ويمضي السياق خطوة أخرى في دستور الصدقة . ليبين نوعها وطريقتها ، بعد ما بين آدابها وثمارها :
( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، ومما أخرجنا لكم من الأرض ، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون . ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ، واعلموا أن الله غني حميد ) . .
إن الأسس التي تكشفت النصوص السابقة عن أن الصدقة تقوم عليها وتنبعث منها لتقتضي أن يكون الجود بأفضل الموجود ؛ فلا تكون بالدون والرديء الذي يعافه صاحبه ؛ ولو قدم إليه مثله في صفقة ما قبله إلا أن ينقص من قيمته . فالله أغنى عن تقبل الرديء الخبيث !
وهو نداء عام للذين آمنوا - في كل وقت وفي كل جيل - يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم . تشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب ، وما أخرجه الله لهم من الأرض من زرع وغير زرع مما يخرج من الأرض ويشمل المعادن والبترول . ومن ثم يستوعب النص جميع أنواع المال ، ما كان معهودا على عهد النبي [ ص ] وما يستجد . فالنص شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان . وكله مما يوجب النص فيه الزكاة . أما المقادير فقد بينتها السنة في أنواع الأموال التي كانت معروفة حينذاك . وعليها يقاس وبها يلحق ما يجد من أنواع الأموال .
وقد وردت الروايات بسبب لنزول هذه الآية ابتداء ، لا بأس من ذكره ، لاستحضار حقيقة الحياة التي كان القرآن يواجهها ؛ وحقيقة الجهد الذي بذله لتهذيب النفوس ورفعها إلى مستواه . .
روى ابن جرير - بإسناده - عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : " نزلت في الأنصار . كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الاسطوانتين في مسجد رسول الله [ ص ] فيأكل فقراء المهاجرين منه . فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع قناء البسر ، يظن أن ذلك جائز . فأنزل الله فيمن فعل ذلك : ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) . .
وكذلك رواه الحاكم عن البراء وقال : صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه .
ورواه ابن أبي حاتم - بإسناده عن طريق آخر - عن البراء - رضي الله عنه - قال : نزلت فينا . كنا أصحاب نخل ، فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته ، فيأتي رجل بالقنو ، فيعلقه في المسجد . وكان أهل الصفة ليس لهم طعام . فكان أحدهم إذا جاع جاء فضرب بعصاه ، فسقط منه البسر والتمر فيأكل ، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص ، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه ، فنزلت : ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ) . قال : لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء . فكنا بعد ذلك يجيء الرجلى منا بصالح ما عنده .
والروايتان قريبتان . وكلتاهما تشير إلى حالة واقعة في المدينة ؛ وترينا صفحة تقابل الصفحة الأخرى التي خطها الأنصار في تاريخ البذل السمح والعطاء الفياض . وترينا أن الجماعة الواحدة تكون فيها النماذج العجيبة السامقة ، والنماذج الأخرى التي تحتاج إلى تربية وتهذيب وتوجيه لتتجه إلى الكمال ! كما احتاج بعض الأنصار إلى النهي عن القصد إلى الرديء من أموالهم ، الذي لا يقبلونه عادة في هدية إلا حياء من رده ولا في صفقة إلا بإغماض فيه أي : نقص في القيمة ! بينما كانوا يقدمونه هم لله !
( واعلموا أن الله غني حميد ) . .
غني عن عطاء الناس إطلاقا . فإذا بذلوه فإنما يبذلونه لأنفسهم فليبذلوه طيبا ، وليبذلوه طيبة به نفوسهم كذلك .
حميد . . يتقبل الطيبات ويحمدها ويجزي عليها بالحسنى . .
