وبعد ذكر الملائكة . وذكر السماوات والأرض وما بينهما . وذكر الكواكب التي تزين السماء الدنيا . وذكر الشياطين المردة والقذائف التي تلاحقها . . يكلف الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يسألهم أهم أشد خلقاً أم هذه الخلائق ? وإذا كانت هذه الخلائق أشد وأقوى ففيم يدهشون لقضية البعث ويسخرون منها ، ويستبعدون وقوعها ، وهي لا تقاس إلى خلق تلك الخلائق الكبرى :
فاستفتهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا ? إنا خلقناهم من طين لازب . بل عجبت ويسخرون . وإذا ذكروا لا يذكرون . وإذا رأوا آية يستسخرون : وقالوا : إن هذا إلا سحر مبين . أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون ? أو آباؤنا الأولون ? .
فاستفتهم واسألهم إذا كانت الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما والشياطين والكواكب والشهب كلها من خلق الله . فهل خلقهم هم أشد وأصعب من خلق هذه الأكوان والخلائق ?
ولا ينتظر منهم جواباُ ، فالأمر ظاهر ؛ إنما هو سؤال الاستنكار والتعجيب من حالهم العجيب . وغفلتهم عما حولهم ، والسخرية من تقديرهم للأمور . ومن ثم يعرض عليهم مادة خلقهم الأولى . وهي طين رخو لزج من بعض هذه الأرض ، التي هي إحدى تلك الخلائق :
( إنا خلقناهم من طين لازب ) . .
فهم قطعاً ليسوا أشد خلقاً من تلك الخلائق ! وموقفهم إذن عجيب . وهم يسخرون من آيات الله ، ومن وعده لهم بالبعث والحياة . وسخريتهم هذه تثير العجب في نفس الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وهم في موقفهم سادرون :
{ فاستفتهم } فاستخبرهم والضمير لمشركي مكة أو لبني آدم . { أهم أشد خلقا أم من خلقنا } يعني ما ذكر من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب . و { من } لتغليب العقلاء ويدل عليه إطلاقه ومجيئه بعد ذلك . وقراءة من قرأ " أم من عددنا " ، وقوله : { إنا خلقناهم من طين لازب } فإنه الفارق بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم كعاد وثمود ، وإن المراد إثبات المعاد ورد استحالته والأمر فيه بالإضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء ، وتقريره أن استحالة ذلك إما لعدم قابلية المادة ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام بعد ، وقد علموا أن الإنسان الأول إنما تولد منه إما لاعترافهم بحدوث العالم أو بقصة آدم وشاهدوا تولد كثير من الحيوانات منه بلا توسط مواقعة ، فلزمهم أن يجوزوا إعادتهم كذلك ، وإما لعدم قدرة الفاعل ومن قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتد به بالإضافة إليها سيما ومن ذلك بدؤهم أولا وقدرته ذاتية لا تتغير .
الاستفتاء نوع من أنواع السؤال وكأنه سؤال من يهتبل بقوله ويجعل حجة ، وكذلك هي أقوالهم في هذا الفصل لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن خلق من سواهم من الملائكة والجن والسماوات والأرض والمشارق وغير ذلك هو أشد هؤلاء المخاطبين ، وبأن الضمير في { خلقنا } يراد به ما تقدم ذكره ، قال مجاهد وقتادة وغيرهما وفي مصحف ابن مسعود «أم من عددنا » يريد من { الصافات } وغيرها { والسماوات والأرض وما بينهما } [ الصافات : 1 ] ، وكذلك قرأ الأعمش «أمَن » مخففة الميم دون { أم }{[9833]} .
ثم أخبر تعالى إخباراً جزماً عن خلقه لآدم الذي هو أبو البشر وأضاف الخلق من الطين إلى جميع الناس من حيث الأب مخلوق منه ، وقال الطبري : خلق آدم من تراب وماء ونار وهواء وهذا كله إذا خلط صار طيناً لازباً ، واللازب أي يلزم ما جاوره ويلصق به ، وهو الصلصال كالفخار ، وعبر ابن عباس وعكرمة عن «اللازب » بالجر الكريم الجيد وحقيقة المعنى ما ذكرناه ، يقال ضربه لازم وضربة لازب بمعنى واحد .
الفاء تفريع على قوله : { إنَّا زيَّنا السَّماء الدنيا بزينةٍ الكواكب } [ الصافات : 6 ] باعتبار ما يقتضيه من عظيم القدرة على الإِنشاء ، أي فسَلْهُم عن إنكارهم البعث وإحالتِهم إعادةَ خلقهم بعد أن يصيروا عظاماً ورفاتاً ، أخَلْقُهم حينئذٍ أشدّ علينا أم خلق تلك المخلوقات العظيمة ؟ .
وضمير الغيبة في قوله : { فَاستفتِهِم } عائد إلى غير مذكور للعلم به من دلالة المقام وهم الذين أحالوا إعادة الخلق بعد الممات . وكذلك ضمائر الغيبة الآتية بعده وضمير الخطاب منه موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي فسَلْهم ، وهو سؤال محاجة وتغليط .
والاستفتاء : طلب الفَتوى بفتح الفاء وبالواو ، ويقال : الفُتْيَا بضم الفاء وبالياء . وهي إخبار عن أمر يخفَى عن غير الخواصّ في غرض مَّا . وهي :
إمّا إخبار عن علم مختص به المخبِر قال تعالى : { يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات } [ يوسف : 46 ] الآية ، وقال : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } [ النساء : 176 ] ، وتقدم في قوله : { الذي فيه تستفتيان } في سورة [ يوسف : 41 ] .
وإمَّا إخبار عن رأي يطلب من ذي رأي موثوق به ومنه قوله تعالى : { قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري } في سورة [ النمل : 32 ] .
والمعنى : فاسألهم عن رأيهم فلما كان المسؤول عنه أمراً محتاجاً إلى إعمال نظر أطلق على الاستفهام عنه فعل الاستفتاء .
وهمزة : { أهُم أشدُّ خَلْقاً } للاستفهام المستعمل للتقرير بضعف خلق البشر بالنسبة للمخلوقات السماوية لأن الاستفهام يؤول إلى الإقرار حيث إنه يُلجىء المستفهم إلى الإِقرار بالمقصود من طرفي الاستفهام ، فالاستفتاء في معنى الاستفهام فهو يستعمل في كل ما يستعمل فيه الاستفهام . و { أشدّ } بمعنى : أصعب وأعسر .
و { خَلْقاً } تمييز ، أي أخلقهم أشدّ أم خَلْق من خلقنا الذي سمعتم وصفه .
والمراد ب { مَن خَلَقْنا } ما خَلَقَه الله من السماوات والأرض وما بينهما الشامل للملائكة والشياطين والكواكب المذكورة آنفاً بقرينة إيراد فاء التعقيب بعد ذكر ذلك ، وهذا كقوله تعالى : { أأنتم أشد خلقاً أم السماء } [ النازعات : 27 ] ونحوه .
وجيء باسم العاقل وهو { مَن } الموصولة تغليباً للعاقلين من المخلوقات .
وجملة { إنا خلقناهم من طين لازب } في موضع العلة لما يتولد من معنى الاستفهام في قوله : { أهم أشد خلقاً أم من خلقنا } من الإِقرار بأنهم أضعف خلقاً من خلق السماوات وعوالمها احتجاجاً عليهم بأن تأتِّي خلقهم بعد الفناء أهون من تَأتي المخلوقات العظيمة المذكورة آنفاً ولم تكن مخلوقة قبلُ فإنهم خلقوا من طين لأن أصلهم وهو آدم خلق من طين كما هو مقرر لدى جميع البشر فكيف يحيلون البعث بمقالاتهم التي منها قولُهم : { أإذَا مِتنا وكنا تُراباً وعِظاماً أءِنَّا لَمَبْعُوثونَ } [ الصافات : 16 ] .
والطينُ : التراب المخلوط بالماء .
واللازب : اللاصق بغيره ومنه أطلق على الأمر الواجب « لازب » في قول النابغة :
وقد قيل : إن باء لازب بدل من ميم لازم ، والمعنى : أنه طين عتيق صار حَمْأة . وضمير { إنَّا خلقناهُم } عائد إلى المشركين وهو على حذف مضاف ، أي خلقنا أصلهم وهو آدم فإنه الذي خلق من طين لازب ، فإذا كان أصلهم قد أنشىء من تراب فكيف ينكرون إمكان إعادة كل آدمي من تراب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.