في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا} (44)

40

ثم يرسم السياق للكون كله بما فيه ومن فيه مشهدا فريدا ، تحت عرش الله ، يتوجه كله إلى الله ، يسبح له ويجد الوسيلة إليه :

( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، إنه كان حليما غفورا ) . .

وهو تعبير تنبض به كل ذرة في هذا الكون الكبير ، وتنتفض روحا حية تسبح الله . فإذا الكون كله حركة وحياة ، وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة شجية رخية ، ترتفع في جلال إلى الخالق الواحد الكبير المتعال .

وإنه لمشهد كوني فريد ، حين يتصور القلب . كل حصاة وكل حجر . كل حبة وكل ورقة . كل زهرة وكل ثمرة . كل نبتة وكل شجرة . كل حشرة وكل زاحفة . كل حيوان وكل إنسان . كل دابة على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء . . ومعها سكان السماء . . كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه .

وإن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه ، وكلما همت يده أن تلمس شيئا ، وكلما همت رجله أن تطأ شيئا . . سمعه يسبح لله ، وينبض بالحياة .

( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) يسبح بطريقته ولغته ( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) لا تفقهونه لأنكم محجوبون بصفاقة الطين ، ولأنكم لم تتسمعوا بقلوبكم ، ولم توجهوها إلى أسرار الوجود الخفية ، وإلى النواميس التي تنجذب إليها كل ذرة في هذا الكون الكبير ، وتتوجه بها إلى خالق النواميس ، ومدبر هذا الكون الكبير .

وحين تشف الروح وتصفو فتتسمع لكل متحرك أو ساكن وهو ينبض بالروح ، ويتوجه بالتسبيح ، فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى ، وتدرك من أسرار هذا الوجود ما لا يدركه الغافلون ، الذين تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الخفية الساربة في ضمير هذا الوجود ، النابضة في كل متحرك وساكن ، وفي كل شيء في هذا الوجود .

( إنه كان حليما غفورا ) . . وذكر الحلم هنا والغفران بمناسبة ما يبدو من البشر من تقصير في ظل هذا الموكب الكوني المسبح بحمد الله ، بينما البشر في جحود وفيهم من يشرك بالله ، ومن ينسب له البنات ، ومن يغفل عن حمده وتسبيحه . والبشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد والمعرفة والتوحيد . ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر . ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم ويزجرهم ( إنه كان حليما غفورا ) .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا} (44)

يقول تعالى : تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن ، أي : من المخلوقات ، وتنزهه وتعظمه وتجِّلّه وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون ، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته :

فَفي كُلّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلى أنَّه واحد

كما قال : تعالى : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ{[17522]} مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * [ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ]{[17523]} } [ مريم : 90 - 92 ] .

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا مسكين{[17524]} ابن ميمون مؤذّن مسجد الرملة ، حدثنا عروة

ليلة أسري إلى المسجد الأقصى ، كان{[17525]} بين المقام وزمزم ، جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فطار به حتى بلغ السماوات السبع{[17526]} ، فلما رجع قال : سمعت تسبيحًا في السماوات العلى مع تسبيح كثير : سبحت السماوات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا سبحان العليّ الأعلى ، سبحانه وتعالى{[17527]} .

وقوله : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } أي : وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله{[17528]} { وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } أي : لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس ؛ لأنها بخلاف لغتكم . وهذا عام في الحيوانات{[17529]} والنبات والجماد ، وهذا أشهر القولين ، كما ثبت في صحيح البخاري ، عن ابن مسعود أنه قال : كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل{[17530]} .

وفي حديث أبي ذر : أن النبي{[17531]} صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات ، فسمع لهن تسبيح كحنين النحل ، وكذا يد أبي بكر وعمر وعثمان ، رضي الله عنهم [ أجمعين ]{[17532]} ، وهو حديث مشهور في المسانيد{[17533]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن لَهيعة ، حدثنا زَبَّان ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مَرّ على قوم وهم وقوف على دوابّ لهم ورواحل ، فقال لهم : " اركبوها سالمة ، ودعوها سالمة ، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق ، فرب مركوبة خير من راكبها ، وأكثر ذكرا لله منه " {[17534]} .

وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع ، وقال : " نقيقها تسبيح " {[17535]} .

وقال قتادة ، عن عبد الله بن بَابِي{[17536]} ، عن عبد الله بن عمرو : أن الرجل إذا قال : " لا إله إلا الله " ، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملا حتى يقولها . وإذا قال : " الحمد لله " فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها ، وإذا قال : " الله أكبر " فهي تملأ{[17537]} ما بين السماء والأرض ، وإذا قال : " سبحان الله " ، فهي صلاة الخلائق التي لم يَدْع الله أحدًا من خلقه إلا قَرّره بالصلاة والتسبيح . وإذا قال : " لا حول ولا قوة إلا بالله{[17538]} " ، قال : أسلم عبدي واستسلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، سمعت الصَّقْعَبَ بن زُهير [ يحدث ]{[17539]} عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيّ عليه جبة

من طيالسة مكفوفة{[17540]} بديباج - أو : مزورة بديباج - فقال : إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع ابن راع ، ويضع كل رأس ابن رأس . فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم مغضبًا ، فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه ، فقال : " لا أرى عليك ثياب من لا يعقل " . ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس فقال : " إن نوحًا ، عليه السلام ، لما حضرته الوفاة ، دعا ابنيه{[17541]} فقال : إني قاص عليكما الوصية : آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين : أنهاكما عن الشرك بالله والكبر ، وآمركما بلا إله إلا الله ، فإن السماوات والأرض وما بينهما لو وضعت في كفة الميزان ، ووضعت " لا إله إلا الله " في الكفة الأخرى ، كانت أرجح ، ولو أن السماوات والأرضِ كانتا{[17542]} حلقة ، فوضعت " لا إله إلا الله " عليهما لفصمتهما أو لقصمتهما . وآمركما بسبحان الله وبحمده ، فإنها صلاة كل شيء ، وبها يرزق كل شيء " {[17543]} .

ورواه الإمام أحمد ، أيضا ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، عن الصَّقْعَب{[17544]} بن زهير ، به أطول من هذا . تفرد به{[17545]} .

وقال ابن جرير : حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ ، حدثنا محمد بن يَعْلى ، عن موسى بن عبيدة ، عن زيد بن أسلم ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه{[17546]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه ؟ إن نوحا ، عليه السلام ، قال لابنه : يا بني ، آمرك أن تقول : " سبحان الله " ، فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق ، وبها يرزق الخلق ، قال الله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ }{[17547]} إسناده فيه ضعف ، فإن الرّبذي{[17548]} ضعيف عند الأكثرين .

وقال عكرمة في قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } قال : الأسطوانة تسبح ، والشجرة تسبح{[17549]} - الأسطوانة : السارية .

وقال بعض السلف : إن صرير الباب تسبيحه ، وخرير الماء تسبيحه ، قال الله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ }

وقال سفيان الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : الطعام يسبح .

ويشهد لهذا القول آية السجدة أول [ سورة ]{[17550]} الحج .

وقال آخرون : إنما يسبح ما كان فيه روح . يعنون من حيوان أو نبات .

وقال قتادة في قوله : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } قال : كل شيء فيه الروح يسبح من شجر{[17551]} أو شيء فيه .

وقال الحسن ، والضحاك في قوله : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } قالا كل شيء فيه الروح .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب قالا حدثنا جرير أبو الخطاب قال : كنا مع يزيد الرَّقاشي ، ومعه الحسن في طعام ، فقدموا الخوان ، فقال يزيد الرقاشي : يا أبا سعيد ، يسبح هذا الخِوَان ؟ فقال : كان يسبح مرة{[17552]} .

