والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات ، وبلغت إلى آفاق ، لولا أنها وقعت بالفعل ، لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق . .
والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم . . أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم ، وتسكن إليه أرواحهم ، ويثوبون إليه ويطمئنون له ، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .
( يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين ! ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع ، ومن مال يختصون به كهذا الفيء ، فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا . ولا يقول : حسدا ولا ضيقا . إنما يقول : ( شيئا ) . مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم ، فلا تجد شيئا أصلا .
( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . . والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا .
( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) . . فهذا الشح . شح النفس . هو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه ، فقد وقي هذا المعوق عن الخير ، فانطلق إليه معطيا باذلا كريما . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .
ولما مدح المهاجرين وأعطاهم فطابت نفوس الأنصار بذلك وكانوا في كل حال معه صلى الله عليه وسلم كالميت بين يدي الغاسل ، مهما شاء فعل ، ومهما أراد منهم صار إليه ووصل ، أتبعه مدحهم جبراً لهم وشكراً لصنيعهم فقال عاطفاً على مجموع القصة : { والذين تبوؤ } أي جعلوا بغاية جهدهم { الدار } الكاملة في الدور وهي التي أعدها الله في الأزل للهجرة وهيأها للنصرة وجعلها دائرة على جميع البلدان محيطة بها غالبة عليها محل إقامتهم وملابستهم وصحبتهم وملازمتهم لكونها أهلاً لأن يعود إليها من خرج منها فلا يهجرها{[63915]} أصلاً ، فهي محل مناه وليست موضعاً{[63916]} يهاجر منه{[63917]} لبركتها أو خيرها .
ولما كان المراد الإبلاغ في مدحهم ، قال مضمناً " تبوؤا " معنى لازم : { والإيمان } أي و{[63918]}لابسوه وصحبوه وخصوه بالصحبة ولزموه لزوماً هو كلزوم المنزل الذي لا غنى لنازله عنه ، ويجوز أن يكون الإيمان{[63919]} وصفاً للدار بإعادة العاطف للإشارة إلى{[63920]} التمكن في كل من الوصفين فيكون كأنه قيل : تبوؤا المدينة التي هي الدار وهي الإيمان لأنها محل تمكن الإيمان وانتشاره وظهوره في سائر البلدان فلشدة ملابستها{[63921]} له{[63922]} سميت به ، ويجوز أن يكون المعنى : ومحل الإيمان إشارة إلى أنهم ما أقاموا بها لأجل أن أموالهم بها بل محبة في الإيمان علماً منهم بأنه لا يتم بدره ، ويكمل شرفه وقدره ، وتنشر أعلامه ويقوى ذكره إلا بها ، ولولا ذلك لهجروها{[63923]} وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان حله ، فهو مدح لهم بأنه متصفون بالهجرة بالقوة مع اتصافهم بالنصرة بالفعل{[63924]} .
ولما كان انفرادهم بإقامة الإيمان في الدار المذكورة قبل قدوم المهاجرين عليهم مدحاً تاماً ، قال مادحاً لهم بذلك دالاً بإثبات الجارّ على أنهم لم يستغرقوا زمان القبل من حين إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمرين{[63925]} : { من قبلهم } أي قبل هجرة المهاجرين لأن وصفهم بالهجرة لم يكن إلا بعد إيجادها فالأنصار جمعوا التمكن في الإيمان إلى التمكن في الدار من قبل أن يجمع المهاجرون بينهما بالهجرة .
ولما ابتدأ ذكرهم هذا الابتداء الجليل ، أخبر عنهم بقوله : { يحبون } أي على سبيل التجديد والاستمرار ، وقيل العطف على المهاجرين ، وهذه{[63926]} حال فيكون هذا حكماً بالمشاركة { من هاجر } وزادهم محبة فيهم وعطفاً عليهم بقوله : { إليهم } لأن القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه ، والدليل الشهودي على ما أخبر الله {[63927]}عنهم به{[63928]} من المحبة أنهم شاطروا المهاجرين في أموالهم وعرضوا عليهم أن يشاطروهم نساءهم على شدة غيرتهم ، فأبى المهاجرون المشاطرة في النساء وقبلوا منهم الأموال .
