( إنما النسيء زيادة في الكفر . يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ، ليواطئوا عدة ما حرم اللّه ، فيحلوا ما حرم اللّه . زين لهم سوء أعمالهم . واللّه لا يهدي القوم الكافرين ) .
قال مجاهد - رضي اللّه عنه - : كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول : أيها الناس . إني لا أعاب ولا أخاب ، ولا مرد لما أقول . أنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر . ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ، ويقول : إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله : ( ليواطئوا عدة ما حرم اللّه ) قال : يعني الأربعة . فيحلوا ما حرم اللّه تأخير هذا الشهر الحرام .
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم : هذا رجل من بني كنانة يقال له القلمس ، وكان في الجاهلية وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام ، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يمد إليه يده ؛ فلما كان هو قال : اخرجوا بنا . قالوا له : هذا المحرم . قال : ننسئه العام . هما العام صفران . فإذا كان العام القابل قضينا . . جعلناهما محرمين . . قال ففعل ذلك . فلما كان عام قابل قال لا تغزوا في صفر . حرموه مع المحرم . هما محرمان . .
فهذان قولان في الآية ، وصورتان من صور النسيء . في الصورة الأولى يحرم صفر بدل المحرم فالشهور المحرمة أربعة في العدد ، ولكنها ليست هي التي نص عليها اللّه ، بسبب إحلال شهر المحرم . وفي الصورة الثانية يحرم في عام ثلاثة أشهر وفي عام آخر خمسة أشهر فالمجموع ثمانية في عامين بمتوسط أربعة في العام ولكن حرمة المحرم ضاعت في أحدهما ، وحل صفر ضاع في ثانيهما !
وهذه كتلك في إحلال ما حرم اللّه ؛ والمخالفة عن شرع اللّه . .
ذلك أنه - كما أسلفنا - كفر مزاولة التشريع إلى جانب كفر الاعتقاد .
ويخدعون بما فيه من تلاعب وتحريف وتأويل . .
فإذا هم يرون السوء حسناً ، ويرون قبح الانحراف جمالاً ، ولا يدركون ما هم فيه من ضلال ولجاج في الكفر بهذه الأعمال .
( واللّه لا يهدي القوم الكافرين ) . .
الذين ستروا قلوبهم عن الهدى وستروا دلائل الهدى عن قلوبهم . فاستحقوا بذلك أن يتركهم اللّه لما هم فيه من ظلام وضلال .
هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة ، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة ، وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله ، فإنهم كان فيهم من القوة الغضَبِية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم ، فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم وتأخيره إلى صفر ، فيحلون الشهر الحرام ، ويحرمون الشهر الحلال ، ليواطئوا عدة الأشهر الأربعة{[13487]} كما قال شاعرهم - وهو عمير بن قيس المعروف - بجذل الطعان :
لَقَدْ عَلمت مَعد أنَّ قَومِي . . . كرَامُ النَّاس أنَّ لَهُمْ كِراما . . .
ألسْنا الناسئينَ على مَعد . . . شُهُورَ الحِل نَجْعلُهَا حَرَاما . . .
فأيّ النَّاسِ لَم تُدْرَك بوتْر? . . . وأيّ النَّاس لم نُعْلك لجاما?{[13488]}
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } قال : النسيء أنَّ جُنادة بن عوف بن أمية الكناني ، كان يوافي الموسم في كل عام ، وكان يكنى " أبا ثُمَامة " ، فينادي : ألا إن أبا ثمامة لا يُحاب ولا يُعاب ، ألا وإن صفر العام الأول حلال . فيحله للناس ، فيحرم صفرا عاما ، ويحرم المحرم عاما ، فذلك قول الله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } [ إلى قوله : { الكافرين } وقوله { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } ] {[13489]} يقول : يتركون المحرم عاما ، وعاما يحرمونه .
وروى العوفي عن ابن عباس نحوه .
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له ، فيقول : يا أيها الناس ، إني لا أعاب ولا أجاب ، ولا مَرَدّ لما أقول ، إنا قد حَرَّمنا المحرم ، وأخرنا صفر . ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ، ويقول : إنا قد حرمنا صفر ، وأخرنا المحرم . فهو قوله : { لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } قال : يعني الأربعة { فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ } لتأخير هذا الشهر الحرام .
