ومن التكريم أن يكون الإنسان قيما على نفسه ، محتملا تبعة اتجاهه وعمله . فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنسانا . حرية الاتجاه وفردية التبعة . وبها استخلف في دار العمل . فمن العدل أن يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب :
( يوم ندعو كل أناس بإمامهم . فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ) .
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا . .
وهو مشهد يصور الخلائق محشورة . وكل جماعة تنادي بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته ، أو الرسول الذي اقتدت به ، أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا . تنادي ليسلم لها كتاب عملها وجزائها في الدار الآخرة . . فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاه ، ويوفى أجره لا ينقص منه شيئا ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة !
يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة : أنه يحاسب كل أمة بإمامهم .
وقد اختلفوا في ذلك ، فقال مجاهد وقتادة : أي بنبيهم . وهذا كقوله : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [ يونس : 47 ] .
وقال بعض السلف : هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث ؛ لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن زيد : بكتابهم الذي أنزل على نبيهم ، من التشريع .
واختاره ابن جرير ، وروي عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أنه قال : بكتبهم . فيحتمل أن يكون أراد هذا ، وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أي : بكتاب أعمالهم ، وكذا قال أبو العالية ، والحسن ، والضحاك . وهذا القول هو الأرجح ؛ لقوله تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [ يس : 12 ] . وقال تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] .
وقال تعالى : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 28 ، 29 ] .
وهذا لا ينافي{[17686]} أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته ، فإنه لا بد أن يكون شاهدا عليها بأعمالها ، كما قال : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [ الزمر : 69 ] ، وقال { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [ النساء : 41 ] . .
ولكن المراد هاهنا بالإمام{[17687]} هو كتاب الأعمال ؛ ولهذا قال تعالى : { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ } أي : من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح ، يقرؤه ويحب قراءته ، كما قال تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } إلى أن قال : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 19 - 26 ] . .
وقوله : { وَلا يُظْلَمُونَ{[17688]} فَتِيلا } قد تقدم أن " الفتيل " هو الخيط المستطيل في شق النواة .
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا في هذا فقال : حدثنا محمد بن يَعْمَر{[17689]} ومحمد بن عثمان بن كرامة قالا حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السُّدِّيّ ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله : { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } قال : " يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ، ويمد له في جسمه ، ويُبَيَّض وجهه ، ويجعل على رأسه تاج من لؤْلؤة تَتَلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد ، فيقولون : اللهم ائتنا{[17690]} بهذا ، وبارك لنا في هذا . فيأتيهم فيقول لهم : أبشروا ، فإن لكل رجل منكم مثل هذا . وأما الكافر فَيُسْود وجهه ، ويمدّ له في جسمه ، ويراه أصحابه فيقولون : نعوذ بالله من هذا - أو : من شر هذا - اللهم لا تأتنا به . فيأتيهم فيقولون : اللهم اخزه{[17691]} فيقول : أبعدكم الله ، فإن لكل رجل منكم مثل هذا " .
ثم قال البزار : لا يروى إلا من هذا الوجه{[17692]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.