ولكل صفة من الصفتين في هذا الموضع إيحاء يهز القلوب . كما هز قلوب ذلك الفريق من الأنصار فعلا . ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم . . . ) . . وإلا فالله غني عن الخبيث الذي تقصدون إليه فتخرجون من صدقاتكم ! بينما هو - سبحانه - يحمد لكم الطيب حين تجرحونه ويجزيكم عليه جزاء الراضي الشاكر . وهو الله الرازق الوهاب . . يجزيكم عليه جزاء الحمد وهو الذي أعطاكم إياه من قبل ! أي إيحاء ! وأي إغراء ! وأي تربية للقلوب بهذا الأسلوب العجيب !
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق - والمراد به الصدقة هاهنا ؛ قاله ابن عباس - من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها . قال مجاهد : يعني التجارة بتيسيره إياها لهم .
وقال علي والسدي : { مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم } يعني : الذهب والفضة ، ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض .
قال ابن عباس : أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ، ونهاهم عن التصدق بِرُذَالَةِ المال ودَنيه - وهو خبيثه - فإن الله طَيْب لا يقبل إلا طيبًا ، ولهذا قال : { وَلا تَيَمَّمُوا } أي : تقصدوا { الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } أي : لو أعطيتموه ما أخذتموه ، إلا أن تتغاضوا فيه ، فالله أغنى عنه منكم ، فلا تجعلوا لله ما تكرهون .
وقيل : معناه : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } أي : لا تعدلوا عن المال الحلال ، وتقصدوا إلى الحرام ، فتجعلوا نفقتكم منه .
ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا أبان بن إسحاق ، عن الصباح بن محمد ، عن مُرّة الهَمْداني ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا لمن أحبَّ ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده ، لا يسلم عَبْدٌّ حتى يُسلِمَ قلبُه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه " . قالوا : وما بوائقه يا نبي الله ؟ . قال : " غَشَمُه وظلمه ، ولا يكسب{[4452]} عبد مالا من حرام فينفقَ منه فيباركَ له فيه ، ولا يتصدقُ به فيقبل{[4453]} منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " {[4454]} .
والصحيح القول الأول ؛ قال ابن جرير : حدثني الحسين بن عمرو العَنْقَزيِّ ، حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدّي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب في قول الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } الآية . قال : نزلت في الأنصار ، كانت الأنصار إذا كان أيام جذَاذ النخل ، أخرجت من حيطانها أقناء البُسْر ، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل فقراء المهاجرين منه ، فيعْمد الرجل منهم إلى الحَشَف ، فيدخله مع أقناء البسر ، يظن أن ذلك جائز ، فأنزل الله فيمن فعل ذلك : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ }
ثم رواه{[4455]} ابن جرير ، وابن ماجه ، وابن مَرْدُوَيه ، والحاكم في مستدركه ، من طريق السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء ، بنحوه . وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه{[4456]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال : نزلت فينا ، كنا أصحاب نخل ، وكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته ، فيأتي الرجل بالقِنْو فيعلقه في المسجد ، وكان أهل الصفة {[4457]} ليس لهم طعام ، فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه ، فيسقط منه البسر والتمر ، فيأكل ، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقِنْو فيه الحَشَف والشِّيص ، ويأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه ، فنزلت : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال : لو أنّ أحدكم أهدي له مثل ما أعْطَى ما أخذه إلا على إغماض وحَياء ، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده .
وكذا رواه الترمذي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن عبيد الله - هو ابن موسى العبسي - عن إسرائيل ، عن السدي - وهو إسماعيل بن عبد الرحمن - عن أبي مالك الغفاري - واسمه غَزْوان - عن البراء ، فذكر نحوه{[4458]} .
ثم قال{[4459]} : وهذا حديث حسن غريب . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا سليمان بن كثير ، عن الزهري ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لونين من التمر : الجُعْرُور ولون الحُبَيق{[4460]} . وكان الناس يَتيمّمون شرار ثمارهم{[4461]} ثم يخرجونها في الصدقة ، فنزلت : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون }{[4462]} .
ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين ، عن الزهري [ به ]{[4463]} . ثم قال : أسنده أبو الوليد ، عن سليمان بن كثير ، عن الزهري ، ولفظه : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجُعْرُور ولون الحُبيق{[4464]} أن يؤخذا في الصدقة{[4465]} .
وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حُمَيد اليَحْصُبي ، عن الزهري ، عن أبي أمامة . ولم يقل : عن أبيه ، فذكر نحوه{[4466]} . وكذا رواه ابن وهب ، عن عبد الجليل .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن مَعْقل{[4467]} في هذه الآية : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون } قال : كسب المسلم لا يكون خبيثًا ، ولكن لا يصدّق بالحشف ، والدرهم الزّيف ، وما لا خير فيه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حماد - هو ابن أبي سليمان - عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فلم يأكله ولم ينه عنه . قلت : يا رسول الله ، نطعمه{[4468]} المساكين ؟ قال : " لا تطعموهم مما لا تأكلون " {[4469]} .
ثم رواه عن عفان{[4470]} عن حماد بن سلمة ، به . فقلت : يا رسول الله ، ألا أطعمه المساكين ؟ قال : " لا تطعموهم ما لا تأكلون " .
وقال الثوري : عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيه } يقول : لو كان لرجل على رجل ، فأعطاه ذلك لم يأخذه ؛ إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه رواه ابن جرير .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيه } يقول : لو كان لكم على أحد حق ، فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه . قال : فذلك قوله : { إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه ! !
رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وزاد : وهو قوله : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون } [ آل عمران : 92 ] . ثم روى من طريق العوفي وغيره ، عن ابن عباس نحو ذلك ، وكذا ذكر غير واحد .
قوله{[4471]} : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها ، وما ذاك إلا ليساوي الغني الفقير ، كقوله : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } [ الحج : 37 ] وهو غني عن جميع خلقه ، وجميع خلقه فقراء إليه ، وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه ، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب ، فليَعلمْ أن الله غني واسع العطاء ، كريم جواد ، سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرة من يقرض غَيْرَ عديم ولا ظلوم ، وهو الحميد ، أي : المحمود في جميع أفعاله وأقواله{[4472]} وشرعه وقدره ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 267 )
هذا الخطاب هو لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذه صيغة أمر من الإنفاق ، واختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق( {[2624]} ) ، الزكاة المفروضة أو التطوع ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين : هي في الزكاة المفروضة . نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد ، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر ، ودرهم زائف خير من تمرة( {[2625]} ) ، فالأمر على هذا القول للوجوب ، والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن بن أبي الحسن وقتادة ، أن الآية في التطوع ، وروى البراء بن عازب ، وعطاء بن أبي رباح ما معناه أن الأنصار كانوا أيام الجداد( {[2626]} ) يعلقون أقناء التمر في حبل بين أسطوانتين في المسجد فيأكل من ذلك فقراء المهاجرين فعلق رجل حشفاً فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «بئسما علق هذا » ، فنزلت الآية .
قال القاضي أبو محمد : والأمر على هذا القول على الندب ، وكذلك ندبوا إلى أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار ، والآية تعم الوجهين( {[2627]} ) ، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب ، وهؤلاء كلهم وجمهور المتأولين قالوا معنى { من طيبات } من جيد ومختار { ما كسبتم } ، وجعلوا { الخبيث } بمعنى الرديء والرذالة ، وقال ابن زيد معناه : من حلال ما كسبتم ، قال : وقوله : { ولا تيمموا الخبيت } أي الحرام .
