( ولما ورد ماء مدين ، وجد عليه أمة من الناس يسقون ، ووجد من دونهم امرأتين تذودان . قال : ما خطبكما ? قالتا : لا نسقي حتى يصدر الرعاء ، وأبونا شيخ كبير . فسقى لهما ، ثم تولى إلى الظل ، فقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) . .
لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين . وصل إليه وهو مجهود مكدود . وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة ، السليمة الفطرة ، كنفس موسى - عليه السلام - وجد الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء ؛ ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء . والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة ، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولا ، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما .
ولم يقعد موسى الهارب المطارد ، المسافر المكدود ، ليستريح ، وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف . بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب :
( قالتا : لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ) . .
فأطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود . إنه الضعف ، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال . وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال !
{ ولما ورد ماء مدين } وصل إليه وهو بئر كانوا يسقون منها . { وجد عليه } وجد فوق شفيرها . { أمة من الناس } جماعة كثيرة مختلفين . { يسقون } مواشيهم . { ووجد من دونهم } في مكان أسفل من مكانهم . { امرأتين تذودان } تمنعان أغنامهما عن الماء لئلا تختلط بأغنامهم . { قال ما خطبكما } ما شأنكما تذودان . { قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء } تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء حذرا عن مزاحمة الرجال ، وحذف المفعول لأن الغرض هو بيان ما يدل على عفتهما ويدعوه إلى السقي لهما ثم دونه . وقرأ أبو عمرو وابن عامر " يصدر " أي ينصرف . وقرئ " الرعاء " بالضم وهو اسم جمع كالرخال . { وأبونا شيخ كبير } كبير السن لا يستطيع أن يخرج للسقي فيرسلنا اضطرارا .
فمشى عليه السلام حتى ورد { مدين } أي بلغها ، و «وروده الماء » معناه بلغه لا أنه دخل فيه ، ولفظ «الورود » قد تكون بمعنى الدخول في المورود ، وقد تكون الإطلال عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل فيه فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه ، وهذه الوجوه في اللفظة تتأول في قوله تعالى { وإن منكم إلا واردها }{[9129]} [ مريم : 71 ] ، و { مدين } لا ينصرف إذ هي بلدة معروفة ، و «الأمة » الجمع الكثير ، و { يسقون } معناه ماشيتهم ، و { من دونهم } معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها فوصل إلى «المرأتين » قبل وصوله إلى الأمة وهكذا هما { من دونهم } بالإضافة إليه ، و { تذودان } معناه تمنعان وتحبسان ، ومنه قوله عليه السلام : «ألا ليذادن رجال عن حوضي » الحديث{[9130]} ، وشاهد الشعر في ذلك كثير ، وفي بعض المصاحف «امرأتين حابستين تذودان » ، واختلف في المذود ، فقال عباس وغيره { تذودان } غنمهما عن الماء خوفاً من السقاة الأقوياء ، وقال قتادة { تذودان } الناس عن غنمهما ، فلما رأى موسى عليه السلام انتزاح المرأتين { قال ما خطبكما } أي ما أمركما وشأنكما ، وكان استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب أو مضطهدٍ أو من يشفق عليه أو يأتي بمنكر من الأمر فكأنه بالجملة في شر فأخبرتاه بخبرهما ، وأن أباهما { شيخ كبير } فالمعنى أنه لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا يقدران على مزاحمة الأقوياء وأن عادتهما التأني حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى ، وحينئذ تردان ، وقالت فرقة كانت الآبار مكشوفة وكان زحم{[9131]} الناس يمنعهما ، فلما أراد موسى أن يسقي لهما زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى ، فعن هذا الغلب الذي كان منه ، وصفته إحداهما بالقوة ، وقالت فرقة : بل كانت آبارهم على أفواهها حجارة كبار وكان ورود المرأتين تتبع ما في صهاريج الشرب من الفضلات التي تبقى للسقاة وأن موسى عليه السلام عمد إلى بئر كانت مغطاة والناس يسقون من غيرها وكان حجرها لا يرفعه إلا سبعة ، قاله ابن زيد ، وقال ابن جريج : عشرة ، وقال ابن عباس : ثلاثون ، وقال الزجاج : أربعون ، فرفعه موسى وسقى للمرأتين ، فعن رفع الصخرة وصفته بالقوة ، وقيل إن بئرهم كانت واحدة وإنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة إذ كانت عادة المرأتين شرب الفضلات ، وقرأ الجمهور «نسقي » بفتح النون ، وقرأ طلحة «نُسقي » بضمها ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر «حتى يَصدُر » بفتح الياء وضم الدال وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وقتادة ، وقرأ الباقون «يُصدِر » بضم الياء وكسر الدال على حذف المفعول تقديره مواشيهم وحذف المفعول كثير في القرآن والكلام ، وهي قراءة الأعرج وطلحة والأعمش وابن أبي إسحاق وعيسى ، و { الرعاء } جمع راع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.