والجهاد كما يحتاج للرجال يحتاج للمال . ولقد كان المجاهد المسلم يجهز نفسه بعدة القتال ، ومركب القتال ، وزاد القتال . . لم تكن هناك رواتب يتناولها القادة والجند . إنما كان هناك تطوع بالنفس وتطوع بالمال . وهذا ما تصنعه العقيدة حين تقوم عليها النظم . إنها لا تحتاج حينئذ أن تنفق لتحمي نفسها من أهلها أو من أعدائها ، إنما يتقدم الجند ويتقدم القادة متطوعين ينفقون هم عليها !
ولكن كثيرا من فقراء المسلمين الراغبين في الجهاد ، والذود عن منهج الله وراية العقيدة ، لم يكونوا يجدون ما يزودون به أنفسهم ، ولا ما يتجهزون به من عدة الحرب ومركب الحرب . وكانوا يجيئون إلى النبي [ ص ] يطلبون أن يحملهم إلى ميدان المعركة البعيد ، الذي لا يبلغ على الأقدام . فإذا لم يجد ما يحملهم عليه ( تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ) . . كما حكى عنهم القرآن الكريم .
من أجل هذا كثرت التوجيهات القرآنية والنبوية إلى الإنفاق في سبيل الله . الإنفاق لتجهيز الغزاة . وصاحبت الدعوة إلى الجهاد دعوة إلى الإنفاق في معظم المواضع . .
وهنا يعد عدم الإنفاق تهلكة ينهى عنها المسلمون :
( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )
والإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تهلكة للنفس بالشح ، وتهلكة للجماعة بالعجز والضعف . وبخاصة في نظام يقوم على التطوع ، كما كان يقوم الإسلام .
ثم يرتقي بهم من مرتبة الجهاد والإنفاق إلى مرتبة الإحسان :
( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) . .
ومرتبه الإحسان هي عليا المراتب في الإسلام . وهي كما قال رسول الله [ ص ] : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة ، فإنها تفعل الطاعات كلها ، وتنتهي عن المعاصي كلها ، وتراقب الله في الصغيرة والكبيرة ، وفي السر والعلن على السواء .
وهذا هو التعقيب الذي ينهي آيات القتال والإنفاق ، فيكل النفس في أمر الجهاد إلى الإحسان . أعلى مراتب الإيمان . .
قال البخاري : حدثنا إسحاق ، أخبرنا النضر ، أخبرنا شعبة عن سليمان قال : سمعت أبا وائل ، عن حذيفة : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } قال : نزلت في النفقة{[3417]} .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن محمد بن الصباح ، عن أبي معاوية عن الأعمش ، به مثله . قال : وروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حَيَّان ، نحو ذلك .
وقال الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران قال : حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خَرَقه ، ومعنا أبو أيوب الأنصاري ، فقال ناس : ألقى بيده إلى التهلكة . فقال أبو أيوب : نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا ، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشَهِدنا معه المشاهد ونصرناه ، فلما فشا الإسلام وظهر ، اجتمعنا معشر الأنصار نَجِيَا ، فقلنا : قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونَصْرِه ، حتى فشا الإسلام وكثر أهلُه ، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد ، وقد وضعت الحرب أوزارها ، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما . فنزل{[3418]} فينا : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } فكانت التهلكة [ في ]{[3419]} الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد .
رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وعَبْدُ بن حُمَيد في تفسيره ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير{[3420]} وابن مَرْدُويه ، والحافظ أبو يعلى في مسنده ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب ، به{[3421]} .
وقال الترمذي : حسن صحيح غريب . وقال الحاكم : على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران : كنا {[3422]} بالقسطنطينية - وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ؛ وعلى أهل الشام رجل ، يريد بن فَضَالة بن عُبَيد - فخرج من المدينة صَف عظيم من الروم ، فصففنا لهم فحَمَل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم : ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه فقالوا : سبحان الله ، ألقى بيده إلى التهلكة . فقال أبو أيوب : يا أيها الناس ، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل ، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار ، وإنا لما أعز الله دينه ، وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا : لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها . فأنزل الله هذه الآية .
وقال أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال : قال رجل للبراء بن عازب : إن حملتُ على العدوّ وحدي فقتلوني أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة ؟ قال : لا قال الله لرسوله : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ } [ النساء : 84 ] ، إنما هذا في النفقة . رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، به . وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[3423]} . ورواه الثوري ، وقيس بن الربيع ، عن أبي إسحاق ، عن البراء - فذكره . وقال بعد قوله : { لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ } ولكن التهلكة أن يُذْنِبَ الرجلُ الذنبَ ، فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح - كاتب الليث - حدثني الليث ، حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام : أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره : أنهم حاصروا دمشق ، فانطلق رجل من أزد شنوءة ، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل ، فعاب ذلك عليه المسلمون ورفعوا حديثه إلى عَمْرو بن العاص ، فأرسل إليه عمرو فَرَدّه ، وقال عمرو : قال الله : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }
وقال عطاء بن السائب{[3424]} عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } ليس {[3425]} ذلك في القتال ، إنما هو في النفقة أن تُمْسكَ بيدك عن النفقة في سبيل الله . ولا تلق بيدك إلى التهلكة .
وقال حماد بن سلمة ، عن داود ، عن الشعبي ، عن الضحاك بن أبي جُبَيْرة{[3426]} قال : كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم ، فأصابتهم سَنَة ، فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله فنزلت : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }
وقال الحسن البصري : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } قال : هو البخل .
وقال سِمَاك بن حرب ، عن النعمان بن بشير في قوله : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } أن يذنب الرجل الذنب ، فيقول : لا يغفر لي ، فأنزل الله : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } رواه ابن مَرْدويه .
وقال ابن أبي حاتم : ورُويَ عن عُبيدَة السلماني ، والحسن ، وابن سيرين ، وأبي قلابة - نحو ذلك . يعني : نحوُ قول النعمان بن بشير : إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له ، فيلقي بيده إلى التهلكة ، أي : يستكثر من الذنوب فيهلك . ولهذا رَوَى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : التهلكة : عذاب الله .
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعًا : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني أبو صخر ، عن القُرَظي : أنه كان يقول في هذه الآية : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } قال : كان القوم في سبيل الله ، فيتزود الرجل . فكان أفضل زادًا من الآخر ، أنفق البائس{[3427]} من زاده ، حتى لا يبقى من زاده شيء ، أحب أن يواسي صاحبه ، فأنزل الله : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }{[3428]} .
وقال{[3429]} ابن وهب أيضًا : أخبرني عبد الله بن عياش{[3430]} عن زيد بن أسلم في قول الله : { وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } وذلك أنّ رجالا كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بغير نفقة ، فإما يُقْطَعُ بهم ، وإما كانوا عيالا فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ، ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة ، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع أو العطش أو من المشي . وقال لمن بيده فضل : { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
ومضمون الآية : الأمرُ بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القُرُبات ووجوه الطاعات ، وخاصّة{[3431]} صرفَ الأموال في قتال الأعداء وبذلهَا فيما يَقْوَى به المسلمون على عدوهم ، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار إن{[3432]} لزمه واعتاده . ثم عطف بالأمر بالإحسان ، وهو أعلى مقامات الطاعة ، فقال : { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .