ثم يذكر من صفات الله في هذا المقام الذي يوجه المؤمنين فيه إلى عبادة الله وحده ولو كره الكافرون . يذكر من هذه الصفات أنه سبحانه :
( رفيع الدرجات ذو العرش ، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) . .
فهو - سبحانه - وحده صاحب الرفعة والمقام العالي ، وهو صاحب العرش المسيطر المستعلي . وهو الذي يلقي أمره المحيي للأرواح والقلوب على من يختاره من عباده . وهذا كناية عن الوحي بالرسالة . ولكن التعبير عنه في هذه الصيغة يبين أولاً حقيقة هذا الوحي ، وأنه روح وحياة للبشرية ، ويبين ثانيا أنه يتنزل من علو على المختارين من العباد . . وكلها ظلال متناسقة مع صفة الله ( العلي الكبير ) . .
فأما الوظيفة البارزة لمن يختاره الله من عباده فيلقي عليه الروح من أمره ، فهي الإنذار :
وفي هذا اليوم يتلاقى البشر جميعاً . ويتلاقى الناس وأعمالهم التي قدموا في الحياة الدنيا . ويتلاقى الناس والملائكة والجن وجميع الخلائق التي تشهد ذلك اليوم المشهود وتلتقي الخلائق كلها بربها في ساعة الحساب فهو يوم التلاقي بكل معاني التلاقي .
{ يلقي الروح من أمره } : أي يلقي بالوحي من أمره على من يشاء من عباده .
{ لينذر يوم التلاق } : أي لينذر من يوحي إليه من البشر وهو الرسول يوم تلاقي أهل السماء وأهل الأرض وذلك يوم القيامة .
وقوله تعالى : { رفيع الدرجات ذو العرش } أي هو الله ذو الدرجات الرفيعة والعرش العظيم { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } أي يلقي بالوحي من أمره الذي يريد إنفاذه إلى خلقه على من يشاء من عباده ممن يصطفيهم وينبئهم من اجل أن ينذروا عباده يوم التلاقي وهو يم القيامة إذ يلتقي أهل الأرض بأهل السماء والمخلوقات بخالقهم وهو قوله { لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون } .
- تقرير النبوة ، وبيان الحكمة فيها وهي إنذار الناس من عذاب يوم القيامة حيث الناس بارزون لله لا يخفى على الله منهم شيء فيحاسبهم بعلمه وعدله فلا ينقضي نهار إلا وقد استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار اللهم أعذنا من نار جهنم .
ثم ذكر من جلاله وكماله ما يقتضي إخلاص العبادة له فقال : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } أي : العلي الأعلى ، الذي استوى على العرش واختص به ، وارتفعت درجاته ارتفاعًا باين به مخلوقاته ، وارتفع به قدره ، وجلت أوصافه ، وتعالت ذاته ، أن يتقرب إليه إلا بالعمل الزكي الطاهر المطهر ، وهو الإخلاص ، الذي يرفع درجات أصحابه ويقربهم إليه ويجعلهم فوق خلقه ، ثم ذكر نعمته على عباده بالرسالة والوحي ، فقال : { يُلْقِي الرُّوحَ } أي : الوحي الذي للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد ، فكما أن الجسد بدون الروح لا يحيا ولا يعيش ، فالروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح ، فهو تعالى { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ } الذي فيه نفع العباد ومصلحتهم .
{ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وهم الرسل الذين فضلهم الله واختصهم الله لوحيه ودعوة عباده .
والفائدة في إرسال الرسل ، هو تحصيل سعادة العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم ، وإزالة الشقاوة عنهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم ، ولهذا قال : { لِيُنْذِرَ } من ألقى الله إليه الوحي { يَوْمَ التَّلَاقِ } أي : يخوف العباد بذلك ، ويحثهم على الاستعداد له بالأسباب المنجية مما يكون فيه .
وسماه { يوم التلاق } لأنه يلتقي فيه الخالق والمخلوق والمخلوقون بعضهم مع بعض ، والعاملون وأعمالهم وجزاؤهم .