قلت : الخِوَان هو المائدة من الخشب . فكأن الحسن ، رحمه الله ، ذهب إلى أنه لما كان حيا فيه خضرة ، كان يسبح ، فلما قطع وصار خشبة يابسة انقطع تسبيحه . وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال : " إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير{[17553]} ، أما أحدهما فكان لا يَسْتَتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي{[17554]} بالنميمة " . ثم أخذ جريدة رطبة ، فشقها نصفين ، ثم غرز في كل قبر واحدة ، ثم قال : " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " . أخرجاه في الصحيحين{[17555]} .

قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء : إنما قال : " ما لم ييبسا " لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة ، فإذا يبسا انقطع تسبيحهما ، والله أعلم .

وقوله [ تعالى ]{[17556]} { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } أي : أنه [ تعالى ]{[17557]} لا يعاجل من عصاه بالعقوبة ، بل يؤجله وينظره ، فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر ، كما جاء في الصحيحين : " إن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته " . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }{[17558]} [ هود : 102 ]الآية ، و قال [ الله ]{[17559]} تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ الحج : 48 ] . ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان ، ورجع إلى الله وتاب إليه ، تاب عليه ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 110 ] .

وقال هاهنا : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } كما قال في آخر فاطر : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } إلى أن قال : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } [ فاطر : 41 - 45 ] .


[17522]:في ت، ف: "ينفطرن" وهو خطأ.
[17523]:زيادة من أ.
[17524]:في ت: "أن".
[17525]:في ت، ف، أ: "الأقصى، فلما رجع كان".
[17526]:في ت: "السبع السموات".
[17527]:المعجم الأوسط برقم (58) "مجمع البحرين" وقال " لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، تفرد به سعيد". وذكر الذهبي هذا الحديث في الميزان (4/101) في ترجمة مسكين بن أبي ميمون وقال: "منكر".
[17528]:في ف: "بحمده".
[17529]:في ت، ف: "الحيوان".
[17530]:صحيح البخاري برقم (3579).
[17531]:في ت، ف، أ: "أن رسول الله ".
[17532]:زيادة من ف.
[17533]:رواه أحمد في المسند (4/415).
[17534]:المسند (3/439).
[17535]:سنن النسائي (7/210) من حديث عبد الرحمن بن عثمان، رضي الله عنه.
[17536]:في ت: "باني"، وفي ف: "أبي".
[17537]:في ت: "الله أكبر ملأ".
[17538]:في أ: "بالله العلي العظيم".
[17539]:زيادة من ف، أ، والمسند.
[17540]:في ت، ف: "ملفوفة".
[17541]:في ت: "بنيه".
[17542]:في ت: "كانت".
[17543]:المسند (2/225).
[17544]:في ف: "الصعقب".
[17545]:المسند (2/169).
[17546]:في ف: "عنهما".
[17547]:تفسير الطبري (15/65).
[17548]:في ت: "الزيدي"، وفي ف: "الأودي".
[17549]:في ت، ف: "والشجر يسبح".
[17550]:زيادة من ف.
[17551]:في ف: "من شجرة".
[17552]:تفسير الطبري (15/65).
[17553]:في ت: "كثير".
[17554]:في ت: "وأما الآخر فيمشي"، وفي أ: "وكان الآخر يمشي".
[17555]:صحيح البخاري برقم (218) وصحيح مسلم برقم (292).
[17556]:زيادة من ت.
[17557]:زيادة من ت.
[17558]:صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما.
[17559]:زيادة من ف، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا} (44)

القول في تأويل قوله تعالى : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً * تُسَبّحُ لَهُ السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلََكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } .

وهذا تنزيه من الله تعالى ذكره نفسه عما وصفه به المشركون ، الجاعلون معه آلهة غيره ، المضيفون إليه البنات ، فقال : تنزيها لله وعلوّا له عما تقولون أيها القوم ، من الفرية والكذب ، فإن ما تضيفون إليه من هذه الأمور ليس من صفته ، ولا ينبغي أن يكون له صفة . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّا كَبِيرا يسبح نفسه إذ قيل عليه البهتان . وقال تعالى : عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّا ولم يقل : تعاليا ، كما قال : وَتَبَتّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً كما قال الشاعر :

أنْتَ الفِدَاءُ لكَعْبَةٍ هَدّمْتَها *** ونَقَرْتَها بيَدَيْكَ كُلّ مَنَقّرِ

مُنِعَ الحَمامُ مَقِيلَهُ مِنْ سَقْفِها *** ومِنَ الحَطِيمِ فَطارَ كُلّ مُطَيّرِ

وقوله : تُسَبّحُ لَهُ السّمَواتُ السّبْعُ والأرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ يقول : تنزّه الله أيها المشركون عما وصفتموه به إعظاما له وإجلالاً ، السموات السبع والأرض ، ومن فيهنّ من المؤمنين به من الملائكة والإنس والجنّ ، وأنتم مع إنعامه عليكم ، وجميل أياديه عندكم ، تفترون عليه بما تَفْتَرون .

وقوله : وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ يقول جلّ ثناؤه : وما من شيء من خلقه إلا يسبح بحمده ، كما :

حدثني به نصر بن عبد الرحمن الأَوْدِيّ ، قال : حدثنا محمد بن يعلَى ، عن موسى بن عبيدة ، عن زيد بن أسلم ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ أمَرَ بِهِ نُوحٌ ابْنَهُ ؟ إنّ نُوحا قالَ لاِبْنِهِ يا بُنَيّ آمُرُكَ أنْ تَقُولَ سُبْحانَ اللّهِ وبِحَمْدِهِ فإنّها صَلاةُ الخَلْقِ ، وَتَسْبِيحُ الخَلْقِ ، وبِها تُرْزَقُ الخَلْقُ ، قالَ اللّهُ وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عيسى بن عبيد ، قال : سمعت عكرمة يقول : لا يَعِيبنّ أحدكم دابته ولا ثوبه ، فإن كلّ شيء يسبح بحمده .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ قال : الشجرة تسبح ، والأُسْطوانة تسبح .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب ، قالا : حدثنا جرير أبو الخطاب ، قال : كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في طعام ، فقدّموا الخوان ، فقال يزيد الرقاشي : يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان : فقال : كان يسبح مرّة .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، ويونس ، عن الحسن أنهما قالا في قوله : وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّح بِحَمْدِهِ قالا : كلّ شيء فيه الروح .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : الطعام يسبح .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ قال : كلّ شيء فيه الروح يسبح ، من شجر أو شيء فيه الروح .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبد الله بن أبيَ ، عن عبد الله بن عمرو ، أن الرجل إذا قال : لا إله إلا الله ، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملاً حتى يقولها ، فإذا قال الحمد لله ، فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قطّ حتى يقولها : فإذا قال الله أكبر ، فهي تملأ ما بين السماء والأرض ، فإذا قال سبحان الله ، فهي صلاة الخلائق التي لم يَدْعُ اللّهَ أحد من خلقه إلا نوّره بالصلاة والتسبيح ، فإذا قال لا حول ولا قوّة إلا بالله ، قال : أسلم عبدي واستسلم .

وقوله : ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ يقول تعالى ذكره : ولكن لا تفقهون تسبيح ما عدا تسبيح من كان يسبح بمثل ألسنتكم إنّهُ كانَ حَلِيما يقول : إن الله كان حليما لا يعجل على خلقه ، الذين يخالفون أمره ، ويكفرون به ، ولولا ذلك لعاجل هؤلاء المشركين الذين يدعون معه الاَلهة والأنداد بالعقوبة غَفُورا يقول : ساترا عليهم ذنوبهم ، إذا هم تابوا منها بالعفو منه لهم ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّهُ كانَ حَلِيما عن خلقه ، فلا يعجل كعجلة بعضهم على بعض غَفُورا لهم إذا تابوا .