما يشي أولاً بالحالة العامة للتركيب العضوي للمجتمع في هذه الفترة ؛ ويشي ثانياً بمشقة الغزوة - في مواجهة الروم ومع العسرة - هذه المشقة الممحصة . الممتحنة الكاشفة ؛ والتي لعل اللّه سبحانه قد قدرها من أجل التمحيص والكشف والتمييز .
{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } من إذن المنافقين في التخلف أو برأهم عن علقة الذنوب كقوله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وقيل : هو بعث على التوبة والمعنى : ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعا } إذ ما من أحد إلا وله مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة وإظهار لفضلها بأنها مقام الأنبياء والصالحين من عباده . { الذين اتبعوه في ساعة العُسرة } في وقتها هي حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد والزاد حتى قيل إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة والماء حتى شربوا القيظ . { من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم } عن الثبات على الإيمان أو اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام وفي { كاد } ضمير الشأن أو ضمير القوم والعائد إليه الضمير في { منهم } . وقرأ حمزة وحفص { يزيغ } بالياء لأن تأنيث القلوب غير حقيقي . وقرئ " من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم " يعني المتخلفين . { ثم تاب عليهم } تكرير للتأكيد وتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة ، أو المراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم . { إنه بهم رءوف رحيم } .
«التوبة » من الله رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها ، فقد تكون في الأكثر رجوعاً من حالة طاعة إلى أكمل منها وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رجع به من حاله قبل تحصيل الغزوة وأجرها وتحمل مشقاتها إلى حاله بعد ذلك كله ، وأما توبته عل «المهاجرين والأنصار » فحالها معرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين ، وأما توبته على الفريق الذي كاد أن يزيغ فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا ، و { اتبعوه } معناه : دخلوا في أمره وانبعاثه ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، وقوله { في ساعة العسرة } ، يريد في وقت العسرة فأنزل الساعة منزلة المدة والوقت والزمن ، وإن كان عرف الساعة في اللغة أنه لما قلَّ من الزمن كالقطعة من النهار .
ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم في رواح يوم الجمعة «في الساعة الأولى وفي الثانية » الحديث{[5950]} ، فهي هنا بتجوز ، ويمكن أن يريد بقوله { في ساعة العسرة } الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة وبها وفيها يقع الأجر على الله ، وترتبط النية ، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد اتبع في ساعة العسرة ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرتهم لما اختل كونهم متبعين «في ساعة عسرة » و { العسرة } الشدة وضيق الحال والعدم ، ومنه قوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة }{[5951]} وهذا هو جيش العسرة الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه : «من جهز جيش العسرة فله الجنة »{[5952]} فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف جمل وألف دينار .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلب الدنانير بيده وقال : «وما على عثمان ما عمل بعد هذا » ، وجاء أيضاً رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر{[5953]} ، وقال مجاهد وقتادة : إن العسرة بلغت بهم في تلك الغزوة وهي غزوة تبوك إلى أن قسموا التمرة بين رجلين ، ثم كان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمضغها أحدهم ويشرب عليها الماء ثم يفعل كلهم بها ذلك .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وأصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ويعصرون الفرث حتى استسقى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه يدعو فما رجعهما حتى انسكبت سحابة فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا ، فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر ، وحينئذ قال رجل من المنافقين : وهل هذه إلا سحابة مرت ؟{[5954]} ، وكانت الغزوة في شدة الحر ، وكان الناس كثيراً ، فَقَّل الَّظْهر فجاءتهم العسرة من جهات ، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوائل بلد العدو فصالحه أهل أذرج وأيلة{[5955]} وغيرهما على الجزية ونحوهما ، وانصرف وأما «الزيغ » الذي كادت قلوب فريق منهم أن تواقعه ، فقيل همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة والعسرة ، قاله الحسن ، وقيل زيغها إنما بظنون لها ساءت في معنى عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الغزوة لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد المشقة وقوة العدو المقصود ، وقرأ جمهور الناس وأبو بكر عن عاصم «تزيغ » بالتاء من فوق على لفظ القلوب .
وروي عن أبي عمرو أنه كان يدغم الدال في التاء ، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم والأعمش والجحدري «يزيغ » بالياء على معنى جمع القلوب ، وقرأ ابن مسعود «من بعد ما زاغت قلوب فريق » وقرأ أبي بن كعب «من بعد ما كادت تزيغ » وأما كان فيحتمل أن يرتفع بها ثلاثة أشياء أولها وأقواها القصة والشأن هذا مذهب سيبويه ، وترتفع «القلوبُ » على هذا ب «تزيغ » والثاني أن يرتفع بها ما يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار أولاً ، ويقدر ذلك القوم فكأنه قال من بعد ما كاد القوم تزيغ قلوبهم فريق منهم ، والثالث أن يرتفع بها «القلوب » ويكون في قوله «تزيغ » ضمير «القلوب » ، وجاز ذلك تشبيهاً بكان في قوله { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين }{[5956]} وأيضاً فلأن هذا التقديم للخبر يراد به التأخير ، وشبهت { كاد } ب «كان » للزوم الخبر لها ، قال أبو علي ولا يجوز ذلك في عسى{[5957]} .
ثم أخبر عز وجل أنه تاب أيضاً على هذا الفريق وراجع به ، وأنس بإعلامه للأمة بأنه { رؤوف رحيم } والثلاثة هم كعب بن مالك{[5958]} وهلال بن أمية الواقفي{[5959]} ومرارة بن الربيع العامري ويقال ابن ربيعة ويقال ابن ربعي{[5960]} ، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم{[5961]} وهو في السير ، فلذلك اختصرنا سوقه ، وهم الذين تقدم فيهم { وآخرون مرجون } [ الآية : 106 ] .
انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف ، وما طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تُجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده ، فالجملة استئناف ابتدائي .
وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالاً ماضية .
ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك .
وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغُزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
ومعنى { تاب } عليه : غفر له ، أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنباً أم لم يكنه ، كقوله تعالى : { علم أنْ لن تحصوه فتاب عليكم } [ المزمل : 20 ] أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة . فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبي صلى الله عليه وسلم « لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم »
وأما توبة الله على الثلاثة الذين خُلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم .
والمهاجرون والأنصار : هم مجموع أهل المدينة ، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة ، ولكنهم خُصوا بالثناء لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحوا بأموالهم ، فكانوا إسوة لمن اتَّسى بهم من غيرهم من القبائل .
ووصف المهاجرون والأنصار ب { الذين اتبعوه } للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسبباً في هذه المغفرة .
ومعنى { اتبعوه } أطاعوه ولم يخالفوا عليه ، فالاتباع مجازي .
والعسرة : اسم العسر ، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة . وساعة العسرة هي زمن استنفار النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة تبوك . فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقوله : { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه ، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد . ويدل لذلك قوله : { من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم } أي من المهاجرين والأنصار ، فإنه متعلق ب { اتبعوه } أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقاً منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين ، فإن ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج ، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع .
و { كاد } من أفعال المقاربة تعمل في اسمين عَملَ كانَ ، واسمُها هنا ضمير شأن مقدر ، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن ، وإنما جُعل اسمها هنا ضمير شأن لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ .
وقرأ الجمهور { تَزيغ } بالمثناة الفوقية . وقرأه حمزة ، وحفص عن عاصم ، وخلف بالمثناة التحتية . وهما وجهان في الفعل المسند لجمع تكسير ظاهر . والزيغ : الميل عن الطريق المقصود . وتقدم عند قوله تعالى : { ربنا لا تزغ قلوبنا } في سورة آل عمران ( 8 ) .
وجملة { ثم تاب عليهم } عطف على جملة { لقد تاب الله } أي تاب على غير هذا الفريق مطلقاً ، وتاب على هذا الفريق بعد ما كادت قلوبهم تزيغ ، فتكون { ثم } على أصلها من المهلة . وذلك كقوله في نظير هذه الآية { ثم تاب عليهم ليتوبوا } [ التوبة : 118 ] . والمعنى تاب عليهم فأهموا به وخرجوا فلقوا المشقة والعسر ، فالضمير في قوله { عليهم } لل { فريق } . وجوز كثير من المفسرين أن تكون { ثم } للترتيب في الذكر ، والجملة بعدها توكيداً لجملة { تاب الله } ، فالضمير للمهاجرين والأنصار كلهم .
وجملة : { إنه بهم رءوف رحيم } تعليل لما قبلها على التفسيرين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لقد تاب الله}، يعني تجاوز الله عنهم، {على النبي} صلى الله عليه وسلم، {والمهاجرين والأنصار} ثم نعتهم، فقال: {الذين اتبعوه في ساعة العسرة}، يعني غزاة تبوك، وأصاب المسلمين جهد وجوع شديد، فكان الرجلان والثلاثة يعتقبون بعيرا سوى ما عليه من الزاد... {من بعد ما كاد يزيغ} يعني تميل، {قلوب فريق منهم} يعني طائفة منهم إلى المعصية، ألا ينفروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزاة تبوك، فهذا التجاوز الذي قال الله: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} {ثم تاب عليهم} يعني تجاوز عنهم، {إنه بهم رءوف رحيم} يعني يرق لهم، حين تاب عليهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله، الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء "مِنْ بعدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِنْهُمُ "يقول: من بعد ما كاد يميل قلوب بعضهم عن الحقّ ويشكّ في دينه ويرتاب بالذي ناله من المشقة والشدّة في سفره وغزوه. "ثُمّ تابَ عَلَيْهِمْ" يقول: ثم رزقهم جلّ ثناؤه الإنابة والرجوع إلى الثبات على دينه وإبصار الحقّ الذي كان قد كاد يلتبس عليهم. "إنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" يقول: إن ربكم بالذين خالط قلوبهم ذلك لما نالهم في سفرهم من الشدّة والمشقة، "رَءُوفٌ" بهم، "رَحِيمٌ" أن يهلكهم، فينزع منهم الإيمان بعد ما قد أبلوا في الله ما أبلو مع رسوله وصبروا عليه من البأساء والضرّاء...
عن عبد الله بن محمد بن عقيل: "فِي ساعَةِ العُسْرَةِ" قال: خرجوا في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير، وخرجوا في حرّ شديد، وأصابهم يومئذ عطش شديد، فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها، كان ذلك عسرة من الماء وعسرة من الظهر وعسرة من النفقة...
عن مجاهد: "ساعَةِ العُسْرَةِ" قال: غزوة تبوك، قال: «العسرة»: أصابهم جهد شديد حتى إن الرجلين ليشقان التمرة بينهما وإنهم ليمصون التمرة الواحدة ويشربون عليها الماء...