قوله تعالى : { ولو كره الكافرون رفيع الدرجات } رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة { ذو العرش } خالقه ومالكه { يلقي الروح } ينزل الوحي سماه وحياً ، لأنه تحيا به القلوب ، كما تحيا الأبدان بالأرواح { من أمره } قال ابن عباس : من قضائه . وقيل : من قوله ، وقال مقاتل : بأمره { على من يشاء من عباده لينذر } أي : لينذر النبي بالوحي { يوم التلاق } وقرأ يعقوب بالتاء ، أي : لتنذر أنت يا محمد يوم التلاقي يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض . وقال قتادة ، ومقاتل : يلتقي فيه الخلق والخالق ، قال ابن زيد : يتلاقى العباد ، وقال ميمون بن مهران : يلتقي الظالم والمظلوم ، والخصوم . وقيل : يلتقي العابدون والمعبودون ، وقيل : يلتقي فيه المرء مع عمله .
قوله تعالى : " رفيع الدرجات ذو العرش " " ذو العرش " على إضمار مبتدأ . قال الأخفش : ويجوز نصبه على المدح . ومعنى " رفيع الدرجات " أي رفيع الصفات . وقال ابن عباس والكلبي وسعيد بن جبير : رفيع السموات السبع . وقال يحيى بن سلام : هو رفعة درجة أوليائه في الجنة ف " رفيع " على هذا بمعنى رافع فعيل بمعنى فاعل . وهو على القول الأول من صفات الذات ، ومعناه الذي لا أرفع قدرا منه ، وهو المستحق لدرجات المدح والثناء ، وهي أصنافها وأبوابها لا مستحق لها غيره . قاله الحليمي . وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى والحمد لله . " ذو العرش " أي خالقه ومالكه لا أنه محتاج إليه . وقيل : هو من قولهم : ثل عرش فلان أي زال ملكه وعزه ، فهو سبحانه " ذو العرش " بمعنى ثبوت ملكه وسلطانه وقد بيناه في الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى .
" يلقي الروح " أي الوحي والنبوة " على من يشاء من عباده " وسمي ذلك روحا لأن الناس يحيون به ، أي يحيون من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح . وقال ابن زيد : الروح القرآن ، قال الله تعالى : " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " [ الشورى : 52 ] . وقيل : الروح جبريل ، قال الله تعالى : " نزل به الروح الأمين على قلبك " [ الشعراء : 193 ] وقال : " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " [ النحل : 102 ] . " من أمره " أي من قوله . وقيل : من قضائه . وقيل : " من " بمعنى الباء أي بأمره . " على من يشاء من عباده " وهم الأنبياء يشاء هو أن يكونوا أنبياء وليس لأحد فيهم مشيئة . " لينذر يوم التلاق " أي إنما يبعث الرسول لإنذار يوم البعث . فقوله : " لينذر " يرجع إلى الرسول . وقيل : أي لينذر الله ببعثه الرسل إلى الخلائق " يوم التلاق " . وقرأ ابن عباس والحسن وابن السميقع " لتنذر " بالتاء خطابا للنبي عليه السلام . " يوم التلاق " قال ابن عباس وقتاده : يوم تلتقي أهل السماء وأهل الأرض . وقال قتادة أيضا وأبو العالية ومقاتل : يلتقي فيه الخلق والخالق . وقيل : العابدون والمعبودون . وقيل : الظالم والمظلوم . وقيل : يلقى كل إنسان جزاء عمله . وقيل : يلتقي الأولون والآخرون على صعيد واحد ، روي معناه عن ابن عباس . وكله صحيح المعنى .
ولما كان الإخلاص لا يتأتى إلا ممن رفعه إشراق الروح عن كدورات الأجسام ، وطارت به أنوارها عن حضيض ظلمات الجهل إلى عرش العرفان ، فصار إذ كان الملك الديان سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها بمعنى أنه لا يفعل بشيء من هذه الجوارح إلا ما أمره به سبحانه يتصرف في الأكوان بإذن الفتاح العليم تكسب القلوب من ضياء أنواره ويحيى ميت الهمم بصافي أسراره ، نبه سبحانه على ذلك حثاً عليه وتشويقاً إليه بقوله ممثلاً بما يفهمه العباد مخبراً عن مبتدأ محذوف تقديره : هو { رفيع الدرجات } أي فلا يصل إلى حضرته الشماء إلا من علا في معارج العبادات ومدارج الكمالات .
