ثم يثني بتقرير أن الصوم أيام معدودات ، فليس فريضة العمر وتكليف الدهر . ومع هذا فقد أعفي من أدائه المرضى حتى يصحوا ، والمسافرون حتى يقيموا ، تحقيقا وتيسيرا :
( أياما معدودات . فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . .
وظاهر النص في المرض والسفر يطلق ولا يحدد . فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر ، على أن يقضي المريض حين يصح والمسافر حين يقيم . وهذا هو الأولى في فهم هذا النص القرآني المطلق ، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومنع الضرر . فليست شدة المرض ولا مشقة السفر هي التي يتعلق بها الحكم إنما هي المرض والسفر إطلاقا ، لإرادة اليسر بالناس لا العسر . ونحن لا ندري حكمة الله كلها في تعليقه بمطلق المرض ومطلق السفر ؛ فقد تكون هناك اعتبارات أخرى يعلمها الله ويجهلها البشر في المرض والسفر ؛ وقد تكون هناك مشقات أخرى لا تظهر للحظتها ، أو لا تظهر للتقدير البشري . . وما دام الله لم يكشف عن علة الحكم فنحن لا نتأولها ؛ ولكن نطيع النصوص ولو خفيت علينا حكمتها . فوراءها قطعا حكمة . وليس من الضروري أن نكون نحن ندركها .
يبقى أن القول بهذا يخشى أن يحمل المترخصين على شدة الترخص ، وأن تهمل العبادات المفروضة لأدنى سبب . مما جعل الفقهاء يتشددون ويشترطون . ولكن هذا - في اعتقادي - لا يبرر التقييد فيما أطلقه النص . فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات ، إنما يقودهم بالتقوى . وغاية هذه العبادة خاصة هي التقوى . والذي يفلت من أداء الفريضة تحت ستار الرخصة لا خير فيه منذ البدء ، لأن الغاية الأولى من أداء الفريضة لا تتحقق . وهذا الدين دين الله لا دين الناس . والله أعلم بتكامل هذا الدين ، بين مواضع الترخص ومواضع التشدد ؛ وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها . بل لا بد أن يكون الأمر كذلك . ومن ثم أمر رسول الله [ ص ] أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخصها لهم . وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن إصلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام ؛ ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم . وإذا صح التشدد في أحكام المعاملات عند فساد الناس كعلاج رادع ، وسد للذرائع ، فإن الأمر في الشعائر التعبدية يختلف ، إذ هي حساب بين العبد والرب ، لا تتعلق به مصالح العباد تعلقا مباشرا كأحكام المعاملات التي يراعى فيها الظاهر . والظاهر في العبادات لا يجدي ما لم يقم على تقوى القلوب . وإذا وجدت التقوى لم يتفلت متفلت ، ولم يستخدم الرخصة إلا حيث يرتضيها قلبه ، ويراها هي الأولى ، ويحس أن طاعة الله في أن يأخذ بها في الحالة التي يواجهها . أما تشديد الأحكام جملة في العبادات أو الميل إلى التضييق من إطلاق الرخص التي أطلقتها النصوص ، فقد ينشيء حرجا لبعض المتحرجين . في الوقت الذي لا يجدي كثيرا في تقويم المتفلتين . . والأولى على كل حال أن نأخذ الأمور بالصورة التي أرادها الله في هذا الدين . فهو أحكم منا وأعلم بما وراء رخصه وعزائمه من مصالح قريبة وبعيدة . . وهذا هو جماع القول في هذا المجال .
بقي أن نثبت هنا بعض ما روي من السنة في حالات متعددة من حالات السفر ، في بعضها كان التوجيه إلى الفطر وفي بعضها لم يقع نهي عن الصيام . . وهي بمجموعها تساعد على تصور ما كان عليه السلف الصالح من إدراك للأمر ، قبل أن تأخذ الأحكام شكل التقعيد الفقهي على أيدي الفقهاء المتأخرين . وصورة سلوك أولئك السلف - رضوان الله عليهم - املأ بالحيوية ، وألصق بروح هذا الدين وطبيعته ، من البحوث الفقهية ؛ ومن شأن الحياة معها وفي جوها أن تنشيء في القلب مذاقا حيا لهذه العقيدة وخصائصها :
1 - عن جابر - رضي الله عنه - قال : خرج رسول الله [ ص ] عام الفتح إلى مكة في رمضان ، فصام حتى بلغ " كراع الغميم " فصام الناس . ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ، ثم شرب . فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام ، فقال : " أولئك العصاة . أولئك العصاة " . . [ أخرجه مسلم والترمذي ] .
2 - وعن أنس رضي الله عنه - قال : كنا مع النبي [ ص ] في سفر فمنا الصائم ومنا المفطر . فنزلنا منزلا في يوم حار ، أكثرنا ظلا صاحب الكساء ، ومنا من يتقي الشمس بيده . فسقط الصوام وقام المفطرون ، فضربوا الأبنية ، وسقوا الركاب ، فقال النبي [ ص ] " ذهب المفطرون اليوم بالأجر " . . [ أخرجه الشيخان والنسائي ] .
3 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال : كان النبي [ ص ] في سفر ، فرأى رجلا قد اجتمع عليه الناس ، وقد ظلل عليه . فقال : ما له ؟ فقالوا : رجل صائم . فقال رسول الله [ ص ] : " ليس من البر الصوم في السفر " . . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والنسائي ] .
4 - وعن عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - قال : قدمت على رسول الله [ ص ] من سفر . فقال : انتظر الغداء يا أبا أمية . قلت : يا رسول الله إني صائم . قال : " إذا أخبرك عن المسافر . إنالله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة " . [ أخرجه النسائي ] . .
5 - وعن رجل من بني عبد الله بن كعب بن مالك اسمه أنس بن مالك . قال : قال رسول الله [ ص ] " إن الله تعالى وضع شطر الصلاة عن المسافر وأرخص له في الإفطار وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما " . [ أخرجه أصحاب السنن ] .
6 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : سأل حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - رسول الله [ ص ] عن الصوم في السفر . [ وكان كثير الصيام ] فقال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي ] وفي رواية أخرى وكان جلدا على الصوم .
7 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال : كنا مع النبي [ ص ] فمنا الصائم ومنا المفطر . فلا الصائم يعيب على المفطر ، ولا المفطر يعيب على الصائم " . . [ أخرجه مالك والشيخان وأبو داود ] .
8 - وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع رسول الله [ ص ] في رمضان في حر شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر ؛ وما فينا صائم إلا رسول الله [ ص ] وابن رواحة رضي الله عنه . . [ أخرجه الشيخان وأبو داود ] .
9 - وعن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك - رضي الله عنه - في رمضان وهو يريد سفرا . وقد رحلت له راحلته ، ولبس ثياب سفره ، فدعا بطعام فأكل . فقلت له : سنة ؟ قال : نعم . ثم ركب . . [ أخرجه الترمذي ] .
10 - وعن عبيد بن جبير قال : كنت مع أبي بصرة الغفاري - صاحب رسول الله [ ص ] - رضي الله عنه في سفينة من الفسطاط في رمضان . فدفع فقرب غداؤه ، فقال : اقترب . قلت : ألست ترى البيوت ؟ قال : أترغب عن سنة رسول الله [ ص ] ؟ فأكل وأكلت . . [ أخرجه أبو داود ]
11 - وعن منصور الكلبي : أن دحية بن خليفة - رضي الله عنه - خرج من قرية من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفساط ، وذلك ثلاثة أميال ، في رمضان . فأفطر وأفطر معه ناس كثير . وكره آخرون أن يفطروا . فلما رجع إلى قريته قال : والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أن أراه . إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله [ ص ] وأصحابه . اللهم أقبضني إليك . . [ أخرجه أبو داود ] . .
فهذه الأحاديث في جملتها تشير إلى تقبل رخصة الإفطار في السفر في سماحة ويسر . وترجح الأخذ بها . ولا تشترط وقوع المشقة للأخذ بها كما يشير إلى ذلك الحديثان الأخيران بوجه خاص ، وإذا كان الحديث الثامن منها يشير إلى أن رسول الله [ ص ] وحده ظل مرة صائما مع المشقة هو وعبد الله بن رواحة ، فقد كانت له [ ص ] خصوصيات في العبادة يعفي منها أصحابه . كنهيه لهم عن مواصلة الصوم وهو كان يواصل أحيانا . أي يصل اليوم باليوم بلا فطر . فلما قالوا له في هذا ، قال : " إني لست مثلكم ، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني " . . [ أخرجه الشيخان ] وثابت من الحديث الأول أنه أفطر وقال عن الذين لم يفطروا : أولئك العصاة . أولئك العصاة . وهذا الحديث متأخر - في سنة الفتح - فهو أحدث من الأحاديث الأخرى . وأكثر دلالة على الاتجاه المختار . .
والصورة التي تنشأ في الحس من مجموع هذه الحالات . . إنه كانت هناك مراعاة لحالات واقعية ، تقتضي توجيها معينا - كما هو الشأن في الأحاديث التي تروى في الموضوع العام الواحد ، ونجد فيها توجيهات متنوعة -
فالرسول [ ص ] كان يربي وكان يواجه حالات حية . ولم يكن يواجهها بقوالب جامدة !
ولكن الانطباع الأخير في الحس في أمر الصوم في السفر هو استحباب الفطر ، دون تقيد بحصول المشقة بالفعل . . أما المرض فلم أجد فيه شيئا إلا أقوال الفقهاء ، والظاهر أنه مطلق في كل ما يثبت له وصف المرض ، بلا تحديد في نوعه وقدره ولا خوف شدته ، على وجوب القضاء يوما بيوم في المرض والسفر ، من غير موالاة في أيام القضاء على الرأي الأرجح .
وقد استطردت هذا الاستطراد لا لأخوض في خلافات فقهية ؛ ولكن لتقرير قاعدة في النظر إلى الشعائر التعبدية ، وارتباطها الوثيق بإنشاء حالة شعورية هي الغاية المقدمة منها . وهذه الحالة هي التي تحكم سلوك المتعبد ؛ وعليها الاعتماد الأول في تربية ضميره ، وحسن أدائه للعبادة وحسن سلوكه في الحياة . . هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى أن نأخذ هذا الدين - كما أراده الله - بتكاليفه كلها ، طاعة وتقوى وأن نأخذه جملة بعزائمه ورخصه ، متكاملا متناسقا ، في طمأنينة إلى الله ، ويقين بحكمته ، وشعور بتقواه .
( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، فمن تطوع خيرا فهو خير له ، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) . .
وفي أول الأمر كان تكليف الصوم شاقا على المسلمين - وقد فرض في السنة الثانية من الهجرة قبيل فرض الجهاد - فجعل الله فيه رخصة لمن يستطيع الصوم بجهد - وهو مدلول يطيقونه - فالإطاقة الاحتمال بأقصى جهد - جعل الله هذه الرخصة ، وهي الفطر مع إطعام مسكين . . ثم حببهم في التطوع بإطعام المساكين إطلاقا ، إما تطوعا بغير الفدية ، وإما بالإكثار عن حد الفدية ، كأن يطعم اثنين أو ثلاثة أو أكثر بكل يوم من أيام الفطر في رمضان : ( فمن تطوع خيرا فهو خير له ) . . ثم حببهم في اختيار الصوم مع المشقة - في غير سفر ولا مرض - : ( وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) . . لما في الصوم من خير في هذه الحالة . يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة ، وتقوية الاحتمال ، وإيثار عبادة الله على الراحة . وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية . كما يبدو لنا منه ما في الصوم من مزايا صحية - لغير المريض - حتى ولو أحس الصائم بالجهد .
وعلى أية حال فقد كان هذا التوجيه تمهيدا لرفع هذه الرخصة عن الصحيح المقيم وإيجاب الصيام إطلاقا . كما جاء فيما بعد . وقد بقيت للشيخ الكبير الذي يجهده الصوم ، ولا ترجى له حالة يكون فيها قادرا على القضاء . . فأخرج الإمام مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي . . وقال ابن عباس : ليست منسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا . . وعن ابن أبي ليلى قال : دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل ، فقال : قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر . فالنسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بالآية الآتية : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه . . . ) .
