في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبٗا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِينَ} (91)

65

فأما الذين لا يتوبون ولا يثوبون . الذين يصرون على الكفر ويزدادون كفرا . والذين يلجون في هذا الكفر حتى تفلت الفرصة المتاحة ، وينتهي أمد الاختبار ، ويأتي دور الجزاء . هؤلاء وهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة . ولن ينفعهم أن يكونوا قد أنفقوا ملء الأرض ذهبا فيما يظنون هم أنه خير وبر ، ما دام مقطوعا عن الصلة بالله . ومن ثم فهو غير موصول به ولا خالص له بطبيعة الحال . ولن ينجيهم أن يقدموا ملء الأرض ذهبا ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة . فقد أفلتت الفرصة وأغلقت الأبواب :

( إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون . إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به . أولئك لهم عذاب أليم . وما لهم من ناصرين ) . .

وهكذا يحسم السياق القضية بهذا التقرير المروع المفزع ، وبهذا التوكيد الواضح الذي لا يدع ريبة لمستريب .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبٗا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِينَ} (91)

قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا ابن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن قوما أسلموا ثم ارتدوا ، ثم أسلموا ثم ارتدوا ، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } هكذا رواه ، وإسناده جيد{[5285]} .

ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } أي : من مات على الكفر فلن يقبل منه خير{[5286]} أبدًا ، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قُرْبة ، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جُدْعان - وكان يُقْرِي الضيفَ ، ويَفُكُّ العاني ، ويُطعم الطعام - : هل ينفعه ذلك ؟ فقال :{[5287]} لا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ : رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتِي يوم الدِّينِ{[5288]} .

وكذلك لو افتدى بملء الأرض أيضا ذهبا ما قبل منه ، كما قال تعالى : { وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 123 ] ، [ وقال { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ } ] {[5289]} [ البقرة : 254 ] وقال : { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ } [ إبراهيم : 31 ] وقال { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 36 ] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } فعطف { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } على الأول ، فدل على أنه غيره ، وما ذكرناه أحسن من أن يقال : إن الواو زائدة ، والله أعلم . ويقتضي ذلك ألا ينقذه من عذاب الله شيء ، ولو كان قد أنفق مثل{[5290]} الأرض ذهبا ، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهبا ، بوَزْن جِبالها وتِلالها وتُرابها ورِمَالها وسَهْلها ووعْرِها وبَرِّها وبَحْرِها .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حجَّاج ، حدثني شُعْبَة ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأرْضِ مِنْ شَيْءٍ ، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ ؟ قَالَ : فَيَقُولُ : نَعَمْ . قَالَ : فَيَقُولُ : قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ أبيك آدَمَ ألا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا ، فَأَبَيْتَ إِلا أَنْ تُشْرِكَ " . وهكذا أخرجاه{[5291]} البخاري ، ومسلم{[5292]} .

طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح ، حدثنا حَمَّاد ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنزلَكَ ؟ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، خَيْرُ مَنزلٍ . فَيَقُولُ : سَلْ وَتَمَنَّ . فَيَقُولُ : مَا أَسْأَلُ وَلا أَتَمَنَّى إِلا أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ عَشْرَ مِرَار - لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ . وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنزلَكَ ؟ فَيَقُولُ : يا{[5293]} رَبِّ شَرُّ مَنزلٍ . فَيَقُولُ لَهُ : تَفْتَدِي{[5294]} مِني بِطِلاعِ الأرْضِ ذَهَبًا ؟ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، نَعَمْ . فَيَقُولُ : كَذَبْتَ ، قَدْ سَأَلْتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرَ فَلَمْ تَفْعَلْ ، فيُرَد{[5295]} إلى النَّارِ " {[5296]} .

ولهذا قال : { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } أي : وما لهم من أحد يُنْقِذهم من عذاب الله ، ولا يجيرهم من أليم عقابه .


[5285]:ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/258) وعزاه للبزار ثم قال في آخره: "هذا خطأ من البزار".
[5286]:في أ: "خيرا" وهو خطأ.
[5287]:في ر، أ: "قال".
[5288]:رواه مسلم في صحيحه برقم (214) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5289]:زيادة من جـ، ر، أ.
[5290]:في أ: "ملء".
[5291]:في أ، و: "أخرجه".
[5292]:المسند (3/127) وصحيح البخاري برقم (6538) وصحيح مسلم برقم (2805).
[5293]:في جـ، أ، و: "أي".
[5294]:في أ، و: "أتفتدي".
[5295]:في أ: "فرد".
[5296]:المسند (3/208).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبٗا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِينَ} (91)

وقوله تعالى : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار } الآية ، جزم للحكم على كل مواف على الكفر إلى يوم القيامة ، وقرأ عكرمة : «فلن نقبل » بنون العظمة «ملء الأرض » بالنصب ، و«الملء » ما شحن به الوعاء ، فهو بكسر الميم الاسم وبفتحها المصدر ، تقول ملأت الشيء أملؤه مَلأً والملء اسم ما ملأت به ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو السمال : «مل » دون همزة ، ورويت عن نافع و{ ذهباً } نصب على التمييز ، وقرأ ابن أبي عبلة : «ذهباً لو افتدى به » ، دون واو ، واختلف الناس في هذه الآية في قوله { ولو افتدى } فقال الطبري : هي متعلقة بمحذوف في آخر الكلام دل عليه دخول الواو ، كما دخلت في قوله { وليكون من الموقنين }{[3318]} لمتروك من الكلام ، تقديره ، وليكون من الموقنين أريناه ملكوت السماوات والأرض .

قال الفقيه الإمام : وفي هذا التمثيل نظر فتأمله ، وقال الزّجاج : المعنى : لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا «ولو أنفق ملء الأرض ذهباً ولو افتدى » أيضاً به في الآخرة لم يقبل منه ، قال : فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير ، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب .

قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا قول حسن : وقال قوم : الواو زائدة وهذا قول مردود ، ويحتمل أن يكون المعنى نفي القبول جملة على كل الوجوه ، ثم خص من تلك الوجوه أليقها وأحراها بالقبول ، كما تقول : أنا لا أفعل لك كذا بوجه ، ولو رغبت إليَّ ، وباقي الآية وعيد بيّن .


[3318]:- من الآية (75) من سورة الأنعام