عن عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه في شأن العسرة، فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى أن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظنّ أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر: يا رسول الله إن الله قد عوّدك في الدعاء خيرا، فادع لنا قال: «تُحِبّ ذلكَ؟» قال: نعم. فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء، فأظلت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم رجعنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) الآية؛ قال بعض أهل التأويل: تاب الله عليهم لزلات سبقت منهم ولهفوات تقدمت من غير أن كان منهم زلات؛ في هذا يعني في غزوة تبوك، وهفوات. أما التوبة على النبي بقوله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا) [التوبة: 43] وعلى المهاجرين والأنصار بما كان منهم يوم أحد ويوم حنين... وقال بعضهم: تاب عليهم لهفوات كانت منهم في غزوة تبوك؛ هموا أن ينصرفوا في وقت غير وقت الانصراف. ويشبه أن تكون التوبة التي ذكر على وجهين سوى ما ذكروا: أحدهما: أنه تاب عليهم أي جدد عليهم التوبة للهفوات التي تقدمت أو للثبات عليها من غير أن كان منهم في الحدوث شيء، ولكن يكون لذلك حكم التجديد والثبات عليها، فيكون كسؤال الهدى، وهم على الهدى كقوله عز وجل (اهدنا الصراط المستقيم) [الفاتحة: 6] وقوله: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) [النساء: 136] أي يا أيها الذين آمنوا في ما مضى من الوقت آمنوا أو اثْبثُوا في ذلك، فعلى ذلك يحتمل أن يكون قوله: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) أي جدد عليهم التوبة من غير أن كان منهم هفوة، أو ثبتهم على التوبة التي كانت منهم. والثاني: أنه ذكر التوبة؛ وذلك أنهم حين صبروا على ما أصابهم من الشدائد والجهد كشف الله عنهم أشياء كانت مستورة عنهم، وجلا لهم أغطية كانت لا تتجلى لهم من قبل، لكن انجلى ذلك لهم، وانكشف لصبرهم على الشدائد التي أصابتهم كقوله: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) [البقرة: 156]... فإنه ذكر (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) ولم يذكر أنها زاغت، وذكر قلوب فريق منهم، ولم يذكر قلوب الكل كما ذكرنا.
ويحتمل ذكر التوبة على النبي الاشراك له مع المؤمنين من غير أن كان له ذنب؛ لأنه أخبر أن ذنبه مغفور بقوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) [الفتح: 2] فهو كما أشركه في الاستغفار كقوله: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) [محمد: 19] أمره بالاستغفار لذنبه على الإشراك له مع استغفار المؤمنين؛ إذ أخبر أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
والتوبة من الله تعالى تخرج على وجوه: أحدها: التوفيق؛ وفقهم للتوبة، وأكرمهم بها، كقوله: (ثم تاب عليهم ليتوبوا) [التوبة: 118] أي وفقهم للتوبة، فتابوا. والثاني: التوبة منه قبولها منهم؛ أي يقبل منهم التوبة كقوله: (إن الله هو التواب الرحيم) [التوبة: 118]. والثالث: تاب عليهم؛ أي تجاوز عنهم وعفا وصفح عنهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أقسم الله تعالى في هذه الآية -لأن لام "لقد "لام القسم- بأنه تعالى تاب على النبي والمهاجرين والأنصار ...
والزيغ: ميل القلب عن الحق، ومنه قوله "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" ومنه قوله "لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا"؛ وكان أبو خيثمة عبدالله بن خيثمة تخلف إلى أن مضى من مسير رسول الله عشرة أيام ثم دخل يوما على امرأتين له -في يوم حار – عريشين لهما قد رشتاهما وبردتا الماء وهيأتا له الطعام، فقام على العريشين فقال: سبحان الله، رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في الضح والريح والحر والقر يحمل سلاحه على عاتقه وأبو خيثمة في ظلال باردة وطعام مهيأ وامرأتين حسناوين ما هذا بالنصف، ثم قال: والله لا أكلم واحدة منكما كلمة ولا أدخل عريشا حتى ألحق بالنبي (صلى الله عليه وآله) فأناخ ناضحه واشتد عليه وتزود وارتحل وامرأتاه تكلمانه ولا يكلمهما ثم سار حتى اذا دنا من تبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): كن أبا خيثمة، فلما دنا قال الناس: هذا أبو خيثمة يا رسول الله، فأناخ راحلته وسلم على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): أولى لك، فحدثه الحديث، فقال له خيرا، ودعا له، فهو الذي زاغ قلبه للمقام، ثم ثبته الله.
وقيل: إن من شدة ما لحقهم همَّ كثير منهم بالرجوع فتاب الله عليهم، وقيل من بعد ما كان شك جماعة منهم في دينه ثم تابوا فتاب الله عليهم، وقوله "ثم تاب عليهم" أي رجع عليهم بقبول توبتهم، "إنه بهم رؤف رحيم" إخبار منه تعالى أنه بهم رؤف، فالرأفة أعظم الرحمة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ}: وتوبته عليهم أنه تدارَكَ قلوبَهم حتى لم تزغ، وكذا سُنَّة الحقِّ -سبحانه- مع أوليائه إذا أشرفوا على العَطَبِ، وقاربوا من التّلفِ، واستمكن اليأسُ في قلوبهم من النصر، ووَطَّنوا أنفسهم على أنْ يذوقوا البأسَ -يُمْطِرُ عليهم سحائبَ الجود، فيعود عودُ الحياةِ بعد يَبْسِه طريّاً، ويُرَدُّ وَرْدُ الأُنْس عقب ذبوله غضاً جَنِيَّاً...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
... وليس المراد من الميل هنا هو الميل عن الدين، إنما المراد من الميل هو الميل عن متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته في الغزو، واختيار التخلف من شدة العسرة.
(ثم تاب عليهم) فإن قال قائل: ما هذا التكرار، فقد قال في أول الآية: (لقد تاب الله على النبي)؟. الجواب عنه: أنه ذكر التوبة في أول الآية قبل ذكر الذنب -وهو محض تفضل من الله، فلما ذكر الذنب أعاد ذكر التوبة، والمراد منه: القبول.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تَابَ الله على النبي} كقوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقوله: {واستغفر لِذَنبِكَ} وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلاّ وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرون والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأوّابين صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح... {فِي سَاعَةِ العسرة} في وقتها، والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق، كما استعملت الغداة والعشية واليوم...
والعسرة: حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة من الظهر... وفي عسرة من الزاد... وفي عسرة من الماء... وفي شدّة زمان، من حمارّة القيظ ومن الجدب والقحط والضيقة الشديدة. {كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ} عن الثبات على الإيمان، أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه... {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} تكرير للتوكيد...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«التوبة» من الله: رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها، فقد تكون في الأكثر رجوعاً من حالة طاعة إلى أكمل منها وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رجع به من حاله قبل تحصيل الغزوة وأجرها وتحمل مشقاتها إلى حاله بعد ذلك كله، وأما توبته عل المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين، وأما توبته على الفريق الذي كاد أن يزيغ فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا. و {اتبعوه} معناه: دخلوا في أمره وانبعاثه ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه... وقوله {في ساعة العسرة}، يريد في وقت العسرة فأنزل الساعة منزلة المدة والوقت والزمن، وإن كان عرف الساعة في اللغة أنه لما قلَّ من الزمن كالقطعة من النهار، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم في رواح يوم الجمعة «في الساعة الأولى وفي الثانية» الحديث، فهي هنا بتجوز. ويمكن أن يريد بقوله {في ساعة العسرة} الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة وبها وفيها يقع الأجر على الله، وترتبط النية، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد اتبع في ساعة العسرة ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرتهم لما اختل كونهم متبعين «في ساعة عسرة»..
وهذا هو جيش العسرة الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: «من جهز جيش العسرة فله الجنة» فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف جمل وألف دينار. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلب الدنانير بيده وقال: «وما على عثمان ما عمل بعد هذا»، وجاء أيضاً رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر..
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَتَوْبَةُ اللَّهِ تَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
دُعَاؤُهُ إلَى التَّوْبَةِ، يُقَالُ: تَابَ اللَّهُ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ دَعَاهُ، وَيُقَالُ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ: يَسَّرَهُ لِلتَّوْبَةِ، وَقَدْ يَكُونُ خَبَرًا، وَقَدْ يَكُونُ دُعَاءً. وَيُقَالُ: تَابَ عَلَيْهِ: ثَبَّتَهُ عَلَيْهَا، وَيُقَالُ: تَابَ عَلَيْهِ: قَبِلَ تَوْبَتَهُ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ جَمَعَ لِهَؤُلَاءِ ذَلِكَ كُلَّهُ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}:
أَمَّا هَذَا فَلَيْسَ لِلنَّبِيِّ فِيهِ مَدْخَلٌ بِاتِّفَاقٍ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، أَمَّا أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ يَدْخُلُ فِي التَّوْبَةِ من إذْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ فَعَذَرَهُ اللَّهُ فِي إذْنِهِ لَهُمْ، وَتَابَ عَلَيْهِ وَعَذَرَهُ، وَبَيَّنَ لِلْمُؤْمِنِينَ صَوَابَ فِعْلِهِ بِقَوْلِهِ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا...} إلَى: {الْفِتْنَةَ}.
وَأَمَّا غَيْرُ النَّبِيِّ فَكَادَ تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِبَقَائِهِمْ بَعْدَهُ، كَأَبِي خيثْمَةَ وَغَيْرِهِ، بِإِرَادَتِهِمْ الرُّجُوعَ مِنَ الطَّرِيقِ حِينَ أَصَابَهُمْ الْجَهْدُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ الْعَطَشُ، حَتَّى نَحَرُوا إبِلَهُمْ، وَعَصَرُوا كُرُوشَهَا، فَاسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ، فَنَزَلَ الْمَطَرُ...
اعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك وبين أحوال المتخلفين عنها، وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه في هذا التفسير، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها، ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نوع زلة جارية مجرى ترك الأولى، وصدر أيضا عن المؤمنين نوع زلة، فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم في تلك الزلات. فقال: {لقد تاب الله على النبي} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: دلت الأخبار على أن هذا السفر كان شاقا شديدا على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى المؤمنين، على ما سيجيئ شرحها، وهذا يوجب الثناء، فكيف يليق بها قوله: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين}.
الأول: أنه صدر عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء من باب ترك الأفضل، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} وأيضا لما اشتد الزمان في هذه الغزوة على المؤمنين على ما سيجيئ شرحها، فربما وقع في قلبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار، ولست أقول عزموا عليه، بل أقول وساوس كانت تقع في قلوبهم، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها. فقال: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه}.
والوجه الثاني: في الجواب أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي عليه السلام وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائما مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها، فلهذا السبب قال تعالى: {لقد تاب الله على النبي} الآية.
والوجه الثالث في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: {لقد تاب الله على النبي...}.
والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم تنبيها على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها، ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة.
المسألة الثانية: في المراد بساعة العسرة قولان:
القول الأول: أنها مختصة بغزوة تبوك، والمراد منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدا في ذلك السفر والعسرة تعذر الأمر وصعوبته. قال جابر: حصلت عسرة الظهر وعسرة الماء وعسرة الزاد...
واعلم أن هذه الغزوة تسمى غزوة العسرة، ومن خرج فيها فهو جيش العسرة، وجهزهم عثمان وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
والقول الثاني: قال أبو مسلم: يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول وعلى المؤمنين، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها، وقد ذكر الله تعالى بعضها في كتابه كقوله تعالى: {وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} وقوله: {لقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم...}، والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول عليه السلام في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم.
ثم قال تعالى: {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} وفيه مباحث:
البحث الأول: فاعل {كاد} يجوز أن يكون {قلوب} والتقدير: كاد قلوب فريق منهم تزيغ، ويجوز أن يكون فيه ضمير الأمر والشأن، والفعل والفاعل تفسير للأمر والشأن، والمعنى: كادوا لا يثبتون على اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة لشدة العسرة.
البحث الثالث: {كاد} عند بعضهم تفيد المقاربة فقط، وعند آخرين تفيد المقاربة مع عدم الوقوع، فهذه التوبة المذكورة توبة عن تلك المقاربة، واختلفوا في ذلك الذي وقع في قلوبهم. فقيل: هم بعضهم عند تلك الشدة العظيمة أن يفارق الرسول، لكنه صبر واحتسب. فلذلك قال تعالى: {ثم تاب عليهم} لما صبروا وثبتوا وندموا على ذلك الأمر اليسير. وقال الآخرون بل كان ذلك لحديث النفس الذي يكون مقدمة العزيمة، فلما نالتهم الشدة وقع ذلك في قلوبهم ومع ذلك تلافوا هذا اليسير خوفا منه أن يكون معصية. فلذلك قال تعالى: {ثم تاب عليهم}.
فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها فما الفائدة في التكرار؟
الوجه الأول: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطييبا لقلوبهم، ثم ذكر الذنب ثم أردفه مرة أخرى بذكر التوبة، والمقصود منه تعظيم شأنهم.
والوجه الثاني: أنه إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل ذلك على أن ذلك العفو، عفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة... وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: {ثم تاب عليهم} يريد ازداد عنهم رضا.
والوجه الثالث: أنه قال: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة، ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلا يبقى في خاطر أحدهم شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس.
ثم قال تعالى: {إنه بهم رءوف رحيم} وهما صفتان لله تعالى ومعناهما متقارب، ويشبه أن تكون الرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضر، والرحمة عبارة عن السعي في إيصال المنفعة. وقيل: إحداهما للرحمة السالفة، والأخرى للمستقبلة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أشار إلى أنه هو وليهم أحياهم بروح منه مبين لهم ما يصلحهم وأنه لا ولي لهم غيره، أقام الدليل على ذلك بقوله: {لقد تاب الله} أي الذي له الجلال والإكرام {على النبي} أي الذي لا يزال عنده من الله خبر عظيم يرشده إلى ما يؤذن بتقوية حياته برفع درجاته، فما من مقام يرقيه إليه إلا رأى أنه لمزيد علوه وتقربه للمقام الذي كان دونه، فهو في كل لمحة في ارتقاء من كامل إلى أكمل إلى ما لا نهاية له.
...وسماها ساعة تهويناً لأوقات الكروب وتشجيعاً على مواقعة المكاره فإن أمدها يسير وأجرها عظيم خطير..
{تزيغ} أي تزول عن أماكنها الموجبة لصلاحها، وأشار ب "من "إلى تقارب ما بين كيدودة الزيغ والتدارك بالتوبة.
ولما كان المقام للزلازل، ناسب التعبير بما منه الانقلاب والفرقة فقال: {قلوب فريق} أي هم بحيث تحصل منهم الفرقة لما هناك من الزلازل المميلة {منهم} أي من عظيم ما نالهم من الشدائد فتميل لذلك عن الحق كأبي خيثمة ومن أحب الراحة وهاب السفر في ذلك الحر الشديد إلى بني الأصفر الملوك الصيد الأبطال الصناديد، وهم ملء الأرض كثرة وقدر الحصى عدة ومثل الجبال شدة، ثم عزم الله له فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع سبحانه بالجميع إلى ما كانوا عليه قبيل مقاربة الزيغ من مباعدته..
والرأفة: شدة الرحمة، فقدم الأبلغ فيقال فيه ما قيل في {الرحمن الرحيم} فالمعنى أنه يرحمهم أعلى الرحمة بإسباغ جلائل النعم ودفع جلائل النقم، ويرحمهم أيضاً بإسباغ دقائق النعم ودفع دقائق النقم، ومادة رأف تدور مع السعة على ما أُشير إليه في سورة سبحان على شدة الوصلة. فالرأفة -كما قال الحرالي في البقرة- عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم، والرحمة تعم من لا صلة له بالراحم -انتهى. فتكون الرأفة حينئذ للثابتين والرحمة لمن قارب الزيغ، فيصير الثابت مرحوماً مرتين لأنه منظور إليه بالصفتين...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات تتمة ما تقدم من موضوع توبة المتخلفين عن غزوة تبوك، أخرت على سنة القرآن في تفريق الآيات في الموضوع الواحد؛ لأنه أدنى أن لا يسأم التالي لها في الصلاة وغيرها، وأقوى في تجديد الذكرى والتأثير في النفس كما بيناه مرارا، وهو مناسب لما قبله من النهي عن الاستغفار للمشركين وهو مما يتاب منه.
{لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ والْمُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ} هذا خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق، بين به تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة وفي غيرها، لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى لهم بيانا قطعيا يعد مخالفه عاصيا، وقد بينا في تفسير الآية (104) أن للتوبة درجات تختلف باختلاف طبقات التوابين الرجاعين إلى الله من كل إعراض عنه. وتوبته تعالى على عباده لها معنيان: عطفه عليهم، وهذا أعلاهما. وتوفيقهم للتوبة وقبولها منهم، وإنما يتوبون من ذنب، وما كل ذنب معصية لله عزّ وجلّ، وقد فسر ابن عباس التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقوله تعالى في سياق هذه الغزوة: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43]؟ وحققنا في تفسيرها مسألة ذنوب الأنبياء وكونها من الاجتهاد الذي لم يقرهم عليه؛ لأن غيره خير منه، وأما المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم وهم خلص المؤمنين {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} فمنهم من كان ذنبه التثاقل في الخروج حتى ورد الأمر الحتم فيه، والتوبيخ على التثاقل إلى الأرض، ومنهم من كان ذنبهم السماع للمنافقين فيما كانوا يبغون من فتنة المؤمنين بالقوة والاستدراك وبالفعل.