{ أياما معدودات } مؤقتات بعدد معلوم ، أو قلائل . فإن القليل من المال يعد عدا والكثير يهال هيلا ، ونصبها ليس بالصيام لوقوع الفصل بينهما ، بل بإضمار صوموا لدلالة الصيام عليه ، والمراد به رمضان أو ما وجب صومه قبل وجوبه ونسخ به ، وهو عاشوراء أو ثلاثة أيام من كل شهر ، أو ب " كما كتب " على الظرفية ، أو على أنه مفعول ثان ل{ كتب عليكم } على السعة . وقيل معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام ، لما روي : أن رمضان كتب على النصارى ، فوقع في برد أو حر شديد فحولوه إلى الربيع وزادوا عليه عشرين كفارة لتحويله . وقيل زادوا ذلك لموتان أصابهم . { فمن كان منكم مريضا } مرضا يضره الصوم أو يعسر معه . { أو على سفر } أو راكب سفر ، وفيه إيماء إلى أن من سافر أثناء اليوم لم يفطر . { فعدة من أيام أخر } أي فعليه صوم عدد أيام المرض ، أو السفر من أيام أخر إن أفطر ، فحذف الشرط والمضاف والمضاف إليه للعلم بها . وقرئ بالنصب أي فليصم عدة ، وهذا على سبيل الرخصة . وقيل على الوجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرة رضي الله عنه { وعلى الذين يطيقونه } وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا . { فدية طعام مسكين } نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند فقهاء العراق ، ومد عند فقهاء الحجاز . رخص لهم في ذلك أول الأمر لما أمروا بالصوم فاشتد عليهم لأنهم لم يتعودوه ، ثم نسخ . وقرأ نافع وابن عامر برواية ابن ذكوان بإضافة الفدية إلى الطعام وجمع " المساكين " . وقرأ ابن عامر برواية هشام " مساكين " بغير إضافة الفدية إلى الطعام ، والباقون بغير إضافة وتوحيد مسكين ، وقرئ " يطوقونه " أي يكلفونه ويقلدونه في الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة ويتطوقونه أي يتكلفونه ، أو يتقلدونه ويطوقونه بالإدغام ، و " يطيقونه " و " يطيقونه " على أن أصلهما يطيقونه من فيعل وتفيعل بمعنى يطوقونه ويتطوقونه ، وعلى هذه القراءات يحتمل معنى ثانيا وه والرخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده وهم الشيوخ والعجائز- في الإفطار والفدية ، فيكون ثابتا وقد أول به القراءة المشهورة ، أي يصومونه جهدهم وطاقتهم . { فمن تطوع خيرا } فزاد في الفدية . { فهو } فالتطوع أو الخير . { خير له وأن تصوموا } أيها المطيقون ، أو المطوقون وجهدتم طاقتكم . أو المرخصون في الإفطار ليندرج تحته المريض والمسافر . { خير لكم } من الفدية أو تطوع الخير أو منهما ومن التأخير للقضاء . { إن كنتم تعلمون } ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة ، وجوابه محذوف دل عليه ما قبله أي اخترتموه . وقيل معناه إن كنتم من أهل العلم والتدبر علمتم أن الصوم خير لكم من ذلك .
{ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }( 184 )
و { أياماً } مفعول ثان ب { كتبَ } ، قاله الفراء ، وقيل : هي نصب على الظرف ، وقيل : نصبها ب { الصيام } ، وهذا لا يحسن إلا على أن يعمل الصيام في الكاف من { كما } على قول من قدر : صوما كما ، وإذا لم يعمل في الكاف قبح الفصل بين المصدر وبين ما عمل فيه بما عمل فيه غيره ، وذلك إذا كان العامل في الكاف { كتب } ، وجوز بعضهم أن يكون { أياماً } ظرفاً يعمل فيه { الصيام } ، و { معدودات }( {[1668]} ) ، قيل : رمضان : وقيل : الثلاثة الأيام( {[1669]} ) .
وقوله تعالى { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر } ، التقدير : فأفطر { فعدة من أيام أخر } ، وهذا يسمونه فحوى الخطاب( {[1670]} ) .
واختلف العلماء في حد المرض الذي يقع به الفطر : فقال قوم : متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المريض صح الفطر قياساً على المسافر أنه يفطر لعلة السفر وإن لم تدعه إلى الفطر ضرورة ، قاله ابن سيرين .
