في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا} (22)

9

ثم تأتي صورة الإيمان الواثق المطمئن ؛ وصورة المؤمنين المشرقة الوضيئة ، في مواجهة الهول ، وفي لقاء الخطر . الخطر الذي يزلزل القلوب المؤمنة ، فتتخذ من هذا الزلزال مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين :

( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله . وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . .

لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة ؛ وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة ؛ وكان الفزع الذي لقوه من العنف ، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا ، كما قال عنهم أصدق القائلين : ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ) . .

لقد كانوا ناسا من البشر . وللبشر طاقة . لا يكلفهم الله ما فوقها . وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية ؛ وبشارة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لهم ، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق . . على الرغم من هذا كله ، فإن الهول الذي كان حاضرا يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم .

ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يحس حالة أصحابه ، ويرى نفوسهم من داخلها ، فيقول : " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع . يشرط له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الرجعة . أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة " . . ومع هذا الشرط بالرجعة ، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله في الجنة ، فإن أحدا لا يلبي النداء . فإذا عين بالاسم حذيفة قال : فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني ! . . ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة . .

ولكن كان إلى جانب الزلزلة ، وزوغان الأبصار ، وكرب الأنفاس . . كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله ؛ والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله ؛ والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن ؛ وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها . ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر . ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله ? ألا إن نصر الله قريب ) . . وها هم أولاء يزلزلون . فنصر الله إذن منهم قريب ! ومن ثم قالوا : ( هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله ) . . ( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . .

( هذا ما وعدنا الله ورسوله ) . . هذا الهول ، وهذا الكرب ، وهذه الزلزلة ، وهذا الضيق . وعدنا عليه النصر . . فلا بد أن يجيء النصر : ( وصدق الله ورسوله ) . . صدق الله ورسوله في الإمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها . . ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله : ( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . .

لقد كانوا ناسا من البشر ، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر ، وضعف البشر . وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ؛ ولا أن يخرجوا من إطار هذا الجنس ؛ ويفقدوا خصائصه ومميزاته . فلهذا خلقهم الله . خلقهم ليبقوا بشرا ، ولا يتحولوا جنسا آخر . لا ملائكة ولا شياطين ، ولا بهيمة ولا حجرا . . كانوا ناسا من البشر يفزعون ، ويضيقون بالشدة ، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة . ولكنهم كانوا - مع هذا - مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله ؛ و تمنعهم من السقوط ؛ وتجدد فيهم الأمل ، وتحرسهم من القنوط . . وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير .

وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور . علينا أن ندرك أنهم كانوا بشرا ، لم يتخلوا عن طبيعة البشر ، بما فيها من قوة و ضعف . وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان ، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء .

وحين نرانا ضعفنا مرة ، أو زلزلنا مرة ، أو فزعنا مرة ، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق . . فعلينا ألا نيأس من أنفسنا ، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا ؛ أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدا ! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية ! ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا ! هنالك العروة الوثقى . عروة السماء . وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة ، ونسترد الثقة والطمأنينة ، ونتخذ من الزلزال بشيرا بالنصر . فنثبت ونستقر ، ونقوى ونطمئن ، ونسير في الطريق . .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا} (22)

ولما أخبر عما حصل في هذه الوقعة{[55349]} من الشدائد الناشئة عن الرعب لعامة الناس ، وخص من بينهم المنافقين بما ختمه بالملامة في ترك التآسي بمن{[55350]} أعطاء الله قيادهم ، وأعلاه عليهم في الثبات والذكر ، وختم هذا الختم بما يثمر الرسوخ في الدين ، ذكر حال الراسخين في أوصاف الكمال المتأسين بالداعي ، المقتفين للهادي ، فقال عاطفاً على { هنالك ابتلي المؤمنون } : { ولما رأى المؤمنون } أي الكاملون في الإيمان { الأحزاب{[55351]} } الذين{[55352]} أدهشت رؤيتهم القلوب{[55353]} { قالوا } أي مع ما حصل لهم من الزلزال وتعاظم الأحوال : { هذا } أي الذي نراه من الهول { ما وعدنا } من تصديق دعوانا الإيمان بالبلاء والامتحان{[55354]} { الله } الذي له الأمر كله { ورسوله } المبلغ عنه في نحو{[55355]} قوله : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين {[55356]}خلوا من قبلكم }[ البقرة : 214 ] { أحسب الناس أن يتركوا }[ العنكبوت : 2 ] { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين{[55357]} جاهدوا منكم }[ التوبة : 16 ] وأمثال ذلك ، فسموا المس بالبأساء{[55358]} والضراء ، والابتلاء بالزلزال والأعداء ، وعداً{[55359]} لعلمهم بما لهم عليه عند الله ، ولا سيما في يوم الجزاء ، وما يعقبه من النصر ، عند اشتداد الأمر .

ولما كان هذا معناه التصديق ، أزالوا عنه احتمال أن يكون أمراً اتفاقياً ، وصرحوا به على وجه يفهم الدعاء بالنصر الموعود به في قولهم عطفاً على هذا : { وصدق } مطلقاً لا بالنسبة إلى مفعول معين{[55360]} { الله } الذي له صفات الكمال { ورسوله } الذي كماله من كماله ، أي ظهر صدقهما في عالم الشهادة في كل ما وعدا به من السراء والضراء مما رأيناه . وهما صادقان فيما غاب عنا مما وعدا به من نصر وغيره ، وإظهار الاسمين للتعظيم والتيمن بذكرهما .

ولما كان هذا قولاً يمكن أن يكون لسانياً{[55361]} فقط كقول المنافقين ، أكده لظن المنافقين ذلك ، فقال سبحانه شاهداً لهم : { وما زادهم } أي ما رأوه من أمرهم المرعب{[55362]} { إلا إيماناً } أي بالله ورسوله بقلوبهم ، وأبلغ سبحانه{[55363]} في وصفهم بالإسلام ، فعبر بصيغة التفعيل فقال : { وتسليماً } {[55364]}أي لهما بجميع جوارحهم{[55365]} في جميع القضاء والقدر ، وقد تقدم في قوله تعالى في سورة الفرقان{ ويجعل لك قصوراً }{[55366]}[ الفرقان : 10 ] ما هو من شرح هذا .


[55349]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الواقعة.
[55350]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بما.
[55351]:زيد في الأصل: ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[55352]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الذي.
[55353]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: العقول.
[55354]:زيد من ظ ومد.
[55355]:زيد من ظ وم ومد.
[55356]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[55357]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[55358]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالسراء.
[55359]:زيد من ظ وم ومد.
[55360]:زيد من ظ ومد.
[55361]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لسانا.
[55362]:في ظ ومد: المرغب.
[55363]:زيد في ظ: شاهدا.
[55364]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[55365]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[55366]:آية 10.