قال القاضي أبو محمد : وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية لا من معناه في نفسه( {[2628]} ) ، وقوله : { من طيبات ما كسبتم } يحتمل أن لا يقصد به لا الجيد ولا الحلال ، لكن يكون المعنى كأنه قال : أنفقوا مما كسبتم ، فهو حض على الإنفاق فقط . ثم دخل ذكر الطيب تبييناً لصفة حسنة في المكسوب عاماً وتعديداً للنعمة كما تقول : أطعمت فلاناً من مشبع الخبز وسقيته من مروي الماء( {[2629]} ) ، والطيب على هذا الوجه يعم الجود والحل ، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال : ليس في مال المؤمن خبيث( {[2630]} ) ، و { كسبتم } معناه كانت لكم فيه سعاية ، إما بتعب بدن أو مقاولة في تجارة( {[2631]} ) ، والموروث داخل في هذا لأن غير الوارث قد كسبه( {[2632]} ) ، إذ الضمير في { كسبتم } إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين ، { ومما أخرجنا لكم من الأرض }( {[2633]} ) النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك ، و { تيمموا } معناه تعمدوا وتقصدوا ، يقال تيمم الرجل كذا وكذا إذا قصده ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ التي عِنْدَ ضَارِجٍ . . . يفيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِ( {[2634]} )
ومنه قول الأعشى : [ المتقارب ]
تَيَمَّمْتُ قَيْساً وَكَمْ دُونَهُ . . . مِنَ الأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ( {[2635]} )
ومنه التيمم الذي هو البدل من الوضوء عند عدم الماء ، وهكذا قرأ جمهور الناس وروى البزي عن ابن كثير تشديد التاء في أحد وثلاثين موضعاً أولها هذا الحرف( {[2636]} ) ، وحكى الطبري أن في قراءة عبد الله بن مسعود «ولا تؤموا الخبيث » من أممت إذا قصدت ، ومنه إمام البناء ، والمعنى في القراءتين واحد ، وقرأ الزهري ومسلم بن جندب( {[2637]} ) «ولا تُيمِّموا » بضم التاء وكسر الميم ، وهذا على لغة من قال : يممت الشيء بمعنى قصدته ، وفي اللفظ لغات ، منها أممت الشيء خفيفة الميم الأولى وأممته بشدها ويممته وتيممته ، وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ «ولا تؤمموا » بهمزة بعد التاء ، وهذه على لغة من قال أممت مثقلة الميم ، وقد مضى القول في معنى { الخبيث } وقال الجرجاني في كتاب نظم القرآن : قال فريق من الناس : إن الكلام تم في قوله : { الخبيث } ثم ابتدأ خبراً آخر في وصف الخبيث فقال : { منه تنفقون }( {[2638]} ) وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي ساهلتم .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع ، والضمير في { منه } عائد على { الخبيث } ، قال الجرجاني وقال فريق آخر : بل الكلام متصل إلى قوله { فيه } .
قال القاضي أبو محمد : فالضمير في { منه } عائد على { ما كسبتم } ، ويجيء { تنفقون } كأنه في موضع نصب على الحال ، وهو كقولك : إنما أخرج أجاهد في سبيل الله ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } فقال البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وغيرهم . معناه ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا بأن تساهلوا في ذلك ، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه ، أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم ، وقال الحسن بن أبي الحسن معنى الآية : لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع ، إلا أن يهضم لكم من ثمنه ، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة( {[2639]} ) وقال البراء بن عازب أيضاً : معناه ولستم بآخذيه لو أهدي إليكم { إلا أن تغمضوا } أي تستحيي من المهدي أن تقبل منه ما لا حاجة لك فيه ، ولا قدر له في نفسه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يشبه كون الآية في التطوع ، وقال ابن زيد معنى الآية : ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه( {[2640]} ) ، وقرأ جمهور الناس «إلا أن تُغْمِضوا » بضم التاء وسكون الغين وكسر الميم . وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففاً ، وروي عنه أيضاً «تُغْمِّضُوا » بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة ، وحكى مكي عن الحسن البصري «تغمَّضوا » مشددة الميم مفتوحة وبفتح التاء .