وقال جمهور من العلماء : إذا كان به مرض يؤذيه ويؤلمه أو يخاف تماديه أو يخاف من الصوم تزيده صح( {[1671]} ) له الفطر ، وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك رحمه الله ، وبه يناظرون ، وأما لفظ مالك فهو : المرض الذي يشق على المرء ويتبلغ( {[1672]} ) به .
وقال الحسن : «إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائماً أفطر » .
وقالت فرقة : لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه الفطر ، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر ، وهذا قول الشافعي رحمه الله .
واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر ، فقال قوم والشافعي ومالك في بعض ما روي عنه : الصوم أفضل لمن قوي ، وجل مذهب مالك التخيير .
وقال ابن عباس وابن عمر وغيرهما : الفطر أفضل .
وقال مجاهد وعمر بن العزيز وغيرهما : أيسرهما أفضلهما ، وكره ابن حنبل وغيره الصوم في السفر .
وقال ابن عمر : من صام في السفر قضى في الحضر ، وهو مذهب عمر رضي الله عنه( {[1673]} ) ، ومذهب مالك في استحبابه الصوم لمن قدر عليه . وتقصير الصلاة حسن ، لأن الذمة تبرأ في رخصة الصلاة وهي مشغولة في أمر الصيام ، والصواب المبادرة بالأعمال( {[1674]} ) . وقال ابن عباس رضي الله عنه : «الفطر في السفر عزمة » ، وذهب أنس بن مالك إلى الصوم ، وقال : إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع ، ونغدو إلى جوع ، والسفر سفر الطاعة كالحج والجهاد بإجماع ، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري . وأما سفر التجارة والمباحات فمختلف فيه بالمنع والجواز والقول بالجواز أرجح وأما سفر المعاصي فمختلف فيه بالجواز والمنع والقول بالمنع أرجح ، ومسافة سفر الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة ، واختلف في قدر ذلك ، فقال مالك : يوم وليلة( {[1675]} ) ثم رجع فقال : ثمانية وأربعون ميلاً ، وروي عنه : يومان ، وروي عنه في العتبية : خمسة وأربعون ميلاً ، وفي المبسوط : أربعون ميلاً ، وفي المذهب : ستة وثلاثون ميلاً ، وفيه : ثلاثون .
وقال ابن عمر وابن عباس والثوري : الفطر في سفر ثلاثة أيام ، وفي غير المذهب : يقصر في ثلاثة أميال فصاعداً .
وقوله تعالى : { فعدة } مرفوع على خبر الابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب عدة ، ويصح أن يرتفع على ابتداء والخبر بعده والتقدير فعدة أمثل له ، ويصح فعليه عدة ، واختلف في وجوب تتابعها على قولين( {[1676]} ) ، و { أخر } لا ينصرف عند سيبويه لأنه معدول عن الألف واللام لأن هذا البناء إنما يأتي بالألف واللام كما تقول الفضل والكبر فاجتمع فيه العدل والصفة ، وجاء في الآية { أخر } ولم يجىء أخرى لئلا تشكل بأنها صفة للعدة ، والباب أن جمع ما لا يعقل يجري في مثل هذا مجرى الواحدة المؤنثة( {[1677]} ) ومنه قوله تعالى :{ يا جبال أوبي معه }( {[1678]} ) [ سبأ : 10 ] ، إلى غير ذلك .
وقرأ جمهور الناس «يطيقونه » بكسر الطاء وسكون الياء والأصل «يطوقونه » نقلت حركة الواو إلى الطاء وقلبت ياء لانكسار ما قبلها ، وقرأ حميد «يطوقونه » وذلك على الأصل ، والقياس الإعلال .
وقرأ ابن عباس «يطوقونه » بمعنى يكلفونه .
وقرأت عائشة وطاوس وعمرو بن دينار «يَطَّوقونه » بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة .
وقرأت فرقة «يُطَيَّقونه » بضم الياء وشد الطاء وشد الياء المفتوحة بمعنى يتكلفونه ، وحكاها النقاش( {[1679]} ) عن عكرمة ، وتشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف( {[1680]} ) .