ولما أخبرهم بالمحبة ورغبهم في إدامتها ، عطف على هذا الخبر ما هو من ثمراته فقال : { ولا يجدون } أي{[63929]} أصلاً { في صدورهم } التي هي مساكن قلوبهم فتصدر منها أوامر{[63930]} القلوب فضلاً عن أن{[63931]} تنطق ألسنتهم . ولما كان المراد نفي الطلب منهم لما خص به المهاجرين ، وكان الحامل على طلب ذلك الحاجة ، وكان كل أحد{[63932]} يكره أن ينسب إلى الحاجة وإن أخبر بها عن نفسه في وقت ما لغرض قال : { حاجة } موقعاً اسم السبب على المسبب { مما أوتوا } أي المهاجرون من الفيء وغيره من أموال بني النضير وغيرهم من أي مؤت كان فكيف إذا كان المؤتي هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وإذا لم يجدوا حاجة تدعوهم إلى الطلب فلأن لا يجدوا حسداً ولا غيظاً من باب الأولى ، فهذه الآية من أعظم حاث على حسن الإخاء محذر من الحسد والاستياء . ولما أخبر عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الإخبار بتحليهم بالفضائل{[63933]} فقال : { ويؤثرون } عظم ذلك بقصر الفعل فصار المعنى : يوقعون الأثرة وهي اختيار{[63934]} الأشياء الحسنة لغيرهم تخصيصاً لهم بها لا على أحبائهم مثلاً بل { على أنفسهم } فيبذلون لغيرهم { كائناً{[63935]} } من كان ما في أيديهم ، وذكر النفس دليل على أنهم في{[63936]} غاية النزاهة من الرذائل لأن النفس إذا ظهرت كان القلب أطهر ، وأكد ذلك بقوله : { ولو كان } أي كوناً هو في غاية المكنة { بهم }{[63937]} أي خاصة لا بالمؤثر{[63938]} { خصاصة } أي فقر وخلل في الأحوال وحاجة شديدة تحيط بهم من كل جانب ، من خصائص البناء وهي{[63939]} فرجه .
ولما كان التقدير : فمن كان كذلك فهو من الصادقين : عطف عليه{[63940]} قوله : { ومن } ولما كان المقصود النزاهة عن الرذيلة من أي جهة كانت ، وكان علاج الرذائل صعباً جداً ، لا يطيقه الإنسان إلا بمعونة من الله شديدة ، بنى للمفعول{[63941]} قوله : { يوق شح نفسه } أي يحصل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس ، وقاية تحول بينه وبينها ، فلا يكون مانعاً لما عنده ، حريصاً على ما {[63942]}عند غيره{[63943]} حسداً ، قال ابن عمر رضي الله عنه : الشح أن تطمح عين الرجل فيما{[63944]} ليس له ، قال صلى الله عليه وسلم{[63945]} : " اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، حملهم{[63946]} على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " .
ولما كان النظر إلى{[63947]} التطهير من سفساف الأخلاق عظيماً ، سبب عنه إفهاماً لأنه{[63948]} لا يحصل ما سببه عنه بدونه قوله { فأولئك } : أي العالو المنزلة { هم } أي خاصة لا غيرهم { المفلحون * } أي{[63949]} الكاملون في الفوز بكل مراد ، قال القشيري : وتجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة{[63950]} والأكابر ، ومن أسرته{[63951]} الأخطار وبقي في شح نفسه فهو في مصارفة معاملته ومطالبة الناس في استيفاء حظه ، فليس له من مذاقات هذه الطريقة شيء .
وشرح الآية أن{[63952]} الأنصار كانوا لما قدم عليهم المهاجرون قسموا دورهم وأموالهم بينهم وبينهم ، فلما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير خطب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ما صنعوا بالمهاجرين من إنزالهم إياهم وأثرتهم على أنفسهم ، ثم قال " إن أحببتم{[63953]} قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليّ من بني النضير " ، وكان المهاجرون{[63954]} على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم ، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم ، فقال السعدان رضي الله عنهما : بل يقسم بين المهاجرين خاصة ويكونون في دورنا{[63955]} كما كانوا ، وقالت الأنصار : رضينا وسلمنا ، وفي رواية أنهم{[63956]} قالوا : اقسم فيهم{[63957]} هذه خاصة واقسم لهم{[63958]} من أموالنا ما شئت ، فنزلت{[63959]} { ويؤثرون على أنفسهم } - الآية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : جزاكم الله خيراً يا معشر الأنصار " ، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال العنزي : جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت *** بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا ولو أنا أمنا *** تلاقي الذي يلقون منا لملت{[63960]}
فهم لعمري الحقيقون باسم إخوان الصفا ، وخلان المروءة والوفاء ، والكرامة والاصطفا{[63961]} ، ورضي الله عنهم وعن تابعيهم من الكرام الخلفا والسادة والحنفا{[63962]} .
