ذلك القتل الخطأ . فأما القتل العمد ، فهو الكبيرة التي لا ترتكب مع إيمان ؛ والتي لا تكفر عنها دية ولا عتق رقبة ؛ وإنما يوكل جزاؤها إلى عذاب الله :
( من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه . وأعد له عذابا عظيمًا ) . .
إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب - بغير حق - ولكنها كذلك جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة ، التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم . إنها تنكر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها .
ومن ثم قرنت بالشرك في مواضع كثيرة ؛ واتجه بعضهم - ومنهم ابن عباس - إلى أنه لا توبة منها . . ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) . . فرجا للقاتل التائب المغفرة . . وفسر الخلود بأنه الدهر الطويل .
والذين تربوا في مدرسة الإسلام الأولى ، كانوا يرون قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم ، - قبل إسلامهم - يمشون على الأرض - وقد دخلوا في الإسلام - فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة . ولكنهم لا يفكرون في قتلهم . لا يفكرون مرة واحدة ؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشد الحالات وجدا ولذعا ومرارة . بل إنهم لم يفكروا في إنقاصهم حقا واحدا من حقوقهم التي يخولها لهم الإسلام .
ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ ، شرع في بيان حكم القتل العمد ، فقال : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ] }{[8016]} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم ، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله ، حيث يقول ، سبحانه ، في سورة الفرقان : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ [ وَلا يَزْنُونَ ]{[8017]} } الآية [ الفرقان : 68 ] وقال تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [ إلى أن قال :
{ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }{[8018]} [ الأنعام : 151 ] .
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا . من ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء " {[8019]} وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود ، من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال المؤمن مُعنقا{[8020]} صالحا ما لم يصب دما حراما ، فإذا أصاب دما حراما بَلَّح " {[8021]} وفي حديث آخر : " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم " {[8022]} وفي الحديث الآخر : " لو أجمع{[8023]} أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم ، لأكبهم الله في النار " {[8024]} وفي الحديث الآخر : " من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله " {[8025]} .
وقد كان ابن عباس ، رضي الله عنهما ، يرى أنه لا توبة للقاتل عمدا لمؤمن .
وقال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا مغيرة بن النعمان قال : سمعت ابن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة ، فَرَحَلْتُ إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [ خَالِدًا ]{[8026]} } هي آخر ما نزل{[8027]} وما نسخها شيء .
وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق ، عن شعبة ، به{[8028]} ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، عن ابن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن مغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في{[8029]} قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا } فقال : لم ينسخها شيء .
[ وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : قال عبد الرحمن بن أبزة : سئل ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا } فقال : لم ينسخها شيء ]{[8030]} وقال في هذه الآية : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ [ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] {[8031]} } [ الفرقان : 68 ] قال نزلت في أهل الشرك{[8032]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، حدثني سعيد بن جبير - أو حدثنى الحكم ، عن سعيد بن جبير - قال : سألت ابن عباس عن قوله [ تعالى ]{[8033]} { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ، ثم قتل مؤمنا متعمدا ، فجزاؤه جهنم ولا توبة له . فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من ندم .
حدثنا ابن حميد ، وابن وَكِيع قالا حدثنا جرير ، عن يحيى الجابر ، عن سالم بن أبي الجَعْد قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كُف بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ، ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال : { جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } قال : أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه ، وأنى له التوبة والهدى ؟ والذي نفسي بيده ! لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " ثكلته أمه ، قاتل مؤمن{[8034]} متعمدا ، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله ، تشخب أوداجه دمًا في قُبُل عرش الرحمن ، يلزم قاتله بشماله بيده الأخرى ، يقول : سل هذا فيم قتلني " {[8035]} ؟ وايم الذي نفس عبد الله بيده ! لقد أنزلت هذه الآية ، فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما نزل بعدها من برهان .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت يحيى بن المُجَبَّر يحدث عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ؛ أن رجلا أتاه فقال : أرأيت رجلا قتل رجلا متعمدا ؟ فقال : { جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ]{[8036]} } قال : لقد نزلت في آخر ما نزل ، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى ؟ قال : وأنى له بالتوبة . وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول : " ثكلته أمه ، رجل قتل رجلا متعمدا ، يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره - وآخذا رأسه بيمينه أو بشماله - تَشْخَب أوداجه دما من قبل العرش يقول : يا رب ، سل عبدك فيم قتلني ؟ " .