أما العسرة فهي الشدة والضيق، وكانت عسرة في الزاد إذا كانت عند انتهاء فصل الصيف الذي نفدت فيه مؤنتهم من التمر، وأول فصل الخريف الذي بدأ فيه إرطاب الموسم الجديد، ولا يمكن حمل شيء منه...
{مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} أي اتبعوه من بعد ما قرب أن يزيغ قلوب فريق منهم عن صراط الإسلام، بعصيان الرسول حين أمر بالنفير العام، وإذ تثاقل بعضهم عن النفر ووبخهم الله تعالى في الآيات 38 و 39 و 40، أو المعنى أنه تاب على المؤمنين كافة من بعد ما كاد يزيغ بعضهم عن الإيمان، والمراد بهم الذين تخلفوا بالفعل منهم لغير علة النفاق، وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، واعترفوا بذنوبهم تائبين فقبل الله توبتهم كما تقدم، وقال هنا فيهم {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} وهو الظاهر من العطف بثم، وأما على التوجيه الآخر فهو تأكيد لما في أول الآية من التوبة على الجميع.
{إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} وهذا تعليل لقبول توبتهم فالرأفة العناية بالضعيف والرفق به والعطف عليه، والرحمة أعم وأوسع، وتقدم تحقيق معناها في تفسير الفاتحة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولما كانت تلك طبيعة البيعة، كان التخلف عن الجهاد للقادرين -أياً كانت الأسباب- أمراً مستنكراً عظيماً؛ وكان ما بدا في الغزوة من التردد والتخلف ظاهرة لا بد من تتبعها والتركيز عليها.. وفي الآيات التالية يبين مدى فضل اللّه ورحمته بالمؤمنين إذ يتجاوز عما بدا من التردد والتخلف من المؤمنين المخلصين، ويتوب عليهم فيما وقع منهم من اخطاء صغرت أم كبرت.. كذلك يبين عن مصير الثلاثة الذين خلفوا بغير حكم في أمرهم -وهم المرجون لأمر اللّه الذين سبق ذكرهم- حتى نزل هذا الحكم بعد فترة من الزمان: (لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه؛ ثم تاب عليهم ليتوبوا. إن اللّه هو التواب الرحيم). وتوبة اللّه على النبي -[صلى الله عليه وسلم]- تفهم بالرجوع إلى ما كان في أحداث الغزوة بجملتها؛ والظاهر أنها متعلقة بما سبق أن قال اللّه عنه لنبيه: (عفا اللّه عنك. لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين).. ذلك حين استأذنه جماعة من أولي الطول بأعذار منتحلة فأذن لهم. وقد عفا اللّه عنه في اجتهاده [صلى الله عليه وسلم] -مع تنبيهه إلى أن الأولى كان هو التريث حتى يتبين الصادقين في أعذارهم من الكاذبين المتمحلين! وتوبته على المهاجرين والأنصار يشير النص الذي بين أيدينا إلى ملابساتها في قوله تعالى: (الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم).. وقد كان بعضهم تثاقل في الخروج ثم لحق بالركب كما سنفصل- وهم من خلص المؤمنين -وبعضهم استمع للمنافقين المرجفين بهول لقاء الروم! ثم ثبت اللّه قلبه ومضى بعد تردد. ويحسن أن نستعرض بعض ظروف الغزوة وملابساتها لنعيش في جوها الذي يقرر اللّه- سبحانه -أنه كان (ساعة العسرة). ولندرك طبيعة الانفعالات والحركات التي صاحبتها [ونحن نلخص في هذا من السيرة لابن هشام، ومن إمتاع الأسماع للمقريزي، ومن البداية والنهاية لابن كثير، ومن تفسير ابن كثير]: لما نزل قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون...) أمر رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم [ويلاحظ أن الاشتباك بالروم كان قد سبق نزول هذه الآيات في غزوة مؤتة فهذا الأمر الأخير إنما جاء تقريراً للخطة الدائمة المستقرة في آخر ما نزل من القرآن] وذلك في زمن عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاء، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال والزمان الذي هم عليه. وكان رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له [أي يقصد إليه] إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته. فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم. واستأذن بعض المنافقين رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -في التخلف مخافة الفتنة ببنات الروم! فأذن! وفي هذا نزل عتاب اللّه لنبيه في الإذن مصدراً بالعفو عنه في اجتهاده: (عفا اللّه عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين؟).. وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر- زهادة في الجهاد، وشكاً في الحق، وإرجافاً برسول اللّه -[ص]- فأنزل اللّه تبارك وتعالى فيهم: (وقالوا: لا تنفروا في الحر، قل: نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون، فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون). وبلغ رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبطون الناس عن رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- في غزوة تبوك؛ فبعث إليهم النبي -[صلى الله عليه وسلم]- طلحة ابن عبيد اللّه في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا. ثم تاب الضحاك. ثم إن رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والإسراع. وحض أهل الغنى على النفقة وحمل المجاهدين الذين لا يجدون ما يركبون؛ فحمل رجال من أهل الغنى محتسبين عند اللّه. وكان في مقدمة المنفقين المحتسبين، عثمان بن عفان -رضي اللّه عنه- فأنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها.. قال ابن هشام: فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم] -:"اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض". وقال عبد اللّه بن أحمد في مسند أبيه -بإسناده- عن عبد الرحمن بن حباب السلمي، قال: خطب النبي -[ص]- فحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. قال: ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث، فقال عثمان: عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال: فرأيت رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- يقول بيده هكذا يحركها [وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب]: "ما على عثمان ما عمل بعد هذا".. [وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي، عن سكن بن المغيرة أبي محمد مولى لآل عثمان به. وقال: غريب من هذا الوجه]. ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة به، وقال: ثلاث مرات وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها.. وأخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة -بألفاظ مختلفة- قال: حث رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- على الصدقة [يعني في غزوة تبوك] فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف [أي درهم]، فقال يا رسول اللّه، ما لي ثمانية آلاف، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها. فقال: "بارك اللّه لك فيما أمسكت وفيما أعطيت". وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال: يا رسول اللّه أصبت صاعين من تمر، صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي. قال: فلمزه المنافقون، وقالوا: ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء. وقالوا ألم يكن اللّه ورسوله غنيين عن صاع هذا! وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل [وهو الذي بات يعمل عند يهودي ليحصل على صاعين أجرا له جاء بأحدهما لرسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم] -] إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه! ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -وهم البكاءون. وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، فاستحملوا رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -[أي طلبوا منه أن يحملهم على ركائب إلى أرض المعركة]، وكانوا أهل حاجة. فقال: (لا أجد ما أحملكم عليه). فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون. قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد اللّه بن مغفل [من السبعة البكائين] وهما يبكيان فقال: ما يبكيكما؟ قال: جئنا رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه. فأعطاهما ناضحاً له [أي جملاً يستقي عليه الماء] فارتحلاه. وزودهما شيئاً من تمر، فخرجا مع رسول اللّه [صلى الله عليه وسلم]. زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وأما علبة بن زيد [أحد البكائين] فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء اللّه، ثم بكى وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغّبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض.. ثم أصبح مع الناس. فقال رسول اللّه- [ص] -:"أين المتصدق هذه الليلة؟ "فلم يقم أحد! ثم قال:"أين المتصدق؟ فليقم "فقام إليه فأخبره. فقال رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم] -:"أبشر، فوالذي نفسي بيده، لقد كتبت لك في الزكاة المتقبلة".. ثم خرج رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -بمن معه وقد قارب عددهم ثلاثين ألفاً من أهل المدينة ومن قبائل الأعراب من حولها. وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية من غير شك ولا ارتياب، منهم: كعب ابن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية [وهم الثلاثة الذين سيرد تفصيل قصتهم] وأبو خيثمة وعمير بن وهب الجمحي.. وضرب رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -عسكره على "ثنية الوداع "وضرب عبد اللّه بن أبي- رأس النفاق -عسكره على حدة، أسفل منه، قال ابن إسحاق: [وكانوا فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين].. ولكن الروايات الأخرى تقول: إن الذين تخلفوا فعلاً دون المائة.. فلما سار رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -تخلف عنه عبد اللّه بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب. ثم مضى رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -سائراً، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: يا رسول اللّه، تخلف فلان، فيقول: "دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه تعالى بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه" حتى قيل: يا رسول اللّه، قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: "دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه". وتلوم أبو ذر على بعيره [أي انتظر عليه]، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -ماشياً. ونزل رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم -في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول اللّه، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده. فقال رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -:"كن أبا ذر "فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول اللّه، هو واللّه أبو ذر. فقال رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم] -:"رحم اللّه أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده". ثم إن أبا خيثمة رجع- بعد أن سار رسول اللّه [صلى الله عليه وسلم] أياماً -إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه [أي في حديقته] قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء. وهيأت له فيه طعاماً. فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -في الضحَ [أي الشمس] والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! ما هذا بالنصف! ثم قال: واللّه لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -فهيئا لي زاداً. ففعلتا. ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -حتى أدركه حين نزل تبوك.. وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطلب يطلب رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنباً فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -ففعل. حتى إذا دنا من رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل. فقال رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -: "كن أبا خيثمة". فقالوا: يا رسول اللّه، هو واللّه أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- فقال له رسول اللّه [صلى الله عليه وسلم]" أولى لك يا أبا خيثمة!". ثم أخبر رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- الخبر. فقال له رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- خيرا، ودعا له بخير. قال ابن إسحاق: وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له: "مُخشن بن حُمير" [قال ابن هشام: ويقال: مخشى] يشيرون إلى رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر [يعنون الروم] كقتال العرب بعضهم بعضاً؟ واللّه لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال.. إرجافاً وترهيباً للمؤمنين.. فقال مخشن بن حمير: واللّه لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقد قال رسول اللّه [صلى الله عليه وسلم] -فيما بلغني- لعمار بن ياسر: "أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن أنكروا فقل: بلى قلتم كذا وكذا". فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت، ورسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- واقف على ناقته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها [وهو الحبل يشد على بطن البعير] يا رسول اللّه، إنما كنا نخوض ونلعب. فأنزل اللّه عز وجل: (ولئن سألتهم ليقولن: إنما كنا نخوض ونلعب. قل: أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون؟) وقال مخشن بن حمير: يا رسول اللّه، قعد بي اسمي واسم أبي! وكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشن بن حمير. فتسمى عبد الرحمن. وسأل اللّه تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر.. قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: لما قفل رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم] من تبوك- بعدما أقام بها بضع عشرة ليلة لم يلق فيها حرباً -هَمَّ جماعة من المنافقين بالفتك به، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي، وصعد هو العقبة، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه. عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها؛ فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -وأبصر حذيفة غضبه، فرجع إليهم ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد ظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم؛ فأسرعوا حتى خالطوا الناس؛ وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول اللّه- [ص] -فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة، ووقفوا ينتظرون الناس. ثم قال رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -لحذيفة:"هل عرفت هؤلاء القوم؟ "قال: ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم. ثم قال:"علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب؟ "قالا: لا. فأخبرهما بما كانوا تمالأوا عليه، وسماهم لهما، واستكتمهما ذلك، فقالا: يا رسول اللّه، أفلا تأمر بقتلهم؟ فقال:"أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه".. قال ابن كثير في البداية والنهاية: وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي- [صلى الله عليه وسلم] -إنما أعلم بأسمائهم حذيفة ابن اليمان وحده. وهذا هو الأشبه، واللّه أعلم.. فأما العسرة التي لقيها المسلمون في الغزوة فقد وردت بعض الروايات بشواهد منها.. قال ابن كثير في التفسير: قال مجاهد وغير واحد نزلت هذه الآية: (لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم).. في غزوة تبوك. وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر، في سنة مجدبة، وحر شديد، وعسر من الزاد والماء.. قال قتادة: خرجوا إلى الشام على تبوك في لهبان الحر، على ما يعلم اللّه من الجهد، فأصابهم فيها جهد شديد حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، فتاب اللّه عليهم وأقفلهم من غزوتهم. وروى ابن جرير- بإسناده -إلى عبد اللّه بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر بن الخطاب: خرجنا مع رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -إلى تبوك، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده. وقال ابن جرير في قوله: (لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة)- أي من النفقة والظهر والزاد والماء -(من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم)- أي عن الحق، ويشك في دين الرسول -[صلى الله عليه وسلم] ويرتاب للذي نالهم من المشقة ولشدة في سفرهم وغزوهم- (ثم تاب عليهم) يقول: ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه (إنه بهم رؤوف رحيم).. ولعل هذا الاستعراض أن يصور لنا اليوم كيف كانت (العسرة) كما ينقل لنا لمحة من الجو الذي عاشه المجتمع المسلم في تلك الفترة؛ يتجلى فيها تفاوت المقامات الإيمانية؛ من اليقين الجاد عند طائفة. إلى الزلزلة والأرجحة تحت مطارق العسرة عند طائفة. إلى القعود والتخلف -بغير ريبة- عند طائفة. إلى النفاق الناعم عند طائفة. إلى النفاق الفاجر عند طائفة. إلى النفاق المتآمر عند طائفة.. مما يشي أولاً بالحالة العامة للتركيب العضوي للمجتمع في هذه الفترة؛ ويشي ثانياً بمشقة الغزوة -في مواجهة الروم ومع العسرة- هذه المشقة الممحصة. الممتحنة الكاشفة؛ والتي لعل اللّه سبحانه قد قدرها من أجل التمحيص والكشف والتمييز.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف وما طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تُجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده، فالجملة استئناف ابتدائي.
وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالاً ماضية.
ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك.
وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغُزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ومعنى {تاب} عليه: غفر له، أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنباً أم لم يكنه، كقوله تعالى: {علم أنْ لن تحصوه فتاب عليكم} [المزمل: 20] أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة. فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبي صلى الله عليه وسلم « لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»
وأما توبة الله على الثلاثة الذين خُلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم.
والمهاجرون والأنصار: هم مجموع أهل المدينة، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خُصوا بالثناء لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحوا بأموالهم، فكانوا إسوة لمن اتَّسى بهم من غيرهم من القبائل.
ووصف المهاجرون والأنصار ب {الذين اتبعوه} للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسبباً في هذه المغفرة.
ومعنى {اتبعوه} أطاعوه ولم يخالفوا عليه، فالاتباع مجازي.
والعسرة: اسم العسر، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة. وساعة العسرة هي زمن استنفار النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة تبوك. فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقوله: {يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد. ويدل لذلك قوله: {من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم} أي من المهاجرين والأنصار، فإنه متعلق ب {اتبعوه} أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقاً منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين، فإن ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع.
و {كاد} من أفعال المقاربة تعمل في اسمين عَملَ كانَ، واسمُها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جُعل اسمها هنا ضمير شأن لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.
وقرأ الجمهور {تَزيغ} بالمثناة الفوقية. وقرأه حمزة، وحفص عن عاصم، وخلف بالمثناة التحتية. وهما وجهان في الفعل المسند لجمع تكسير ظاهر. والزيغ: الميل عن الطريق المقصود. وتقدم عند قوله تعالى: {ربنا لا تزغ قلوبنا} في سورة آل عمران (8).
وجملة {ثم تاب عليهم} عطف على جملة {لقد تاب الله} أي تاب على غير هذا الفريق مطلقاً، وتاب على هذا الفريق بعد ما كادت قلوبهم تزيغ، فتكون {ثم} على أصلها من المهلة. وذلك كقوله في نظير هذه الآية {ثم تاب عليهم ليتوبوا} [التوبة: 118]. والمعنى تاب عليهم فأهموا به وخرجوا فلقوا المشقة والعسر، فالضمير في قوله {عليهم} لل {فريق}. وجوز كثير من المفسرين أن تكون {ثم} للترتيب في الذكر، والجملة بعدها توكيداً لجملة {تاب الله}، فالضمير للمهاجرين والأنصار كلهم.