وقرأ نافع وابن عامر من طريق ابن ذكوان «فديةُ طعام مساكين » بإضافة الفدية .
وقرأ هاشم عن ابن عامر «فديةٌ طعام مساكين » بتنوين الفدية .
وقرأ الباقون «فديةٌ » بالتنوين «طعام مسكين » بالإفراد ، وهي قراءة حسنة لأنها بينت الحكم في اليوم ، وجمع( {[1681]} ) المساكين لا يدرى كم منهم في اليوم إلا من غير الآية .
قال أبو علي : «فإن قلت كيف أفردوا المساكين والمعنى على الكثرة لأن الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين ، فكان الوجه أن يجمعوا كما جمع المطيقون ؟ ، فالجواب أن الإفراد حسن لأنه يفهم بالمعنى أن لكل مسكيناً( {[1682]} ) ، ونظير هذا قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة }( {[1683]} ) [ النور : 4 ] فليست الثمانون متفرقة في جميعهم بل لكل واحد ثمانون .
واختلف المتأولون في المراد بالآية( {[1684]} ) فقال معاذ بن جبل وعلقمة والنخعي والحسن البصري وابن عمر والشعبي وسلمة بن الأكوع وابن شهاب : كان فرض الصيام هكذا على الناس من أراد صام ومن أراد أطعم مسكيناً وأفطر ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 185 ] .
وقالت فرقة : و { على الذين يطيقونه }( {[1685]} ) أي على الشيوخ والعجّز ، الذين يطيقون ، لكن بتكلف شديد فأباح الله لهم الفدية والفطر ، وهي محكمة عند قائلي هذا القول . وعلى هذا التأويل تجيء قراءة { يطوقونه } و " يطوقونه " .
وقال ابن عباس : نزلت هذه الرخصة للشيوخ والعجّز خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم ثم نسخت بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 185 ] ، فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم .
وقال السدي : { وعلى الذين يطيقونه } أي على الذين كانوا يطيقونه وهم بحالة الشباب ثم استحالوا بالشَّيَخ فلا يستطيعون الصوم . وهي عنده محكمة ، ويلزم الشيوخ عنده الفدية إذا أفطروا ، ونحوه عن ابن عباس .
وقال مالك : «لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة ، وتستحب لمن قدر عليها » ، والآية عنده إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من المتقدم فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم فتكره فعليه الفدية( {[1686]} ) .
وقال الشافعي وأبو حنيفة : على الشيخ العاجز الإطعام .
وحكى الطبري عن عكرمة أنه كان يقرؤها «وعلى الذين يَطَّيَّقونه » فأفطر ، ومذهب مالك رحمه الله وجماعة من العلماء أن قدر الدية مد لكل مسكين .
وقال قوم : قوت يوم : وقال قوم : عشاء وسحور .
وقال سفيان الثوري : نصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو زبيب ، والضمير في { يطيقونه }( {[1687]} ) عائد على { الصيام } ، وقيل على الطعام وهو قول ضعيف .
واختلف في الحامل فقال ابن عمر وابن عباس : تفدي وتفطر ولا قضاء عليها .
وقال الحسن وعطاء والضحاك والزهري وربيعة ومالك : تقضي الحامل إذا أفطرت ولا فدية عليها .
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل ومجاهد : تقضي وتفدي إذا أفطرت ، وكذلك قال مالك في المرضع إنها إذا أفطرت تقضي وتفدي ، هذا هو المشهور عنه ، وقال في مختصر ابن عبد الحكم : لا إطعام على المرضع .
وقوله تعالى : { فمن تطوع خيراً فهو خير له } الآية ، قال ابن عباس وطاوس عطاء والسدي : المراد من أطعم مسكينين فصاعداً( {[1688]} ) .
وقال ابن شهاب : «من زاد الإطعام على الصوم » وقال مجاهد : «من زاد في الإطعام على المد » ، و { خير } الثاني صفة تفضيل ، وكذلك الثالث ، و { خير } الأول قد نزل منزلة مالاً أو نفعاً ، وقرأ أبيّ بن كعب «والصوم خير لكم » بدل { وأن تصوموا } .
وقوله تعالى : { إن كنتم تعلمون } يقتضي الحض على الصوم أي فاعلموا ذلك وصوموا .