ولما كانت تلك طبيعة البيعة ، كان التخلف عن الجهاد للقادرين - أياً كانت الأسباب - أمراً مستنكراً عظيماً ؛ وكان ما بدا في الغزوة من التردد والتخلف ظاهرة لا بد من تتبعها والتركيز عليها . . وفي الآيات التالية يبين مدى فضل اللّه ورحمته بالمؤمنين إذ يتجاوز عما بدا من التردد والتخلف من المؤمنين المخلصين ، ويتوب عليهم فيما وقع منهم من اخطاء صغرت أم كبرت . . كذلك يبين عن مصير الثلاثة الذين خلفوا بغير حكم في أمرهم - وهم المرجون لأمر اللّه الذين سبق ذكرهم - حتى نزل هذا الحكم بعد فترة من الزمان :
( لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ، من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم . وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ؛ ثم تاب عليهم ليتوبوا . إن اللّه هو التواب الرحيم ) .
وتوبة اللّه على النبي - [ ص ] - تفهم بالرجوع إلى ما كان في أحداث الغزوة بجملتها ؛ والظاهر أنها متعلقة بما سبق أن قال اللّه عنه لنبيه : ( عفا اللّه عنك . لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) . . ذلك حين استأذنه جماعة من أولي الطول بأعذار منتحلة فأذن لهم . وقد عفا اللّه عنه في اجتهاده
[ ص ] - مع تنبيهه إلى أن الأولى كان هو التريث حتى يتبين الصادقين في أعذارهم من الكاذبين المتمحلين !
وتوبته على المهاجرين والأنصار يشير النص الذي بين أيدينا إلى ملابساتها في قوله تعالى : ( الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ) . . وقد كان بعضهم تثاقل في الخروج ثم لحق بالركب كما سنفصل - وهم من خلص المؤمنين - وبعضهم استمع للمنافقين المرجفين بهول لقاء الروم ! ثم ثبت اللّه قلبه ومضى بعد تردد .
ويحسن أن نستعرض بعض ظروف الغزوة وملابساتها لنعيش في جوها الذي يقرر اللّه - سبحانه - أنه كان ( ساعة العسرة ) . ولندرك طبيعة الانفعالات والحركات التي صاحبتها [ ونحن نلخص في هذا من السيرة لابن هشام ، ومن إمتاع الأسماع للمقريزي ، ومن البداية والنهاية لابن كثير ، ومن تفسير ابن كثير ] :
لما نزل قوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . . . )أمر رسول اللّه - [ ص ] - أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم [ ويلاحظ أن الاشتباك بالروم كان قد سبق نزول هذه الآيات في غزوة مؤتة فهذا الأمر الأخير إنما جاء تقريراً للخطة الدائمة المستقرة في آخر ما نزل من القرآن ] وذلك في زمن عسرة من الناس ، وشدة من الحر ، وجدب من البلاء ، وحين طابت الثمار ، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال والزمان الذي هم عليه . وكان رسول اللّه - [ ص ] - قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها ، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له [ أي يقصد إليه ] إلا ما كان من غزوة تبوك ، فإنه بينها للناس ، لبعد الشقة ، وشدة الزمان ، وكثرة العدو الذي يصمد له ، ليتأهب الناس لذلك أهبته . فأمر الناس بالجهاز ، وأخبرهم أنه يريد الروم .
واستأذن بعض المنافقين رسول اللّه - [ ص ] - في التخلف مخافة الفتنة ببنات الروم ! فأذن ! وفي هذا نزل عتاب اللّه لنبيه في الإذن مصدراً بالعفو عنه في اجتهاده :
( عفا اللّه عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ? ) . .
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض : لا تنفروا في الحر - زهادة في الجهاد ، وشكاً في الحق ، وإرجافاً برسول اللّه - [ ص ] - فأنزل اللّه تبارك وتعالى فيهم :
( وقالوا : لا تنفروا في الحر ، قل : نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون ، فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون ) .