وقرأ قتادة بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففاً قال أبو عمرو معناه : إلا أن يغمض لكم .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذه اللفظة تنتزع إما من قول العرب أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز ، فمن ذلك قول الطرماح بن حكيم : [ الخفيف ]
لَمْ يَفُتنا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وللذُ . . . لِّ أُنَاسٌ يَرْضَونَ بالإغْمَاضِ( {[2641]} )
وإما أن تنتزع من تغميض العين لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عنه عينيه ومنه قول الشاعر :
إلى كم وكم أشياء منكمْ تريبني . . . أغمض عنها لست عنها بذي عمى
وهذا كالإغضاء عند المكروه ، وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية وأشار إليه مكي ، وإما من قول العرب أغمض الرجل إذا أتى غامضاً من الأمر كما تقول : أعمن إذا أتى عمان ، وأعرق إذا أتى العراق ، وأنجد ، وأغور ، إذا أتى نجداً والغور الذي هو تهامة ، ومنه قول الجارية : وإن دسر أغمض( {[2642]} ) فقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى التغميض العين لأن أغمض بمنزلة غمض وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضاً من التأويل والنظر في أخذ ذلك إما لكونه حراماً على قول ابن زيد ، وإما لكونه مهدياً أو مأخوذاً في دين على قول غيره ، وأما قراءة الزهري الأولى فمعناها تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم ، قال أبو عمرو معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان .
قال القاضي أبو محمد : وأما قراءته( {[2643]} ) الثانية فهذا مذهب أبي عمرو الداني فيها . ويحتمل أن تكون من تغميض العين . وأما قراءة قتادة فقد ذكرت تفسير أبي عمرو لها . وقال ابن جني : معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس ، وهذا كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محموداً إلى غير ذلك من الأمثلة ، ثم نبه تعالى على صفة الغنى أي لا حاجة به إلى صدقاتكم ، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر( {[2644]} ) ، و { حميد } معناه محمود في كل حال ، وهي صفة ذات .
إفضاء إلى المقصود وهو الأمرُ بالصدقات بعد أن قُدم بين يديه مواعظ وترغيبٌ وتحذير . وهي طريقة بلاغية في الخطابة والخِطاب . فربما قدموا المطلوب ثم جاؤوا بما يكسبه قبولاً عند السامعين ، وربما قدموا ما يكسب القبولَ قبل المقصود كما هنا . وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجُمل ، ونكتة ذلك أنّه قد شاع بين الناس الترغيب في الصدقة وتكرّر ذلك في نزول القرآن فصار غرضاً دينياً مشهوراً ، وكان الاهتمام بإيضاحه والترغيب في أحواله والتنفير من نقائصه أجدر بالبيان . ونظير هذا قول علي في خطبته التي خطبها حين دخل سُفيان الغَامِدي أحد قواد أهل الشام بلدَ الأنبار وهي من البلاد المطيعة للخليفة علي وقتلوا عاملها حسان بنَ حسان البَكري : « أما بعد فإنّ من تَرك الجهاد رغبةَ عنه ألبسه الله ثوبَ الذل ، وشملُه البلاء ، ودُيِّثَ بالصّغار ، وضرب على قلبه ، وسيم الخَسْفَ ، ومُنِع النِّصْف . ألاَ وإنِّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وقلتُ لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم ، فوالله ما غُزِي قوم في عُقْر دارهم إلاّ ذلوا ، فتواكلتم . هذا أخو غامد قد وردتْ خيلُه الأنباء » إلخ . وانظر كلمة « الجهاد » في هذه الخطبة فلعل أصلها القِتال كما يدل عليه قوله بعده إلى قتال هؤلاء فحَرفَها قاصِدٌ أو غَافِلٌ ولا إخالها تصدر عن علي رضي الله عنه .
والأمر يجوز أن يكون للوجوب فتكون الآية في الأمر بالزكاة ، أو للندب وهي في صدقة التطوّع ، أو هو للقدر المشترك في الطَلب فتشمل الزكاة وصدقة التطوّع ، والأدلة الأخرى تبيّن حكم كل . والقيد بالطَّيِّبَات يناسب تعميم النفقات .
