وعلى أية حال فقد أعلنه موسى - عليه السلام - بالطرد من جماعة بني إسرائيل . مدة حياته . ووكل أمره بعد ذلك إلى الله . وواجهه بعنف في أمر إلهه الذي صنعه بيده . ليرى قومه بالدليل المادي أنه ليس إلها فهو لا يحمي صانعه ، ولا يدفع عن نفسه :
( قال : فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول : لا مساس . وإن لك موعدا لن تخلفه . وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا ، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ) . .
اذهب مطرودا لا يمسك أحد لا بسوء ولا بخير ولا تمس أحدا - وكانت هذه إحدى العقوبات في ديانة موسى . عقوبة العزل ، وإعلان الدنس المدنس فلا يقربه أحد ولا يقرب أحدا -
أما الموعد الآخر فهو موعد العقوبة والجزاء عند الله . . وفي حنق وعنف أمر أن يهوى على عجل الذهب ، فيحرق وينسف ويلقى في الماء . والعنف إحدى سمات موسى - عليه السلام - وهو هنا غضبة لله ولدين الله ، حيث يستحب العنف وتحسن الشدة .
{ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ } أي : كما أخذت ومَسَسْتَ ما لم يكن أخذه ومسه من أثر الرسول ، فعقوبتك في الدنيا أن تقول : " لا مساس " أي : لا تماسّ الناس ولا يمسونك .
{ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا } أي : يوم القيامة ، { لَنْ تُخْلَفَهُ } أي : لا محيد لك عنه .
وقال قتادة : { أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ } قال : عقوبة لهم ، وبقاياهم اليوم يقولون : لا مساس .
وقوله : { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ } قال الحسن ، وقتادة ، وأبو نَهِيك : لن تغيب عنه .
وقوله : { وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ } أي : معبودك ، { الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا } أي : أقمت على عبادته ، يعني : العجل { لنحرقنه } قال الضحاك عن ابن عباس ، والسدي : سَحَله{[19483]} بالمبارد ، وألقاه على النار .
وقال قتادة : استحال العجل من الذهب لحمًا ودمًا ، فحرقه بالنار ، ثم ألقاه ، أي : رماده{[19484]} في البحر ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا } .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، أنبأنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمارة بن{[19485]} عبد وأبي عبد الرحمن ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : إن موسى لما تعجل إلى ربه ، عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل ، ثم صوره عجلا قال : فعمد موسى إلى العجل ، فوضع عليه المبارد ، فبرّده بها ، وهو على شط نهر ، فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب . فقالوا لموسى : ما توبتنا{[19486]} ؟ قال : يقتل بعضكم بعضًا .
وهكذا قال السدي : وقد تقدم في تفسير سورة " البقرة " ثم في حديث " الفتون " بسط ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً لّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَىَ إِلََهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لّنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً * إِنّمَآ إِلََهُكُمُ اللّهُ الّذِي لآ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلّ شَيْءٍ عِلْماً } .
يقول تعالى ذكره : قال موسى للسامريّ : فاذهب فإن لك في أيام حياتك أن تقول : لامساس : أي لا أمسّ ، ولا أُمسّ . . وذُكر أن موسى أمر بني إسرائيل أن لا يؤاكلوه ، ولا يخالطوه ، ولا يبايعوه ، فلذلك قال له : إن لك في الحياة أن تقول لامساس ، فبقي ذلك فيما ذكر في قبيلته ، كما :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان والله السامريّ عظيما من عظماء بني إسرائيل ، من قبيلة يقال لها سامرة ، ولكن عدوّ الله نافق بعد ما قطع البحر مع بني إسرائيل . قوله : " فاذْهَبْ فإنّ لَكَ فِي الحَياةِ أنْ تَقولَ لامِساسَ " فبقاياهم اليوم يقولون لامساس .
وقوله : " وَإنّ لَكَ مَوْعِدا لَنْ تُخْلَفَهُ " اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة " لَنْ تُخْلَفَهُ " بضم التاء وفتح اللام بمعنى : وإن لك موعدا لعذابك وعقوبتك على ما فعلت من إضلالك قومي حتى عبدوا العجل من دون الله ، لن يخلفكه الله ، ولكن يذيقكه . وقرأ ذلك الحسن وقَتادة وأبو نهيك : «وَإنّ لَكَ مَوْعِدا لَنْ تُخْلِفَهُ » بضمّ التاء وكسر اللام ، بمعنى : وإن لك موعدا لن تخلفه أنت يا سامريّ ، وتأوّلوه بمعنى : لن تغيب عنه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نهيك يقرأ «لَن تُخْلِفَهُ أنْتَ » يقول : لن تغيب عنه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " وَإنّ لَكَ مَوْعِدا لَنْ تُخْلِفَهُ " يقول : لن تغيب عنه .