وقد رواه النسائي عن قتيبة{[8037]} وابن ماجه عن محمد بن الصباح ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمار الدُّهني ، ويحيى الجابر وثابت الثمالي{[8038]} عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ، فذكره{[8039]} وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة .
وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف : زيد بن ثابت ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعبيد بن عمر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم .
وفي الباب أحاديث كثيرة : من ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره : حدثنا دَعْلَج بن أحمد ، حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البُوشَنْجي وحدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إبراهيم بن فهد قالا حدثنا عبيد بن عبيدة ، حدثنا مُعْتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي عمرو بن شُرَحْبِيل ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة ، آخذًا رأسه بيده الأخرى فيقول : يا رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ " قال : " فيقول : قتلته لتكون العزة لك . فيقول : فإنها لي " . قال : " ويجيء آخر متعلقا بقاتله فيقول : رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ " قال : " فيقول قتلته لتكون العزة لفلان " . قال : " فإنها ليست له بؤْ بإثمه " . قال : " فيهوى في النار سبعين خريفا " .
وقد رواه عن النسائي ، عن إبراهيم بن المُسْتَمِرِّ العَوْفي ، عن عمرو بن عاصم ، عن معتمر بن سليمان ، به{[8040]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن أبي عون ، عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية ، رضي الله عنه ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " .
وكذا رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن صفوان بن عيسى ، به{[8041]} .
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا سَمُّوَيْه ، حدثنا عبد الأعلى بن مُسْهِر ، حدثنا صَدَقَةُ بن خالد ، حدثنا خالد بن دِهْقان ، حدثنا ابن أبي زكريا قال : سمعت أم الدرداء تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا ، أو من قتل مؤمنا متعمدا " .
وهذا غريب جدا من هذا الوجه . والمحفوظ حديث معاوية المتقدم{[8042]} فالله أعلم .
ثم روى ابن مَردويه من طريق بَقَيَّةَ بن الوليد ، عن نافع بن يزيد ، حدثني ابن جبير الأنصاري ، عن داود بن الحُصَين ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل مؤمنا متعمدا فقد كفر بالله عز وجل " .
وهذا حديث منكر أيضا ، وإسناده تُكُلم{[8043]} فيه جدا{[8044]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد قال : أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي ، فقال لنا : هلما فأنتما أشب شيئًا مني ، وأوعى للحديث مني ، فانطلق بنا إلى بِشْر بن عاصم - فقال له أبو العالية : حدث هؤلاء حديثك . فقال : حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية ، فأغارت على قوم ، فشد من القوم رجل ، فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه فقال الشاد من القوم : إني مسلم . فلم ينظر فيما قال ، فضربه فقتله ، فَنَمَى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا ، فبلغ القاتلَ . فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، إذ قال القاتلُ : والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل . قال : فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعمن قبله من الناس ، وأخذ في خطبته ، ثم قال أيضا : يا رسول الله ، ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل ، فأعرض عنه وعمن قبله من الناس ، وأخذ في خطبته ، ثم لم يصبر ، فقال الثالثة : والله يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل .
فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تُعْرف المساءةُ في وجهه ، فقال : " إن الله أبى على من قتل مؤمنا " ثلاثًا .
ورواه النسائي من حديث سليمان بن المغيرة{[8045]}
والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها : أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل ، فإن تاب وأناب وخشع وخضع ، وعمل عملا صالحا ، بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته .
قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ]{[8046]} . إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا [ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ]{[8047]} } [ الفرقان : 68 ، 69 ] وهذا خبر لا يجوز نسخه . وحمله على المشركين ، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر ، ويحتاج حمله إلى دليل ، والله أعلم .