ولما كنا لا نعرف ملكاً إلا بغلبته على سرير الملك ، وكانت درج كل ملك ما يتوصل بها إلى عرشه ، أشار سبحانه بجميع القلة إلى السماوات التي هي دون عرشه سبحانه ، ثم أشار إلى أن الدرج إليه لا تحصى بوجه ، لأنا لو أنفقنا عمر الدنيا في اصطناع درج للتوصل إلى السماء الدنيا ما وصلنا ، فكيف بما فوقها فكيف وعلوه سبحانه ، ليس هو بمسافة بل علو عظمة ونفوذ كلمة تنقطع دونها الآمال وتفنى الأيام والليال ، والكاشف لذلك أتم كشف تعبيره في { سأل } بصيغة منتهى الجموع { المعارج } - ثم قال ممثلاً لنا بما نعرف : { ذو العرش } أي الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو ، فهو محيط لجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان ، وعال بجلاله وعظمه عن كل ما يخطر في الأذهان .
ولما كان الملوك يلقون أوامرهم من مراتب عظمائهم إلى من أخلصوا في ودادهم قال : { يلقي الروح } أي الذي تحيى به الأرواح حياة الأشباح بالأرواح { من أمره } أي من كلامه ، ولا شك أن الذي يلقي ليس الكلام النفسي وإنما هو ما يدل عليه ، وهو الذي يقبل النزول والتلاوة والكتابة ونحو ذلك . ولما كان أمره عالياً على كل أمر ، أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال : { على من يشاء } ولما كان ما رأوه من الملوك لا يتمكنون من رفع كل من أرادوا من رقيقهم ، نبه على عظمته بقوله : { من عباده } وأشار بذلك مع الإشارة إلى أنه مطلق الأمر لا يسوغ لأحد الاعتراض عليه ، ولو اعترض كان اعتراضه أقل من أن يلتفت إليه أو يعول بحال عليه إلى توهية قولهم
{ أو أنزل عليه الذكر من بيننا }[ ص : 8 ] بأنه عليه السلام المخلص في عبادته لم يمل إلى شيء من أوثانهم ساعة ما ولا صرف لحظة عن الإله الحق طرفة عين ، فلذلك اختصه من بينهم بهذا الروح الذي لا روح في الوجود سواه ، فمن أقبل عليه وأخلص في تلاوته والعمل بما يدعو إليه والبعد عما ينهى عنه صار ذا روح موات يحيي الأموات ويزري بالنيرات . قال الرازي : قال ابن عطاء : حياة القلب على حسب ما ألقي إليه من الروح ، فمنهم من ألقي إليه روح الرسالة ، ومنهم من ألقي إليه من الروح ، فمنهم من ألقي إليه روح الرسالة ، ومنهم من ألقى إليه روح النبوة ، ومنهم من ألقي إليه روح الصديقية والكشف والمشاهدة ، ومنهم من ألقي إليه روح العلم والمعرفة ، ومنهم من ألقي إليه روح العبادة والخدمة ، ومنهم من ألقي إليه روح الحياة فقط ، ليس له علم بالله ولا مقام مع الله ، فهو ميت في الباطن ، وله الحياة البهيمية التي يهتدي بها إلى المعاش دون المعاد - انتهى . وبالجملة فكل من هذه الأرواح منطق لمن ألقي عليه مطلق للسانه ببديع بيانه وإن اختلف نطقهم في بيانهم ، وتصرفهم في عظيم شأنهم .
ولما بين سر اختصاصه بالإرسال لهذا النبي الكريم ، أتبع ذلك بما يزيده بياناً من ثمرة الإرسال فقال : { لينذر } أي الذي اختصه سبحانه بروحه ، وعبر بما يقتضيه تصنيف الناس الذي هو مقصود السورة من الاجتماع ، وأزال وهم من قد يستحيل لقاء سبحانه لرفعة درجاته وسفول درجات غيره { يوم التلاق * } أي الذي لا يستحق أن يوصف بالتلاقي على الحقيقة غيره لكونه يلتقي فيه الأولون والآخرون وأهل السماوات والأرض ولا حيلة لأحد منهم في فراق غريمه بغير فصل على وجه العدل ، وإلى هذا المعنى أشارت قراءة ابن كثير باثبات الياء في الحالين وهو واضح جداً في إفراد حزبي الأسعدين والأخسرين فإنه تلاق لا آخر له ، وأشارت قراءة الجمهور بالحذف في الحالين إلى تلاقي هذين الجزئين : أحدهما بالآخر فإنه - والله أعلم - قل ما يكون حتى يفترقا بالأمر بكل إلى داره : الأسعدين بغير حساب ، والأخسرين لا يقام لهم وزن ، وأشار الإثبات في الموقف دون الوصل إلى الأمر الوسط وهي لمن بقي فإن لقاءهم يمتد إلى حين القصاص لبعضهم من بعض .