قوله : { والذين تبوّءو الدار والإيمان من قبلهم } التبوؤ معناه النزول . أي والذين سكنوا المدينة واتخذوها لهم منازل { والإيمان } منصوب بفعل مقدر . أي وقبلوا الإيمان{[4500]} وأخلصوا لله دينهم وإيمانهم . والمراد بهم الأنصار ، فهم الذين استوطنوا المدينة من قبل أن يهاجر إليها المؤمنون من أهل مكة . ثم وصف الله هؤلاء الأنصار بصفات مميزة ثلاث على سبيل الإطراء لهم والثناء عليهم بما هم أهله من الصدق والبر والسخاء وبذل العون والمساعدة لإخوانهم المهاجرين فقال : { يحبون من هاجر إليهم } أي أن الأنصار يحبون الذين أتوهم مهاجرين من مكة وقد تركوا وراءهم المال والأهل والوطن . فهم يحبونهم حبا خالصا لوجه الله وذلكم هو الحب الكريم الذي يخالج قلوب المؤمنين الصادقين وهم يحب بعضهم بعضا في الله .
وقال : { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } يعني لا يجد الأنصار وهم الذين نزلوا المدينة من قبل المهاجرين شيئا من الحسد في قلوبهم مما أعطي المهاجرون من الفيء ، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الفيء بين المهاجرين دون غيرهم من الأنصار باستثناء اثنين أعطاهما لفقرهما ، وقيل : باستثناء ثلاثة .
وقال : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان ربهم خصاصة } الخصاصة والخصاص بمعنى الفقر{[4501]} ، أي يقدمون الفقراء والمحاويج على حاجة أنفسهم { ولو كان بهم خصاصة } يعني ولو كان بهم حاجة أو فاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم . وقد روى الترميذي عن أبي هريرة : أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته : نوّمي الصّبية وأطفئي السراج وقرّبي للضيف ما عندك فنزلت هذه الآية { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } . وروي عن أبي هريرة أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى رجل من الأنصار رجلا من أهل الصّفّة فذهب به الأنصاري إلى أهله فقال للمرأة : هل من شيء ؟ قالت : لا ، إلا قوت الصبية . قال : فنوّميهم ، فإذا ناموا فأتيني فإذا وضعت فاطفيء السراج ، ففعلت ، وجعل الأنصاري يقدم إلى ضيفه ما بين يديه ، ثم غدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لقد عجب من فعالكما أهل السماء " ونزلت الآية{[4502]} .
تلك هي شيمة الإيثار المرغوب التي تتجلى في خلق المؤمنين الأتقياء الصادقين الذين أخلصوا دينهم لله وحده فغشي قلوبهم من برد اليقين ما كانوا به أوفياء مخلصين أبرار . إن هذه الفضلية الكريمة ، فضيلة الإيثار على النفس إنما تتجلى في خلق المسلمين الغيورين من الطيبين . أولئك الذين صنعهم الإسلام بعقيدته الراسخة السمحة ، وتشريعه الوارف المبارك .
إن ذلكم هو الإسلام العظيم الذي يصنع الإنسان الصالح الرفّاف ويخلق الحياة الكريمة الطاهرة الفضلى .
قوله : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } يوق ، من الوقاية والشح ، في اللغة بمعنى البخل من حرص{[4503]} . على أن المراد بالشح ههنا في قول العلماء أنه أكل أموال الناس بغير حق . قال ابن مسعود : الشح أن تأكل مال أخيك ظلما أو بغير حقه . وقيل : معناه الظلم . وقيل : ترك الفرائض وانتهاك المحارم . والأظهر من الآية أن المراد بالشح : الضّنّ بالخير وعدم أدائه في وجوهه كالزكاة والصدقة وقرى الضيف وغير ذلك من وجوه الأداء والبذل فيما ينفع الناس أو يدفع عنهم الكروب والحوائج . وفي الخبر عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " برئ من الشح من أدى الزكاة ، وقرى الضيف ، وأعطى في النائبة " : وفي التنديد بالشح روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " وروى عبد الله بن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفحش ، فإن الله لا يحب الفحش ، وإياكم والشح ، فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا " .
قوله : { فأولئك هم المفلحون } وهم الذين تبرأوا من ذميمة الشح فغلبوا ما أمرتهم به أنفسهم وخالفوا هواهم بإذن الله وتوفيقه فأولئك هم الظافرون الفائزون .