وقال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ [ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ]{[8048]} } [ الزمر : 53 ] وهذا عام في جميع الذنوب ، من كفر وشرك ، وشك ونفاق ، وقتل وفسق ، وغير ذلك : كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه .
وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] . فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك ، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها ، لتقوية الرجاء ، والله أعلم .
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ، ثم سأل عالما : هل لي من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ! ثم أرشده إلى بلد يَعْبد الله فيه ، فهاجر إليه ، فمات في الطريق ، فقبضته ملائكة الرحمة . كما ذكرناه غير مرة ، إن{[8049]} كان هذا في بني إسرائيل فَلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى ؛ لأن الله وضع عنا الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة . فأما الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ]{[8050]} } فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف : هذا جزاؤه إن جازاه ، وقد رواه ابن مردويه مرفوعا ، من طريق محمد بن جامع العطار ، عن العلاء بن ميمون العنبري ، عن حجاج الأسود ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة مرفوعا ، ولكن لا يصح{[8051]} ومعنى هذه الصيغة : أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه ، وكذا كل وعيد على ذنب ، لكن قد يكون كذلك مُعَارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه ، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط . وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد ، والله أعلم بالصواب . وبتقدير دخول القاتل إلى النار ، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له ، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا{[8052]} ينجو به ، فليس يخلد فيها أبدًا ، بل الخلود هو المكث الطويل . وقد تواردت{[8053]} الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى ذرة{[8054]} من إيمان . وأما حديث معاوية : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " : " عسى " للترجي ، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا ينتفي وقوع ذلك في أحدهما ، وهو القتل ؛ لما ذكرنا من الأدلة . وأما من مات كافرا ؛ فالنص أنه لا يغفر له البتة ، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة ، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه ، والمغضوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك فلا بد من الطلابة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة ، وقد{[8055]} يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به{[8056]} الجنة ، أو يعوض الله المقتول من فضله بما يشاء ، من قصور الجنة ونعيمها ، ورفع درجته فيها ونحو ذلك ، والله أعلم .
ثم للقتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة{[8057]} أما [ في ]{[8058]} الدنيا فتسلط{[8059]} أولياء المقتول عليه ، قال الله تعالى : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ]{[8060]} } [ الإسراء : 33 ] ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا ، أو يعفوا ، أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثا : ثلاثون حِقَّة ، وثلاثون جَذْعَة ، وأربعون خَلِفَه{[8061]} كما هو مقرر{[8062]} في كتب الأحكام .
واختلف الأئمة : هل تجب عليه كفارة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ؟ على أحد القولين ، كما تقدم في كفارة الخطأ ، على قولين : فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون : نعم ، يجب{[8063]} عليه ؛ لأنه إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى . وطردوا هذا في كفارة اليمين الغَمُوس ، واعتضدوا بقضاء الصلوات المتروكة عمدا ، كما أجمعوا على ذلك في الخطأ .
قال أصحاب الإمام أحمد وآخرون : قتل العمد أعظم من أن يكفر ، فلا كفارة فيه ، وكذا اليمين الغموس ، ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين الصورتين وبين الصلاة المتروكة عمدا ، فإنهم يقولون : بوجوب قضائها وإن تركت عمدًا .
وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة ، عن الغَرِيف بن عياش ، عن واثلة بن الأسقع قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا : إن صاحبا لنا قد أوجب . قال : " فليعتق رقبة ، يفدي الله بكل عضو منها عضوا{[8064]} منه من النار " {[8065]} .
وقال أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة ، عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغَريف الديلمي قال : أتينا واثلة بن الأسقع الليثي فقلنا : حدثنا حديثا سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب ، فقال : " أعتقوا عنه ، يُعْتق الله بكل عضو منه عضوا{[8066]} منه من النار " .
