وإنه لقادر أن يأخذ الناس بظلمهم الذي يقع منهم ولو فعل لدمرها عليهم تدميرا ؛ ولكن حكمته اقتضت أن يؤخرهم إلى أجل . وهو العزيز الحكيم :
( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) . .
والله خلق هذا الخلق - البشري - وأنعم عليه بآلائه . وهو وحده الذي يفسد في الأرض ويظلم ، وينحرف عن الله ويشرك ؛ ويطغى بعضه على بعض ، ويؤذي سواه من الخلق . . والله بعد هذا كله يحلم عليه ويرأف به ، ويمهله وإن كان لا يهمله . فهي الحكمة تصاحب القوة ، وهي الرحمة تصاحب العدل . ولكن الناس يغترون بالإمهال ، فلا تستشعر قلوبهم رحمة الله وحكمته ، حتى يأخذهم عدله وقوته . عند الأجل المسمى الذي ضربه الله لحكمة ، وأمهلهم إليه لرحمة . ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) .
يخبر تعالى عن حلمه{[16494]} بخلقه مع ظلمهم ، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة ، أي : لأهلك جميع دواب الأرض تبعًا لإهلاك بني آدم ، ولكن الرب ، جل جلاله ، يحلم ويستر ، وينظر { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } ، أي : لا يعاجلهم بالعقوبة ؛ إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدًا .
قال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص أنه قال : كاد الجُعَل أن يعذب بذنب بني آدم ، وقرأ : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا{[16495]} مِنْ دَابَّةٍ }{[16496]} .
وكذا رَوَى الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عُبَيدة قال : قال عبد الله : كاد الجُعَل أن يهلك في جحره بخطيئة بني آدم .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي ، حدثنا محمد بن جابر الحنفي{[16497]} ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة قال : سمع أبو هريرة رجلا وهو يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه{[16498]} . قال : فالتفت إليه فقال : بلى والله ، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها [ هُزالا ]{[16499]} بظلم الظالم{[16500]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، أنبأنا الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله{[16501]} بن مسرح ، حدثنا سليمان{[16502]} بن عطاء ، عن مسْلَمة{[16503]} بن عبد الله ، عن عمه أبي مَشْجَعة بن رِبْعي ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله ، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة ، يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده ، فيلحقه دعاؤهم في قبره ، فذلك زيادة العمر " {[16504]} .
{ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } ، بكفرهم ومعاصيهم . { ما ترك عليها } ، على الأرض ، وإنما أضمرها من غير ذكر ؛ لدلالة الناس والدابة عليها . { من دابة } قط ، بشؤم ظلمهم . وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم ، أو من دابة ظالمة . وقيل : لو أهلك الآباء بكفرهم ، لم يكن الأبناء . { ولكن يؤخّرهم إلى أجل مسمى } ، سماه لأعمارهم ، أو لعذابهم كي يتوالدوا . { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } ، بل هلكوا ، أو عذبوا حينئذ لا محالة ، ولا يلزم من عموم الناس وإضافة الظلم إليهم ، أن يكونوا كلهم ظالمين ، حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؛ لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم ، وصدر عن أكثرهم .
وقوله : { ولو يؤاخذ الله الناس } الآية ، وآخذ هو تفاعل من أخذ ، كأن أحد المتواخذين يأخذ من الآخر ، إما بمعصية ، كما هي في حق الله تعالى ، أو بإذاية في جهة المخلوقين ، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء ، وهي لغتان واخذ وآخذ ، و { يؤاخذ } يصح أن يكون من آخذ ، وأما كونها من واخذ فبين ، والضمير في { عليها } عائد على الأرض ، وتمكن ذلك مع أنه لم يجر لها ذكر لشهرتها ، وتمكن الإشارة لها كما قال لبيد في الشمس :
حتى إذا ألقت يداً في كافر . . . وأجنَّ عورات البلاد ظلامُها{[7345]}
ومنه قول تعالى : { حتى توارت بالحجاب }{[7346]} [ ص : 32 ] ، ولم يجر للشمس ذكر ، وقوله : { من دابة } ، دخلت { من } ؛ لاستغراق الجنس ، وظاهر الآية أن الله تعالى أخبر أنه لو أخذ الناس بعقاب يستحقونه بظلمهم ، في كفرهم ومعاصيهم ، لكان ذلك العقاب يهلك منه جميع ما يدب على الأرض من حيوان ، فكأنه بالقحوط أو بأمر يصيبهم من الله تعالى ، وعلى هذا التأويل قال بعض العلماء : كاد الجُعَل{[7347]} أن يهلك بذنوب بني آدم ، ذكره الطبري ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الله تعالى ليهزل الحوت في الماء والطير في الهواء بذنوب العصاة »{[7348]} ، وسمع أبو هريرة رجلاً يقول : إن الظالم لا يهلك إلا نفسه ، فقال أبو هريرة : بلى إن الله ليهلك الحبارى في وكرها هزالاً{[7349]} بذنوب الظلمة ، وقد نطقت الشريعة في أخبارها بأن الله تعالى أهلك الأمم بريها وعاصيها بذنوب العصاة منهم ، وقالت فرقة : قوله : { من دابة } ، يريد من أولئك الظلمة فقط ، ويدل على هذا التخصيص ، أن الله لا يعاقب أحداً بذنب أحد ، واحتج بقول الله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى }{[7350]} [ الأنعام : 164 ] ، وهذا معنى آخر ، وذلك أن الله تعالى لا يجعل العقوبة تقصد أحداً بسبب إِذْنَاب غيره ، ولكن إذا أرسل عذاباً على أمة عاصية ، لم يمكن البري التخليص من ذلك العذاب ، فأصابه العذاب ، لا بأنه له مجازاة ، ونحو هذا قوله :
{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }{[7351]} [ الأنفال : 25 ] ، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال «نعم إذا كثر الخبث »{[7352]} ، ثم لا بد من تعلق ظلم ما بالأبرياء ، وذلك بترك التغير ومداهنة أهل الظلم ، ومداومة جوارهم ، و «الأجل المسمى » في هذه الآية هو بحسب شخص شخص ، وفي معنى الآية مع أمائرها اختصار وإيجاز .