وبلغ رسول اللّه - [ ص ] - أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي ، يثبطون الناس عن رسول اللّه - [ ص ] - في غزوة تبوك ؛ فبعث إليهم النبي - [ ص ] - طلحة ابن عبيد اللّه في نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ، ففعل طلحة ، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله ، واقتحم أصحابه فأفلتوا . ثم تاب الضحاك .
ثم إن رسول اللّه - [ ص ] - جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والإسراع . وحض أهل الغنى على النفقة وحمل المجاهدين الذين لا يجدون ما يركبون ؛ فحمل رجال من أهل الغنى محتسبين عند اللّه . وكان في مقدمة المنفقين المحتسبين ، عثمان بن عفان - رضي اللّه عنه - فأنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها . . قال ابن هشام : فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار ، فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض " . وقال عبد اللّه بن أحمد في مسند أبيه -بإسناده - عن عبد الرحمن بن حباب السلمي ، قال : خطب النبي - [ ص ] - فحث على جيش العسرة ، فقال عثمان بن عفان : عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها . قال : ثم نزل مرقاة من المنبر ، ثم حث ، فقال عثمان : عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها . قال : فرأيت رسول اللّه - [ ص ] - يقول بيده هكذا يحركها [ وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب ] : " ما على عثمان ما عمل بعد هذا " . . [ وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي ، عن سكن بن المغيرة أبي محمد مولى لآل عثمان به . وقال : غريب من هذا الوجه ] . ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة به ، وقال : ثلاث مرات وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها . .
وأخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير ، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة - بألفاظ مختلفة - قال : حث رسول اللّه - [ ص ] - على الصدقة [ يعني في غزوة تبوك ] فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف [ أي درهم ] ، فقال يا رسول اللّه ، ما لي ثمانية آلاف ، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها . فقال : " بارك اللّه لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " . وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال : يا رسول اللّه أصبت صاعين من تمر ، صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي . قال : فلمزه المنافقون ، وقالوا : ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء . وقالوا ألم يكن اللّه ورسوله غنيين عن صاع هذا ? !
وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل [ وهو الذي بات يعمل عند يهودي ليحصل على صاعين أجرا له جاء بأحدهما لرسول اللّه - [ ص ] - ] إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه !
ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول اللّه - [ ص ] - وهم البكاءون . وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، فاستحملوا رسول اللّه - [ ص ] - [ أي طلبوا منه أن يحملهم على ركائب إلى أرض المعركة ] ، وكانوا أهل حاجة . فقال : ( لا أجد ما أحملكم عليه ) . فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون .
قال ابن إسحاق : فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد اللّه بن مغفل [ من السبعة البكائين ] وهما يبكيان فقال : ما يبكيكما ? قال : جئنا رسول اللّه - [ ص ] - ليحملنا ، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه ، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه . فأعطاهما ناضحاً له [ أي جملاً يستقي عليه الماء ] فارتحلاه . وزودهما شيئاً من تمر ، فخرجا مع رسول اللّه [ ص ] .
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق : وأما علبة بن زيد [ أحد البكائين ] فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء اللّه ، ثم بكى وقال : اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغّبت فيه ، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به ، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه ، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض . . ثم أصبح مع الناس . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " أين المتصدق هذه الليلة ? " فلم يقم أحد ! ثم قال : " أين المتصدق ? فليقم " فقام إليه فأخبره . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " أبشر ، فوالذي نفسي بيده ، لقد كتبت لك في الزكاة المتقبلة " . .
ثم خرج رسول اللّه - [ ص ] - بمن معه وقد قارب عددهم ثلاثين ألفاً من أهل المدينة ومن قبائلالأعراب من حولها . وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية من غير شك ولا ارتياب ، منهم : كعب ابن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية [ وهم الثلاثة الذين سيرد تفصيل قصتهم ] وأبو خيثمة وعمير بن وهب الجمحي . . وضرب رسول اللّه - [ ص ] - عسكره على " ثنية الوداع " وضرب عبد اللّه بن أبي - رأس النفاق - عسكره على حدة ، أسفل منه ، قال ابن إسحاق : [ وكانوا فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين ] . . ولكن الروايات الأخرى تقول : إن الذين تخلفوا فعلاً دون المائة . . فلما سار رسول اللّه - [ ص ] - تخلف عنه عبد اللّه بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب .
ثم مضى رسول اللّه - [ ص ] - سائراً ، فجعل يتخلف عنه الرجل ، فيقولون : يا رسول اللّه ، تخلف فلان ، فيقول : " دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه تعالى بكم ، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه " حتى قيل : يا رسول اللّه ، قد تخلف أبو ذر ، وأبطأ به بعيره ، فقال : " دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه " . وتلوم أبو ذر على بعيره [ أي انتظر عليه ] ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ، ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه - [ ص ] - ماشياً . ونزل رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - في بعض منازله ، فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول اللّه ، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " كن أبا ذر " فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول اللّه ، هو واللّه أبو ذر . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " رحم اللّه أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده " .
ثم إن أبا خيثمة رجع - بعد أن سار رسول اللّه [ ص ] أياماً - إلى أهله في يوم حار ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه [ أي في حديقته ] قد رشت كل واحدة منهما عريشها ، وبردت له فيه ماء . وهيأت له فيه طعاماً . فلما دخل قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له ، فقال : رسول اللّه - [ ص ] - في الضحَ [ أي الشمس ] والريح والحر ، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم ? ! ما هذا بالنصف ! ثم قال : واللّه لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللّه - [ ص ] - فهيئا لي زاداً . ففعلتا . ثم قدم ناضحه فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول اللّه - [ ص ] - حتى أدركه حين نزل تبوك . . وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطلب يطلب رسول اللّه - [ ص ] - فترافقا ، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب : إن لي ذنباً فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول اللّه - [ ص ] - ففعل . حتى إذا دنا من رسول اللّه - [ ص ] - وهو نازل بتبوك قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل . فقال رسول اللّه - [ ص ] - : " كن أبا خيثمة " . فقالوا : يا رسول اللّه ، هو واللّه أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول اللّه - [ ص ] - فقال له رسول اللّه [ ص ] " أولى لك يا أبا خيثمة ! " . ثم أخبر رسول اللّه - [ ص ] - الخبر . فقال له رسول اللّه - [ ص ] - خيرا ، ودعا له بخير .
قال ابن إسحاق : وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف ، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له : " مُخشن بن حُمير " [ قال ابن هشام : ويقال : مخشى ] يشيرون إلى رسول اللّه - [ ص ] - وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر[ يعنون الروم ] كقتال العرب بعضهم بعضاً ? واللّه لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال . . إرجافاً وترهيباً للمؤمنين . . فقال مخشن بن حمير : واللّه لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . وقد قال رسول اللّه [ ص ] - فيما بلغني - لعمار بن ياسر : " أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن أنكروا فقل : بلى قلتم كذا وكذا " . فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول اللّه - [ ص ] - يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت ، ورسول اللّه - [ ص ] - واقف على ناقته ، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها [ وهو الحبل يشد على بطن البعير ] يا رسول اللّه ، إنما كنا نخوض ونلعب . فأنزل اللّه عز وجل : ( ولئن سألتهم ليقولن : إنما كنا نخوض ونلعب . قل : أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون ? )وقال مخشن بن حمير : يا رسول اللّه ، قعد بي اسمي واسم أبي ! وكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشن بن حمير . فتسمى عبد الرحمن . وسأل اللّه تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة ، فلم يوجد له أثر . .
قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : لما قفل رسول اللّه - [ ص ] من تبوك - بعدما أقام بها بضع عشرة ليلة لم يلق فيها حرباً - هَمَّ جماعة من المنافقين بالفتك به ، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق ، فأخبر بخبرهم ، فأمر الناس بالمسير من الوادي ، وصعد هو العقبة ، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا ، وأمر رسول اللّه - [ ص ] - عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه . عمار آخذ بزمام الناقة ، وحذيفة يسوقها ؛ فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم ، فغضب رسول اللّه - [ ص ] - وأبصر حذيفة غضبه ، فرجع إليهم ومعه محجن ، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه ، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد ظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم ؛ فأسرعوا حتى خالطوا الناس ؛ وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول اللّه - [ ص ] - فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة ، ووقفوا ينتظرون الناس . ثم قال رسول اللّه - [ ص ] - لحذيفة : " هل عرفت هؤلاء القوم ? " قال : ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم . ثم قال : " علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب ? " قالا : لا . فأخبرهما بما كانوا تمالأوا عليه ، وسماهم لهما ، واستكتمهما ذلك ، فقالا : يا رسول اللّه ، أفلا تأمر بقتلهم ? فقال : " أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " . .
قال ابن كثير في البداية والنهاية :
وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي - [ ص ] - إنما أعلم بأسمائهم حذيفة ابن اليمان وحده . وهذا هو الأشبه ، واللّه أعلم . .
فأما العسرة التي لقيها المسلمون في الغزوة فقد وردت بعض الروايات بشواهد منها . . قال ابن كثير في التفسير :
قال مجاهد وغير واحد نزلت هذه الآية : ( لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ، ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم ) . . في غزوة تبوك . وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر ، في سنة مجدبة ، وحر شديد ، وعسر من الزاد والماء . . قال قتادة : خرجوا إلى الشام على تبوك في لهبان الحر ، على ما يعلم اللّه من الجهد ، فأصابهم فيها جهد شديدحتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها ، فتاب اللّه عليهم وأقفلهم من غزوتهم .
وروى ابن جرير - بإسناده - إلى عبد اللّه بن عباس : أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة ، فقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول اللّه - [ ص ] - إلى تبوك ، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده .
وقال ابن جرير في قوله : ( لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة )- أي من النفقة والظهر والزاد والماء - ( من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم )- أي عن الحق ، ويشك في دين الرسول - [ ص ] ويرتاب للذي نالهم من المشقة ولشدة في سفرهم وغزوهم - ( ثم تاب عليهم ) يقول : ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه ( إنه بهم رؤوف رحيم ) . .
ولعل هذا الاستعراض أن يصور لنا اليوم كيف كانت( العسرة )كما ينقل لنا لمحة من الجو الذي عاشه المجتمع المسلم في تلك الفترة ؛ يتجلى فيها تفاوت المقامات الإيمانية ؛ من اليقين الجاد عند طائفة . إلى الزلزلة والأرجحة تحت مطارق العسرة عند طائفة . إلى القعود والتخلف - بغير ريبة - عند طائفة . إلى النفاق الناعم عند طائفة . إلى النفاق الفاجر عند طائفة . إلى النفاق المتآمر عند طائفة . . مما يشي أولاً بالحالة العامة للتركيب العضوي للمجتمع في هذه الفترة ؛ ويشي ثانياً بمشقة الغزوة - في مواجهة الروم ومع العسرة - هذه المشقة الممحصة . الممتحنة الكاشفة ؛ والتي لعل اللّه سبحانه قد قدرها من أجل التمحيص والكشف والتمييز .
{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } من إذن المنافقين في التخلف أو برأهم عن علقة الذنوب كقوله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وقيل : هو بعث على التوبة والمعنى : ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعا } إذ ما من أحد إلا وله مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة وإظهار لفضلها بأنها مقام الأنبياء والصالحين من عباده . { الذين اتبعوه في ساعة العُسرة } في وقتها هي حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد والزاد حتى قيل إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة والماء حتى شربوا القيظ . { من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم } عن الثبات على الإيمان أو اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام وفي { كاد } ضمير الشأن أو ضمير القوم والعائد إليه الضمير في { منهم } . وقرأ حمزة وحفص { يزيغ } بالياء لأن تأنيث القلوب غير حقيقي . وقرئ " من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم " يعني المتخلفين . { ثم تاب عليهم } تكرير للتأكيد وتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة ، أو المراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم . { إنه بهم رءوف رحيم } .