وكذا رواه أبو داود والنسائي ، من حديث إبراهيم بن أبي عبلة ، به{[8067]} ولفظ أبي داود عن الغريف الديلمي{[8068]} قال : أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا : حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان . فغضب فقال : إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص ، قلنا : إنا أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب - يعني النار - بالقتل ، فقال : " أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار " {[8069]} .
{ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } لما فيه من التهديد العظيم . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . " لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدا " . ولعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه . والجمهور على أنه مخصوص بمن لم يتب لقوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب } ونحوه وهو عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة وغيره ، ويؤيده أنه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ولم يظهر قاتله ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدا ، أو المراد بالخلود المكث الطويل فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم .
هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل ، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس ، وإنّما أخّر لتهويل أمره ، فابتدأ بذكر قتْل الخطأ بعنوان قوله : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ } [ النساء : 92 ] .
والمتعمّد : القاصد للقتل ، مشتقّ من عَمَد إلى كذا بمعنى قَصد وذهب . والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلاّ وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تُزهق به الأرواح في متعارف الناس ، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء . ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء : القتل نوعان عمد وخطأ ، وهو الجاري على وفق الآية ، ومن الفقهاء من جعل نوعاً ثالثاً سمّاه شبه العمد ، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية ، إن صحّت فتأويلها متعيّن وتحمل على خصوص ما وردت فيه . وذكر ابن جرير والواحدي أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ مِقْيَساً بنَ صُبَابة{[217]} وأخاه هشام جاءا مسلمَين مهاجرين فوُجِد هشامٌ قتيلاً في بني النجّار ، ولم يُعرف قاتله ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء أخيه مِقْيَسٌ مائةٌ من الأبل ، دية أخيه ، وأرسل إليهم بذلك مع رجل من فهِر فلمّا أخَذ مقيس الإبلَ عدَا على الفهري فقتله ، واستاق الإبل ، وانصرف إلى مكة كافراً ، وأنشد في شأن أخيه :
قتلتُ به فهِراً وحَمَّلْتُ عقلَــه *** سُراة بني النجّار أرْبابَ فَارِع{[218]}
حلَلْتُ به وِتْري وأدركتُ ثأرتي *** وكنتُ إلى الأوثانِ أوّلَ راجع
وقد أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة ، فقتِل بسوق مكة .
وقوله : { خالداً فيها } مَحْمَلهُ عند جمهور علماء السنّة على طول المُكث في النار لأجل قتل المؤمن عمداً ، لأنّ قتل النفس ليس كفراً بالله ورسوله ، ولا خلودَ في النار إلاّ للكفر ، على قول علمائنا من أهل السنّة ، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث ، وهو استعمال عربي . قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر :
ونحن لديه نسأل الله خُلْدَه *** يَرُدّ مَلْكاً وللأرضِ عامِرا
ومحمله عند من يُكفّر بالكبائر من الخوارج ، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر ، على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة .
وكلا الفريقين متّفقون على أنّ التوبة تَرِد على جريمة قتل النفس عمداً ، كما تَرِد على غيرها من الكبائر ، إلاّ أنّ نَفراً من أهل السنّة شذّ شذوذاً بيّنا في محمل هذه الآية : فروي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس : أنّ قاتل النفس متعمّداً لا تقبل له توبة ، واشتهر ذلك عن ابن عباس وعُرف به ، أخذاً بهذه الآية ، وأخرج البخاري أنّ سعيد بن جبير قال : آيةٌ اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلتُ فيها إلى ابن عباس ، فسألتُه عنها ، فقال : نزلت هذه الآية { ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها } الآية .
