وبعد استيفاء التشريع للمطلقات وللآثار المتخلفة عن الطلاق يأخذ في بيان حكم المتوفى عنها زوجها . . عدتها . وخطبتها بعد انقضاء العدة . والتعريض بالخطبة في أثنائها :
( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا . فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف . والله بما تعملون خبير ) .
( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم . علم الله أنكم ستذكرونهن . ولكن لا تواعدوهن سرا ، إلا أن تقولوا قولا معروفا . ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله . واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه . واعلموا أن الله غفور حليم ) . .
والمتوفى عنها زوجها كانت تلقى الكثير من العنت من الأهل وقرابة الزوج والمجتمع كله . . وعند العرب كانت إذا مات زوجها دخلت مكانا رديئا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا مدة سنة ، ثم تخرج فتقوم بعدة شعائر جاهلية سخيفة تتفق مع سخف الجاهلية ، من أخذ بعرة وقذفها ومن ركوب دابة : حمار أو شاة . . . إلخ . . فلما جاء الإسلام خفف عنها هذا العنت ، بل رفعه كله عن كاهلها ؛ ولم يجمع عليها بين فقدان الزوج واضطهاد الأهل بعده . . وإغلاق السبيل في وجهها دون حياة شريفة ، وحياة عائلية مطمئنة . جعل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال - ما لم تكن حاملا فعدتها عدة الحامل - وهي أطول قليلا من عدة المطلقة . تستبريء فيها رحمها ، ولا تجرح أهل الزوج في عواطفهم بخروجها لتوها . وفي أثناء هذه العدة تلبس ثيابا محتشمة ولا تتزين للخطاب . فأما بعد هذه العدة فلا سبيل لأحد عليها . سواء من أهلها أو من أهل الزوج . ولها مطلق حريتها فيما تتخذه لنفسها من سلوك شريف في حدود المعروف من سنة الله وشريعته ، فلها أن تأخذ زينتها المباحة للمسلمات ، ولها أن تتلقى خطبة الخطاب ، ولها أن تزوج نفسها ممن ترتضي . لا تقف في سبيلها عادة بالية ، ولا كبرياء زائفة . وليس عليها من رقيب إلا الله :
هذا أمر من الله{[4014]} للنساء اللاتي يُتَوفّى عنهن أزواجهن : أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال{[4015]} وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع ، ومستنده في غير
المدخول بها عُمُوم الآية الكريمة ، وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي : أن ابن مسعود سُئِل عن رجل تزوّج امرأة فمات ولم يدخل بها ، ولم يفرض لها ؟ فترددوا إليه مرارًا{[4016]} في ذلك فقال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابًا فمن الله ، وإن يكُن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه : [ أرى ]{[4017]} لها الصداق كاملا . وفي لفظ : لها صداق مثلها ، لا وكس ، ولا شَطَط ، وعليها العدّة ، ولها الميراث . فقام معقل بن سنان{[4018]} الأشجعي فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضى به في بَرْوَع بنت واشق . ففرح عبد الله بذلك فرحًا شديدًا . وفي رواية : فقام رجال من أشجع ، فقالوا : نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بَرْوَع بنت وَاشِق{[4019]} .
ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها ، وهي حامل ، فإن عدّتها بوضع الحمل ، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة ؛ لعموم قوله : { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] . وكان ابن عباس يرى : أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع ، أو أربعة أشهر وعشر ، للجمع بين الآيتين ، وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي ، لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية ، المخرج في الصحيحين من غير وجه : أنه توفي عنها زوجها سعد بن خولة ، وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، وفي رواية : فوضعت حملها بعده بليال ، فلما تَعَلَّتْ من نفاسها تجملت للخُطَّاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَك ، فقال لها : ما لي أراك مُتَجَمِّلة ؟ لعلك ترجين النكاح . والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعَشْر . قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حلَلَتُ حين وضعتُ ، وأمرني بالتزويج إن بدا لي{[4020]} .
قال أبو عمر بن عبد البر : وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سُبَيعة ، يعني لما احتج عليه به . قال : ويصحح ذلك عنه : أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة ، كما هو{[4021]} قول أهل العلم قاطبة .
وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة ، فإن عدتها على النصف من عدة الحرة ، شهران وخمس ليال ، على قول الجمهور ؛ لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحَدّ ، فكذلك{[4022]} فلتكن على النصف منها في العدة . ومن العلماء - كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية - من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام ؛ لعموم الآية ، ولأن العدة من باب الأمور الجبلية{[4023]} التي تستوي فيها الخليقة . وقد ذكر سعيدُ بن المسيب ، وأبو العالية وغيرهما : أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا ؛ لاحتمال اشتمال الرحم على حمل ، فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجودًا ، كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما : " إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح " {[4024]} . فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر ، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه ، والله أعلم .
قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : سألت سعيد بن المسيب : ما بال العشرة ؟ قال : فيه ينفخ الروح . وقال الربيع بن أنس : قلت لأبي العالية : لِمَ صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة ؟ قال : لأنه ينفخ فيها الروح . رواهما ابن جرير . ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد ، في رواية عنه ، إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة هاهنا ؛ لأنها صارت فراشا كالحرائر ، وللحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن يزيد بن هارون ، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة بن ذؤيب ، عن عمرو بن العاص أنه قال : لا تُلْبِسوا علينا سنة نبينا ، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر{[4025]} ورواه أبو داود ، عن قتيبة ، عن غُنْدَر - وعن ابن المثنى ، عن عبد الأعلى . وابن ماجة ، عن علي بن محمد ، عن وَكِيع - ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن مَطَر الوراق ، عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة ، عن عمرو بن العاص ، فذكره{[4026]} .
وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث ، وقيل : إن قبيصة لم يسمع عَمْرًا ، وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف ، منهم : سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين ، وأبو عياض{[4027]} ، والزهري ، وعمر بن عبد العزيز . وبه كان يأمر يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وهو أمير المؤمنين . وبه يقول الأوزاعي ، وإسحاق بن رَاهْوَيه ، وأحمد بن حنبل ، في رواية عنه . وقال طاوس وقتادة : عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها نصفُ عدة الحرة : شهران وخمس ليال . وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن صالح بن حَيّ : تعتد بثلاث حيض . وهو قول علي ، وابن مسعود ، وعطاء ، وإبراهيم النخَعي . وقال مالك ، والشافعي ، وأحمد في المشهور عنه : عدتها حيضة . وبه يقول ابن عمر ، والشعبي ، ومكحول ، والليث ، وأبو عبيد ، وأبو ثَور ، والجمهور .
قال الليث : ولو مات وهي حائض أجزأتها . وقال مالك : فلو كانت ممن لا تحيض فثلاثة أشهر . وقال الشافعي والجمهور : شهر ، وثلاثة أحب إلي . والله أعلم .
وقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها ، لما ثبت في الصحيحين ، من غير وجه ، عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمي المؤمنين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر أن تُحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا " {[4028]} . وفي الصحيحين أيضا ، عن أم سلمة : أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إن ابنتي تُوفي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينُها ، أفنكْحُلُها ؟ فقال : " لا " . كل ذلك يقول : " لا " مرتين أو ثلاثًا . ثم قال : " إنما هي أربعة أشهر وعشر{[4029]} وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة " . قالت زينب بنت أم سلمة : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفْشًا ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيبًا ولا شيئًا ، حتى تمر بها سنة ، ثم تخرج فتعطى بَعْرة فترمي بها ، ثم تؤتى بدابة - حمار أو شاة أو طير - فَتَفْتَضَّ به فقلما تفتض بشيء إلا مات{[4030]} .
ومن هاهنا ذهب كثير من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها ، وهي قوله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [ البقرة : 240 ] ، كما قاله ابن عباس وغيره ، وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره .
والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحُلِيٍّ وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدًا ، ولا يجب في عدة الرجعية قولا واحدًا ، وهل يجب في عدة البائن ؟ فيه قولان .
ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن ، سواء في ذلك الصغيرة والآيسة{[4031]} والحرة والأمة ، والمسلمة والكافرة ، لعموم الآية . وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه : لا إحداد على الكافرة . وبه يقول أشهبُ ، وابنُ نافع من أصحاب مالك . وحجة قائل هذه المقالة قولهُ صلى الله عليه وسلم{[4032]} : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدّ على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا " : قالوا : فجعله تعبدًا{[4033]} . وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري الصغيرة بها ، لعدم التكليف . وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها{[4034]} . ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع ، والله الموفق للصواب .
وقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : انقضت عدتهن{[4035]} . قاله الضحاك والربيع بن أنس ، { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } قال الزهري : أي : على أوليائها { فِيمَا فَعَلْنَ } يعني : النساء اللاتي انقضت عدتهن . قال العوفي{[4036]} عن ابن عباس : إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها ، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنَّع وتتعرض للتزويج ، فذلك المعروف . روي عن مقاتل بن حيان نحوه ، وقال ابن جريج عن مجاهد : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } قال : هو النكاح الحلال الطيب . وروي عن الحسن ، والزهري ، والسدي نحو ذلك .