والمراد بالطيّبات خيار الأموال ، فيطلق الطيِّب على الأحسن في صنفه . والكَسب ما يناله المرء بسعيه كالتجارة والإجارة والغنيمة والصيد . ويطلق الطيّب على المال المكتسب بوجه حلال لا يخالطه ظلم ولا غشّ ، وهو الطيّب عند الله كقول النبي صلى الله عليه وسلم " من تصدق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلاّ طيّباً تلقّاها الرحمن بيمينه " الحديث ، وفي الحديث الآخر : " إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً " . ولم يذكر الطيّبات مع قوله : { ومما أخرجنا لكم من الأرض } اكتفاء عنه بتقدم ذكره في قسيمه ، ويظهر أنّ ذلك لم يقيّد بالطيّبات لأنّ قوله : { أخرجنا لكم } أشعر بأنّه مما اكتسبه المرء بعمله بالحرث والغرس ونحو ذلك ، لأنّ الأموال الخبيثة تحصل غالباً من ظُلم الناس أو التحيّل عليهم وغشّهم وذلك لا يتأتّى في الثمرات المستخرجة من الأرض غالباً .
والمراد بما أخرج من الأرض الزروع والثمار ، فمنه ما يخرج بنفسه ، ومنه ما يعالج بأسبابه كالسقي للشجر والزرع ، ثم يخرجه الله بما أوجد من الأسباب العادية .
وبعض المفسرين عد المعادن داخلة في { ما أخرجنا لكم من الأرض } . وتجب على المعدن الزكاة عند مالك إذا بلغ مقدار النّصاب ، وفيه ربع العشر . وهو من الأموال المفروضة وليس بزكاة عند أبي حنيفة ، ولذلك قال فيه الخمس . وبعضهم عدّ الركاز داخلاً فيما أخرج من الأرض ولكنّه يخمس ، والحق في الحكم بالغنيمة عند المالكية . ولعلّ المراد بما كسبتم الأموال المزكّاة من العين والماشية ، وبالمخرج من الأرض الحبوب والثمار المزكّاة .
وقوله : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } أصل تيمّموا تتيمموا ، حذفت تاء المضارعة في المضارع وتَيمّم بمعنى قصد وعمد .
والخبيث الشديد سُوءاً في صنفه فلذلك يطلق على الحرام وعلى المستقذر قال تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] وهو الضدّ الأقصى للطيّب فلا يطلق على الرديء إلاّ على وجه المبالغة ، ووقوع لفظه في سياق النهي يفيد عموم ما يصدق عليه اللفظ .
وجملة { منه تنفقون } حال ، والجار والمجرور معمولان للحال قدماً عليه للدلالة على الاختصاص ، أي لا تقصدوا الخبيث في حال إلاّ تنفقوا إلاّ منه ، لأنّ محل النهي أن يخرج الرجل صدقته من خصوص رديء ماله . أما إخراجه من الجيدَ ومن الرديء فليس بمنهي لا سيما في الزكاة الواجبة لأنّه يخرج عن كل ما هو عنده من نوعه . وفي حديث « الموطأ » في البيوع " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عاملاً على صدقات خيبر فأتاه بتَمْر جَنيب فقال له : أكُلُّ تَمْرِ خيبر هكذا قال : لا ، ولكنّي أبيع الصاعين من الجَمْع بصاع من جنيب . فقال له : بع الجمع بالدّراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً " فدل على أنّ الصدقة تؤخذ من كل نصاب من نوعه ، ولكنّ المنهي عنه أن يخصّ الصدقة بالأصناف الرديئة . وأما في الحيوان فيؤخذ الوسط لتعذّر التنويع غالباً إلاّ إذا أكثر عدده فلا إشكال في تقدير الظرف هنا .
وقرأ الجمهور { تَيمّموا } بتاء واحدة خفيفة وصْلاً وابتداء ، أصله تَتيمّموا ، وقرأه البزي عن ابن كثير بتشديد التاء في الوصل على اعتبار الإدغام .
