وعلى ذكر الموازين والقيم ؛ وظن الذين كفروا بالذين آمنوا ؛ وحقيقة مكان هؤلاء ووزنهم عند الله . . ينتقل السياق إلى قصة الاختلاف بين الناس في التصورات والعقائد ، والموازين والقيم ؛ وينتهي بتقرير الأصل الذي ينبغي أن يرجع إليه المختلفون ؛ وإلى الميزان الأخير الذي يحكم فيما هم فيه مختلفون :
( كان الناس أمة واحدة ؛ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ؛ وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه - وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم - فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ؛ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . .
هذه هي القصة . . كان الناس أمة واحدة . على نهج واحد ، وتصور واحد . وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم ، قبل اختلاف التصورات والاعتقادات . فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد . وهم أبناء الأسرة الأولى : أسرة آدم وحواء . وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعا نتاج أسرة واحدة صغيرة ، ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم ، وليجعلها هي اللبنة الأولى . وقد غبر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى . حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها ، وتفرقوا في المكان ، وتطورت معايشهم ؛ وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة ، التي فطرهم الله عليها لحكمة يعلمها ، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع في الاستعدادات والطاقات والاتجاهات .
عندئذ اختلفت التصورات وتباينت وجهات النظر ، وتعددت المناهج ، وتنوعت المعتقدات . . وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . .
( وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) . .
وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى . . إن من طبيعة الناس أن يختلفوا ؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم ؛ يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض . . إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة ، واستعدادات شتى من الوان متعددة ؛ كي تتكامل جميعها وتتناسق ، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة ، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله . فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف ؛ ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات . . ( ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك - ولذلك خلقهم ) . .
هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشى ء بدوره اختلافا في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق . . ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعا حين تصلح وتستقيم . . هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح . الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات ؛ فلا يقتلها ولا يكبحها ؛ ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح .
ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون ؛ وحكم عدل يرجع إليه المختصمون ؛ وقول فصل ينتهي عنده الجدل ، ويثوب الجميع منه إلى اليقين :
( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) .
ولا بد أن نقف عند قوله تعالى " بالحق " . . فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب ؛ وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل ، والقول الفصل ، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم . . لا حق غيره . ولا حكم معه . ولا قول بعده . وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد ؛ وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس ؛ وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض . . بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة ؛ ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة ؛ ولا يقوم على الأرض السلام ؛ ولا يدخل الناس في السلم بحال .
ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم ؛ والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف . . إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق ؛ وهو مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . .
وهو كتاب واحد في حقيقته ، جاء به الرسل جميعا . فهو كتاب واحد في أصله ، وهي ملة واحدة في عمومها ، وهو تصور واحد في قاعدته : إله واحد ، ورب واحد ، ومعبود واحد ، ومشرع واحد لبني الإنسان . . ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال ؛ ووفق أطوار الحياة والارتباطات ؛ حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام ، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق . بقيادة الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير .
وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد . . كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله ، يقوم على القاعدة الأصيلة : قاعدة التوحيد المطلق . . ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة ، وتتراكم الخرافات والأساطير ، حتى يبعد الناس نهائيا عن ذلك الأصل الكبير . وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة ، وتنفي ما علق بها من الانحرافات ، وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات . . وهذه النظرية أولى بالإتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين ، والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون ، وهم لا يشعرون ، فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور ، كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين !
وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني ، هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، في كل زمان ، ومع كل رسول ، منذ أقدم الأزمان .
ولم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه الناس ، وأن يكون هناك قول فصل ينتهون إليه . ولم يكنبد كذلك أن يكون هذا الميزان من صنع مصدر آخر غير المصدر الإنساني ، وأن يكون هذا القول قول حاكم عدل لا يتأثر بالهوى الإنساني ، ولا يتأثر بالقصور الإنساني ، ولا يتأثر الجهل الإنساني !
وإقامة ذلك الميزان الثابت تقتضي علما غير محدود . علم ما كان وما هو كائن وما سيكون . علمه كله لا مقيدا بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد إلى ماض وحاضر ومستقبل ، وإلى مستيقن ومظنون ومجهول ، وإلى حاضر مشهود ومغيب مخبوء . . ولا مقيدا بقيود المكان التي تفصل الوجود الواحد إلى قريب وبعيد ، ومنظور ومحجوب ، ومحسوس وغير محسوس . . في حاجة إلى إله يعلم ما خلق ، ويعلم من خلق . . ويعلم ما يصلح وما يصلح حال الجميع .
وإقامة ذلك الميزان في حاجة كذلك إلى استعلاء على الحاجة ، واستعلاء على النقص ، واستعلاء على الفناء ، واستعلاء على الفوت ، واستعلاء على الطمع ، واستعلاء على الرغبة والرهبة . . واستعلاء على الكون كله بما فيه ومن فيه . . في حاجة إلى إله ، لا أرب له ، ولا هوى ، ولا لذة ، ولا ضعف في ذاته - سبحانه - ولا قصور !
أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الأحوال المتطورة ، والظروف المتغيرة ، والحاجات المتجددة ؛ ثم يوائم بينها وبين الإنسان في لحظة عابرة وظرف موقوت . على أن يكون هناك الميزان الثابت الذي يفيء إليه ، فيدرك خطأه وصوابه ، وغيه ورشاده ، وحقه وباطله ، من ذلك الميزان الثابت . . وبهذا وحده تستقيم الحياة . ويطمئن الناس إلى أن الذي يسوسهم في النهاية إله !
إن الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل . إنما جاء ليحتكم الناس إليه . . وإليه وحده . . حين يختلفون . .
ومن شأن هذه الحقيقة أن تنشىء حقيقة أخرى تقوم على أساسها نظرة الإسلام التاريخية :
إن الإسلام يضع( الكتاب )الذي أنزله الله " بالحق " ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . . يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية . ثم تمضي الحياة . فإما اتفقت مع هذه القاعدة ، وظلت قائمة عليها ، فهذا هو الحق . وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى ، فهذا هو الباطل . . هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعا . في فترة من فترات التاريخ . فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل . وليس الذي يقرره الناس هو الحق ، وليس الذي يقرره الناس هو الدين . إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء ، وقولهم لشيء ، وإقامة حياتهم على شيء . . لا تحيل هذا الشيء حقا إذا كان مخالفا للكتاب ؛ ولا تجعله أصلا من أصول الدين ؛ ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين ؛ ولا تبرره لأن أجيالا متعاقبة قامت عليه . .
وهذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس ! وفي التاريخ الإسلامي مثلا وقع انحراف ، وظل ينمو وينمو . . فلا يقال : إن هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو إذن الصورة الواقعية للإسلام ! كلا ! إن الإسلام يظل بريئا من هذا الواقع التاريخي . ويظل هذا الذي وقع خطأ وانحرافا لا يصلح حجة ولا سابقة ؛ ومن واجب من يريد استئناف حياة إسلامية أن يلغيه ويبطله ، وأن يعود إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . .
ولقد جاء الكتاب . . ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هناك ومن هناك ؛ وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تبعد الناس عن قبول حكم الكتاب ، والرجوع إلى الحق الذي يردهم إليه :
( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات . . بغيا بينهم ) . .
فالبغي . . بغي الحسد . وبغي الطمع . وبغي الحرص . وبغي الهوى . . هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج ؛ والمضي في التفرق واللجاج والعناد .
وهذه حقيقة . . فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب ، القوي الصادع المشرق المنير . . ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى ، أو في نفسيهما جميعا . . فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق :
( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) . .
هداهم بما في نفوسهم من صفاء ، وبما في أرواحهم من تجرد ، وبما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق . وما أيسر الوصول حينئذ والاستقامة :
( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . .
هو هذا الصراط الذي يكشف عنه ذلك الكتاب . وهو هذا المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق . ولا تتقاذفه الأهواء والشهوات ، ولا تتلاعب به الرغاب والنزوات . .
والله يختار من عباده لهذا الصراط المستقيم من يشاء ، ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والاستقامة على الصراط ؛ أولئك يدخلون في السلم ، وأولئك هم الأعلون ، ولو حسب الذين لا يزنون بميزان الله أنهم محرومون ، ولو سخروا منهم كما يسخر الكافرون من المؤمنين !
{ كان الناس أمة واحدة } متفقين على الحق فيما بين آدم وإدريس أو نوح أو بعد الطوفان ، أو متفقين على الجهالة والكفر في فترة إدريس أو نوح . { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } أي فاختلفوا فبعث الله ، وإنما حذف لدلالة قوله فيما اختلفوا فيه . وعن كعب ( الذي علمته من عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون ) . { وأنزل معهم الكتاب } يريد به الجنس ولا يريد به أنه أنزل مع كل واحد كتابا يخصه ، فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب . يخصهم وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم . { بالحق } حال من الكتاب ، أي ملتبسا بالحق شاهدا به . { ليحكم بين الناس } أي الله أو النبي المبعوث ، أو كتابه . { فيما اختلفوا فيه } في الحق الذي اختلفوا فيه ، أو فيما التبس عليهم . { وما اختلف فيه } في الحق ، أو الكتاب . { إلا الذين أوتوه } أي الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيجا للاختلاف سببا لاستحكامه . { من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم } حسدا بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا . { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه } أي للحق الذي اختلف فيه من اختلف . { من الحق } بيان لما اختلفوا فيه . { بإذنه } بأمره أو بإرادته ولطفه . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } لا يضل سالكه .