قال أبو جعفر : والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، لأنه لا شكّ أن الله موف وعده لخلقه بحشرهم لموقف الحساب ، وأن الخلق موافون ذلك اليوم ، فلا الله مخلفهم ذلك ، ولا هم مخلفوه بالتخلف عنه ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب في ذلك .
وقوله : " وَانْظُرْ إلى إلهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفا " يقول : وانظر إلى معبودك الذي ظلت عليه مقيما تعبده ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفا " الذي أقمت عليه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : فقال له موسى : " انْظُرْ إلى إلهِكَ الّذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفا " يقول : الذي أقمت عليه . وللعرب في ظلت : لغتان : الفتح في الظاء ، وبها قرأ قرّاء الأمصار ، والكسر فيها وكأن الذين كسروا نقلوا حركة اللام التي هي عين الفعل من ظللت إليها ، ومن فتحها أقرّ حركتها التي كانت لها قبل أن يحذف منها شيء ، والعرب تفعل في الحروف التي فيها التضعيف ذاك ، فيقولون في مَسِسْت ومِسْت وفي هممت بذلك : همت به ، وهل أحست فلانا وأحسسته ، كما قال الشاعر :
خَلا أنّ العِتاقَ مِنَ المَطايا *** أحَسْنَ بِهِ فَهُنّ إلَيْهِ شُوسُ
وقوله : " لَنُحَرَقَنّهُ " اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرْاء الحجاز والعراق " لَنُحَرّقَنّهُ " بضم النون وتشديد الراء ، بمعنى لنحرقنه بالنار قطعة قطعة . ورُوي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك : «لَنُحْرِقَنّهُ » بضم النون ، وتخفيف الراء ، بمعنى : لنحرقنه بالنار إحراقة واحدة ، وقرأه أبوجعفر القارىء : «لَنَحْرُقَنّهُ » بفتح النون وضم الراء بمعنى : لنبردنه بالمبارد من حرقته أحرقه وأحرّقه ، كما قال الشاعر :
بِذِي فِرْقَيْنِ يَوْمَ بَنُو حُبَيْبٍ *** نُيُوَبهُمُ عَلَيْنا يَحْرُقُونا
والصواب في ذلك عندنا من القراءة " لَنُحَرّقَنّهُ " بضم النون وتشديد الراء ، من الإحراق بالنار ، كما :
حدثني عليّ قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " لَنُحَرّقَنّهُ " يقول : بالنار .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس " لَنُحَرّقَنّهُ " فحرّقه ثم ذراه في اليم .
وإنما اخترت هذه القراءة لإجمال الحجة من القرّاء عليها . وأما أبو جعفر ، فإني أحسبه ذهب إلى ما :
حدثنا به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ : " وَانْظُرْ إلى إلهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفا لَنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنْسِفَنّهُ فِي اليَمّ نَسْفا " ثم أخذه فذبحه ، ثم حرقه بالمبرد ، ثم ذراه في اليم ، فلم يبق بحر يومئذٍ إلا وقع فيه شيء منه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " وَانْظُرْ إلى إلهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفا لَنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنْسِفَنّهُ فِي اليَمّ نَسْفا " قال : وفي بعض القراءة : لنذبحنه ثم لنحرقنه ، ثم لننسفنه في اليمّ نسفا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في حرف ابن مسعود : «وَانْظُرْ إلى إلهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفا لَنذْبَحَنّهُ ثُمّ لَنُحْرِقَنّهُ ثُمّ لَنَنْسِفَنّهُ فِي اليمّ نَسْفا » .
وقوله : " ثُمّ لَنَنْسِفَنّهُ فِي اليَمّ نَسْفا " يقول : ثم لنذرّينه في البحر تذرية يقال منه : نسف فلان الطعام بالمنسف : إذا ذراه فطير عنه قشوره وترابه باليد أو الريح . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل : ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " ثُمّ لَنَنْسِفَنّهُ فِي الَيمّ نَسْفا " يقول : لنذرينه في البحر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : ذراه في اليمّ ، واليمّ : البحر .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذراه في اليم .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في اليمّ ، قال : في البحر .