وقوله : { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } جملة حالية من ضمير تنفقون ويجوز أن يكون الكلام على ظاهره من الإخبار فتكون جملة الحال تعليلاً لنهيهم عن الإنفاق من المال الخبيث شرعاً بقياس الإنفاق منه على اكتسابه قياس مساواة أي كما تكرهون كسبه كذلك ينبغي أن تكرهوا إعطاءه . وكأنّ كراهية كسبه كانت معلومة لديهم متقرّرة في نفوسهم ، ولذلك وقع القياس عليها .
ويجوز أن يكون الكلام مستعملاً في النهي عن أخذ المال الخبيث ، فيكون الكلام منصرفاً إلى غرض ثانٍ وهو النهي عن أخذ المال الخبيث والمعنى لا تأخذوه ، وعلى كلا الوجهين هو مقتضٍ تحريم أخذ المال المعلومة حِرمته على من هو بيده ولا يُحلّه انتقاله إلى غيره .
والإغماض إطباق الجفن ويطلق مجازاً على لازم ذلك ، فيطلق تارة على الهناء والاستراحة لأنّ من لوازم الإغماض راحة النائم قال الأعشى :
عليكِ مثلُ الذي صَلِّيتِ فاغْتمضي *** جَفْناً فإنّ لِجَنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعَا
أراد فاهنئي . ويطلق تارة على لازمه من عدم الرؤية فيدل على التسامح في الأمر المكروه كقول الطرماح :
لم يَفُتْنا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وَللضّ *** يْمِ رجالٌ يَرْضَوْن بالإغماض
فإذا أرادوا المبالغة في التغافل عن المكروه الشديد قالوا أغمض عينه على قذى ؛ وذلك لأنّ إغماض الجفن مع وجود القذى في العين . لقصد الراحة من تحرّك القذى ، قال عبد العزيز بن زُرَارة الكَلاَئي{[195]} :
وأغْمَضْتُ الجُفُونَ على قَذَاها *** ولَمْ أسْمَعْ إلى قالٍ وقِيلِ
والاستثناء في قوله : { إلا أن تغمضوا فيه } على الوجه الأول من جعل الكلام إخباراً ، هو تقييد للنفي . وأما على الوجه الثاني من جعل النفي بمعنى النهي فهو من تأكيد الشيء بما يُشبه ضدّه أما لا تأخذوه إلاّ إذا تغاضيتم عن النهي وتجاهلتموه .
وقوله : { واعلموا أن الله غني حميد } تذييل ، أي غني عن صدقاتكم التي لا تنفع الفقراء ، أو التي فيها استساغة الحرام . حميد ، أي شاكر لمن تصدّق صدقة طيّبة . وافتتحه باعلموا للاهتمام بالخبر كما تقدم عند قوله تعالى : { واتقوا الله واعلوا أنكم ملاقوه } [ البقرة : 223 ] ، أو نُزِّل المخاطبون الذين نُهوا عن الإنفاق من الخبيث منزلة من لا يعلم أن الله غني فأعطوا لوجههِ ما يقبله المحتاج بكل حال ولم يعلموا أنّه يحمد من يعطي لوجهه من طيّب الكسب .
والغني الذي لا يحتاج إلى ما تكثر حاجة غالب الناس إليه ، ولِلَّهِ الغنى المطلق فلا يعطى لأجله ولامتثال أمره إلاّ خير ما يعطيه أحد للغَنِي عن المال .
والحميد من أمثلة المبالغة ، أي شديد الحَمد ؛ لأنه يثني على فاعلي الخيرات . ويجوز أن يكون المراد أنّه محمود ، فيكون حَميد بمعنى مفعول ، أي فتخلَّقُوا بذلك لأنّ صفات الله تعالى كمالات ، فكونوا أغنياء القلوب عن الشحّ محمودين على صدقاتكم ، ولا تعطوا صدقات تؤذن بالشحّ ولا تشكرون عليها .