( فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم ، وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل : خمط وأثل وشيء من سدر قليل ) . .
أعرضوا عن شكر الله ، وعن العمل الصالح ، والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم ، فسلبهم سبب هذا الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه ، وأرسل السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه ، فحطم السد وانساحت المياه فطغت وأغرقت ؛ ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفت واحترقت . وتبدلت تلك الجنان الفيح صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة :
( وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل : خمط وأثل وشيء من سدر قليل ) . .
والخمط شجر الأراك أو كل شجر ذي شوك . والأثل شجر يشبه الطرفاء . والسدر النبق . وهو أجود ما صار لهم ولم يعد لهم منه إلا قليل !
ولما تسبب عن هذا الإنعام بطرهم الموجب لإعراضهم عن الشكر ، دل على ذلك بقوله : { فأعرضوا } ولما تسبب عن إعراضهم مقتهم ، بينه بقوله : { فأرسلنا } ودل على أنه إرسال عذاب بعد مظهر العظمة بأداة الاستعلاء فقال : { عليهم سيل العرم } أي سيح المطر الغالب المؤذي الشديد الكثير الحاد الفعل المتناهي في الأذى الذي لا يرده{[56646]} شيء ولا تمنعه حيلة بسد ولا غيره من العرامة ، وهي الشدة والقوة ، فأفسد عليهم جميع ما ينتفعون به ، قال أبو حيان{[56647]} : سلط الله عليهم الجرذ{[56648]} فاراً أعمى توالد فيه ، ويسمى الخلد ، فخرقه شيئاً بعد شيء ، فأرسل الله سيلاً في ذلك الوادي ، فحمل{[56649]} ذلك السد{[56650]} فروي أنه كان من العظم وكثرة{[56651]} الماء بحيث ملأ{[56652]} ما بين الجبلين ، وحمل الجنان{[56653]} وكثيراً{[56654]} من الناس ممن لم يمكنه الفرار . ولما غرق من غرق منهم ونجا من نجا ، تفرقوا وتمزقوا حتى ضربت العرب المثل بهم فقالوا : تفرقوا{[56655]} أيدي سبا وأيادي سبا{[56656]} ، والأوس والخزرج منهم ، وكان ذلك في الفترة التي بين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم { وبدلناهم بجنتيهم } أي جعلنا لهم بدلهما{[56657]} { جنتين } هما في غاية ما يكون من مضادة جنتيهم ، ولذلك فسرهما بقوله إعلاماً بإن إطلاق الجنتين عليهما مشاكلة لفظية للتهكم بهم : { ذواتي أكل } أي ثمر { خمط } وقراءة الجماعة{[56658]} بتنوين { أكل } أقعد في التهكم من قراءة أبي عمرو ويعقوب بالإضافة .
ولما كان الخمط مشتركاً بين البهائم والإنسان في الأكل والتجنب ، والله أعلم بما أراد منه ، لأنه ضرب من الإراك ، له ثمر يؤكل ، وكل شجرة مرة ذات شوك{[56659]} ، والحامض أو المر من كل شيء ، وكل نبت أخذ{[56660]} طعماً من مرارة حتى لا يؤكل ، ولا{[56661]} يمكن أكله ، وثمر يقال له {[56662]}فسوة الضبع{[56663]} على صورة الخشخاش ينفرك ولا ينتفع به ، والحمل القليل من كل شجر ، ذكر ما يخص البهائم التي بها قوام الإنسان فقال : { وأثل } أي و{[56664]} ذواتي أثل ، وهو شجر لا ثمر له ، نوع من الطرفاء ، ثم ذكر ما يخص الإنسان فقال : { وشيء من سدر } أي نبق { قليل * } وهذا يدل على أن غير السدر وهو{[56665]} ما لا منفعة فيه{[56666]} أو منفعته{[56667]} مشوبة بكدر أكثر من السدر ؛ وقال أبو حيان{[56668]} : إن الفراء فسر هذا السدر بالسمر ، قال : وقال الأزهري : السدر سدران : سدر لا ينتفع به ولا يصلح{[56669]} ورقه للغسول{[56670]} ، وله ثمرة عفصة لا تؤكل ، وهذا{[56671]} الذي يسمى الضال وسدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقة الغسول{[56672]} يشبه العناب{[56673]} . وقد سبق الوعد في البقرة{[56674]} ببيان مطلب{[56675]} ما يفيده دخول الجار مع مادة " بدل " فإن الحال يفترق فيها بين الإبدال