هي آخر ما نزل وما نسخَها شيء ، فلم يأخذ بطريق التأويل . وقد اختلف السلف في تأويل كلام ابن عباس : فحمله جماعة على ظاهره ، وقالوا : إنّ مستنده أنّ هذه الآية هي آخر ما نزل ، فقد نَسخَت الآياتِ التي قبلها ، التي تقتضي عموم التوبة ، مثل قوله : { إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 116 ] ، فقاتل النفس ممن لم يشأ الله يغفر له ومثل قوله { واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } [ طه : 82 ] ، ومثل قوله : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلاّ مَن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } [ الفرقان : 68 ، 69 ] . والحقّ أنّ محلّ التأويل ليس هو تقدّمَ النزول أو تأخُّره ، ولكنّه في حمل مطلق الآية على الأدلّة التي قيّدت جميع أدلّة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة . فأمّا حكم الخلود فحمله على ظاهره أو على مجازه ، وهو طولُ المدّة في العقاب ، مسألة أخرى لا حاجة إلى الخوض فيها حين الخوضضِ في شأن توبة القاتل المتعمّد ، وكيف يُحرم من قبول التوبة ، والتوبةُ من الكفر ، وهو أعظمُ الذنوب مقبولة ، فكيف بما هو دونه من الذنوب .
وحمل جماعة مراد ابن عبّاس على قصد التهويل والزجر ، لئلاّ يجترىء الناس على قتل النفس عمداً ، ويرجون التوبة ، ويَعْضُدون ذلك بأنّ ابن عباس رُوي عنه أنّه جاءه رجل فقال : « ألِمَنْ قتل مؤمناً متعمّداً توبة » فقال : « لاَ إلاّ النار » ، فلمّا ذهب قال له جلساؤه « أهكذا كنت تفتينا فقد كنت تقول إنّ توبته مقبولة » فقال : « إنّي لأحْسِبُ السائل رجلاً مغضَباً يريد أن يقتل مؤمناً » ، قل : فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك . وكان ابن شهاب إذا سألَه عن ذلك من يَفْهَم مِنْه أنّه كان قَتل نفساً يقول له : « توبتُك مقبولة » وإذا سأله من لم يقتل ، وتوسّم من حاله أنّه يحاول قتلَ نفس ، قال له : لا توبةَ للقاتل .
وأقول : هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسّرين كما علمت ، وملاكه أنّ ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ ، فرأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره ، دون تأويل ، لشدّة تأكيده تأكيداً يمنع من حمل الخلود على المجاز ، فيُثبت للقاتل الخلودَ حقيقة ، بخلاف بقية آي الوعيد ، وكأنّ هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمةً أو منسوخة ، لأنّهم لم يجدوا مَلْجأ آخرَ يأوُون إليه في حملها على ما حُملت عليه آيات الوعيد : من محامِل التأويل ، أو الجمععِ بين المتعارضات ، فآووا إلى دَعوى نسخخِ نصّها بقوله تعالى في سورة الفرقان ( 68 ، 69 ) :
{ والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } إلى قوله { إلاّ من تاب } لأنّ قوله : ومن يفعل ذلك إمّا أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة ، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمداً أجدر ، وإمّا أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمداً مما عُدَّ معها . ولذا قال ابن عباس لسعيد بن جبير : إنّ آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء . ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا ، ثم أن يُطال وتتناقله الناس وتمرّ عليه القرون ، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة . وذهب فريق إلى الجواب بأنّها نُسخت بآية : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] ، بناء على أنّ عموم { من يشاء } نَسَخ خصوصَ القتل . وذهب فريق إلى الجواب بأنّ الآية نزلت في مِقْيَسٍ بن صُبابة ، وهو كافر فالخلود لأجل الكفر ، وهو جواب مبني على غلط لأنّ لفظ الآية عامّ إذ هو بصيغة الشرط فتعيّن أنّ « من » شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معيّن ؛ إلاّ عند من يرى أنّ سبب العامّ يخصّصه بسببه لا غيرُ ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه . وهذه كلّها ملاجىء لا حاجة إليها ، لأنّ آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها ، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به ، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها حتّى الكفر . على أنّ تأكيد الوعيد في الآية إنّما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيداً لا في تعيين المتوعّد به وهو الخلود . إذ المؤكّدات هنا مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّداً لمدلول الآخر بل إنّما أكَّدت الغرض . وهو الوعيد ، لا أنواعه . وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة . وهو الذي يتعيّن اللجأ إليه ، والتعويل عليه .