في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَهُمۡ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغۡنِي عَنۡهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍ إِلَّا حَاجَةٗ فِي نَفۡسِ يَعۡقُوبَ قَضَىٰهَاۚ وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلۡمٖ لِّمَا عَلَّمۡنَٰهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (68)

54

وسار الركب ، ونفذوا وصية أبيهم :

( ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ، ما كان يغني عنهم من الله من شيء - إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها - وإنه لذو علم لما علمناه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .

فيم كانت هذه الوصية ؟ لم قال لهم أبوهم : لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ؟

تضرب الروايات والتفاسير في هذا وتبدى وتعيد ، بلا ضرورة ، بل ضد ما يقتضيه السياق القرآني الحكيم . فلو كان السياق يحب أن يكشف عن السبب لقال . ولكنه قال فقط - إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها - فينبغي أن يقف المفسرون عند ماأراده السياق ، احتفاظا بالجو الذي أراده . والجو يوحي بأنه كان يخشى شيئا عليهم ، ويرى في دخولهم من أبواب متفرقة اتقاء لهذا الشيء مع تسليمه بأنه لا يغني عنهم من الله من شيء . فالحكم كله إليه ، والاعتماد كله عليه . إنما هو خاطر شعر به ، وحاجة في نفسه قضاها بالوصية ، وهو على علم بأن إرادة الله نافذة . فقد علمه الله هذا فتعلم .

( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .

ثم ليكن هذا الشيء الذي كان يخشاه هو العين الحاسدة ، أو هي غيرة الملك من كثرتهم وفتوتهم . أو هو تتبع قطاع الطريق لهم . أو كائنا ما كان فهو لا يزيد شيئا في الموضوع . سوى أن يجد الرواة والمفسرون بابا للخروج عن الجو القرآني المؤثر إلى قال وقيل ، مما يذهب بالجو القرآني كله في كثرة الأحايين !

فلنطو نحن الوصية والرحلة كما طواها السياق ، لنلتقي بإخوة يوسف في المشهد التالي بعد الوصول :

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَهُمۡ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغۡنِي عَنۡهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍ إِلَّا حَاجَةٗ فِي نَفۡسِ يَعۡقُوبَ قَضَىٰهَاۚ وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلۡمٖ لِّمَا عَلَّمۡنَٰهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (68)

{ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } أي من أبواب متفرقة في البلد . { ما كان يُغني عنهم } رأي يعقوب واتباعهم له . { من الله من شيء } مما قضاه عليهم كما قال يعقوب عليه السلام . فسُرقوا وأخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله وتضاعف المصيبة على يعقوب . { إلا حاجة في نفس يعقوب } استثناء منقطع أي ولكن حاجة في نفسه ، يعني شفقته عليهم وحرازته من أن يعانوا . { قضاها } أظهرها ووصى بها . { وإنه لذو علم لما علمناه } بالوحي ونصب الحجج ، ولذلك ولذلك قال { وما أغنى عنكم من الله من شيء } ولم يغتر بتدبيره . { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } سر القدر وأنه لا يغني عنه الحذر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَهُمۡ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغۡنِي عَنۡهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍ إِلَّا حَاجَةٗ فِي نَفۡسِ يَعۡقُوبَ قَضَىٰهَاۚ وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلۡمٖ لِّمَا عَلَّمۡنَٰهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (68)

وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( 68 ) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 69 )

روي أنه لما ودعوا أباهم قال لهم : بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له : إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك ويشكر صنيعك معنا . وفي كتاب أبي منصور المهراني : أنه خاطبه بكتاب قرىء على يوسف فبكى .

وقوله : { ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } بمثابة قولهم : لم يكن في ذلك دفع قدر الله بل كان أرباً ليعقوب قضاه . وطيباً لنفسه تمسك به وأمر بحبسه . فجواب { لما } في معنى قوله : { ما كان يغني عنهم من الله من شيء }{[6747]} و { إلا حاجة } استثناء ليس من الأول . وال { حاجة } هي أن يكون طيب النفس بدخولهم من أبواب متفرقة خوف العين . قال مجاهد : «الحاجة » : خيفة العين ، وقاله ابن إسحاق ، وفي عبارتهما تجوز : ونظير هذا الفعل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سد كوة في قبر بحجر وقال : «إن هذا لا يغني شيئاً ولكنه تطيب لنفس الحي »{[6748]} .

قال القاضي أبو محمد : وقوله - عندي - { ما كان يغني عنهم من الله من شيء } معناه : ما رد عنهم قدراً ، لأنه لو قضي أن تصيبهم عين لأصابتهم مفترقين أو مجتمعين ، وإنما طمع يعقوب أن تصادف وصيته قدر السلامة فوصى وقضى بذلك حاجته في نفسه في أن يتنعم برجائه ، أن تصادف القدر في سلامتهم .

ثم أثنى الله عز وجل على يعقوب بأنه لقن ما علمه الله من هذا المعنى ، واندرج غير ذلك في العموم وقال إن أكثر الناس ليس كذلك ، وقيل : معناه : إنه لعامل بما علمناه - قاله قتادة - وقال سفيان : من لا يعمل لا يكون عالماً .

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يعطيه اللفظ ، اما انه صحيح في نفسه يرجحه المعنى وما تقتضيه منزلة يعقوب عليه السلام .

قال أبو حاتم : قرأ الأعمش { لذو علم لما علمناه } . ويحتمل أن يكون جواب { لما } في هذه الآية محذوفاً مقدراً ، ثم يخبر عن دخولهم أنه { ما كان يغني . . . } الآية .


[6747]:قال أبو حيان في البحر: "وفيه حجة لمن زعم أن [لما] حرف وجوب لوجوب لا ظرف زمان بمعنى (حين)، إذ لو كانت ظرف زمان ما جاز أن تكون معمولة لما بعد (ما) النافية، لا يجوز: "حين قام زيد ما قام عمرو"، ويجوز: "لما قام زيد ما قام عمرو"، فدل ذلك على أن [لما] حرف يترتب جوابه على ما بعده.
[6748]:أخرجه الترمذي في كتاب الطب.