والتبديل والاستبدال والتبدل وغير ذلك ، وهي كثرة الدور مشتبهة الأمر ، وقد حققها شيخنا محقق زمانه قاضي الشافعية بالديار المصرية شمس الدين{[56676]} محمد بن علي القاياتي{[56677]} رحمه الله فقال فيما علقته عنه وذكر أكثره في شرحه لخطبة المنهاج للنووي رحمه الله : اعلم أن هذه المادة - أعني{[56678]} الباء والدال واللام - مع هذا الترتيب قد يذكر معها المتقابلان فقط وقد يذكر معهما{[56679]} غيرهما ، وقد لا يكون كذلك ، فإن اقتصر عليهما فقد يذكران مع التبدل والاستبدال مصحوباً أحدهما بالباء كما في قوله تعالى أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير }{[56680]}[ البقرة : 61 ] وفي قوله تعالى :{ ومن يتبدل الكفر بالإيمان }[ البقرة : 108 ] الآية{[56681]} ، فتكون الباء داخلة على المتروك ويتعدى الفعل بنفسه للمقابل المتخذ ، وقد يذكران مع التبديل والإبدال وأحدهما مقرون بالباء ، فالباء داخلة على الحاصل ، ويتعدى الفعل بنفسه إلى المتروك ، نقل الأزهري عن ثعلب : بدلت الخاتم بالحلقة - إذا أذبته وسويته حلقة ، وبدلت الحلقة بالخاتم - إذا أذبتها وجعلتها خاتماً ، وأبدلت الخاتم بالحلقة - {[56682]}إذا نحيت{[56683]} هذا وجعلت هذه مكانه ، وحكى الهروي{[56684]} في الغريبين{[56685]} عن ابن عرفة يعني{[56686]} نفطويه أنه قال : التبديل : تغيير الشيء عن حاله ، والإبدال : جعل الشيء مكان آخر ، وتحقيقه أن معنى التبديل التغيير وإن لم يؤت ببدل كما ذكر في الصحاح وكما هو مقتضى كلام ابن عرفة ، فحيث ذكر المتقابلان وقيل{[56687]} : " بدلت هذا بذاك{[56688]} " رجع حاصل ذلك أنك أخذت ذاك وأعطيت هذا ، فإذا قيل : بدل الشيء بغيره ، فمعناه غير الشيء بغيره ، أي ترك الأول وأخذ الثاني ، فكانت الباء داخلة على المأخوذ {[56689]}لا المنحى{[56690]} ، ومعنى إبدال الشيء بغيره يرجع إلى تنحية{[56691]} الشيء وجعل غيره مكانه ، فكانت الباء داخلة على المتخذ مكان المنحى ، وللتبديل ولو مع الاقتصار على المتقابلين استعمال آخر ، يتعدى إلى المفعولين بنفسه كقوله تعالى{ أولئك يبدل الله سيآتهم حسنات }{[56692]}[ الكهف :81 ] { فأردنا أن يبدلها ربهما خيراً منه زكاة }{[56693]}[ الفرقان : 70 ] الآية{[56694]} بمعنى{[56695]} يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما{[56696]} بدل ما كان لهما خيراً وقد لا يذكر المذهوب كما في قوله تعالى :{ بدلناهم جلوداً غيرها }{[56697]}[ النساء : 56 ] ومعنى التبدل{[56698]} والاستبدال أخذ الشيء مكان غيره ، فإذا قلت : استبدلت هذا بذاك{[56699]} ، أو تبدلت هذا بذاك ، رجع حاصل ذلك أنك أخذت هذا وتركت ذاك ، وإن لم يقتصر عليهما بل ذكر معهما غيرهما وأحدهما مصحوب بالجارّ وذكر التبديل كما في قوله تعالى { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } تعدى الفعل بنفسه إلى المفعولين يعني إلى المفعول ذلك لأجله وإلى المأخوذ بنفسه ، وإلى المذهوب المبدل منه بالباء كما في " بدله بخوفه أمناً " ومعناه : أزال خوفه إلى الأمن ، وقد يتعدى إلى المذهوب والحالة هذه - بمن كما في " بدله من خوفه أمناً " وللتبديل أيضاً استعمال آخر يتعدى إلى مفعول واحد مثل : بدلت الشيء أي غيرته ، قال تعالى{ فمن بدله بعد ما سمعه }{[56700]}[ البقرة : 181 ] على أن{[56701]} ههنا ما يجب التنبه{[56702]} له وهو أن {[56703]}الشيء يكون{[56704]} مأخوذاً بالقياس والإضافة إلى شيء ، متروكاً بالقياس والإضافة إلى آخر ، كما إذا أعطى شخص شخصاً شيئاً وأخذ{[56705]} بدله منه ، فالشيء الأول مأخوذ للشخص الثاني ومتروك للأول ، والمقابل بالعكس فيصح أن يعبر بالتبدل{[56706]} والتبديل ، ويعتبر في كل منهما ما يناسبه ، والإشكال المقام قصدنا بعض الإطناب - انتهى {[56707]}والله أعلم{[56708]} .