وروي عن أبي وائل ، والضحاك ، وقتادة نحو هذا .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } الآية ، قال : هذا رجل من بني كنانة يقال له : " القَلَمَّس " ، وكان في الجاهلية ، وكانوا في الجاهلية لا يغيرُ بعضهم على بعض في الشهر الحرام ، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يَمُدُّ إليه يده ، فلما كان هو ، قال : اخرجوا بنا . قالوا له : هذا المحرم ! قال : ننسئه العام ، هما العام صفران ، فإذا كان العام القابل قضينا جعلناهما مُحرَّمين . قال : ففعل ذلك ، فلما كان عام قابل قال : لا تغزُوا في صفر ، حرموه مع المحرم ، هما محرمان .
فهذه صفة غريبة في النسيء ، وفيها نظر ؛ لأنهم في عام إنما يحرمون على هذا ثلاثة أشهر فقط ، وفي العام الذي يليه يحرمون خمسة أشهر ، فأين هذا من قوله تعالى : { يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } .
وقد روي عن مجاهد صفة أخرى غريبة أيضا ، فقال عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } الآية ، قال : فرض الله ، عز وجل ، الحج في ذي الحجة . قال : وكان المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيع ، وربيع ، وجمادى ، وجمادى ، ورجب ، وشعبان ، ورمضان ، وشوالا{[13490]} وذا القعدة . وذا الحجة يحجون فيه مرة أخرى ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه ، ثم يعودون فيسمون صفر صفر ، ثم يسمون رجب جمادى الآخرة ، ثم يسمون شعبان رمضان ، ثم يسمون شوالا رمضان ، ثم يسمون ذا القعدة شوالا
ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ، ثم يسمون المحرم ذا الحجة ، فيحجون فيه ، واسمه عندهم ذو{[13491]} الحجة ، ثم عادوا بمثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عامين ، حتى وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في القعدة{[13492]} ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج ، فوافق ذا الحجة ، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " .
وهذا الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضا ، وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة ، وأنى هذا ؟ وقد قال الله تعالى : { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } الآية[ التوبة : 3 ] ، وإنما نودي بذلك في حجة أبي بكر ، فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى : { يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ } ولا يلزم من فعلهم النسيء هذا الذي ذكره ، من دوران السنة عليهم ، وحجهم في كل شهر عامين ؛ فإن النسيء حاصل بدون هذا ، فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاما يحرمون عوضه صفرا ، وبعده ربيع وربيع إلى آخر [ السنة والسنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها ثم في العام القابل يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه ، وبعده صفر ، وربيع وربيع إلى آخرها ]{[13493]} فيحلونه عاما ويحرمونه عاما ؛ ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله ، أي : في تحريم أربعة أشهر من السنة ، إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم ، وتارة ينسئونه إلى صفر ، أي : يؤخرونه . وقد قدمنا الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر " ، أي : أن الأمر في عدة{[13494]} الشهور وتحريم ما هو محرم منها ، على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي ، لا كما يعتمده جهلة العرب ، من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا صالح بن بشر بن سلمة الطبراني ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة ، فاجتمع إليه من شاء الله من المسلمين ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل{[13495]} ثم قال : " وإنما النسيء من الشيطان ، زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاما ويحرمونه عاما " . فكانوا يحرمون المحرم عاما ، ويستحلون صفر{[13496]} ويستحلون المحرم ، وهو النسيء{[13497]} وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب " السيرة " كلامًا جيدًا ومفيدًا حسنًا ، فقال : كان أول من نسأ الشهور على العرب ، فأحل منها ما حرم الله ، وحرم منها ما أحل الله ، عز وجل ، " القَلمَّس " ، وهو : حذيفة بن عبد مُدْرِكة فُقَيم{[13498]} بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة بن مدْرِكة بن إلياس بن مُضَر بن نزار بن مَعدَّ بن عدنان ، ثم قام بعده على ذلك ابنه عَبَّاد ثم من بعد عباد ابنه قَلَع بن عباد ، ثم ابنه أمية بن قلع ، ثم ابنه عوف بن أمية ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف ، وكان آخرهم ، وعليه قام الإسلام . فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه ، فقام فيهم خطيبًا ، فحرم رجبا ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، ويحل المحرم عاما ، ويجعل مكانه صفر ، ويحرمه عاما ليواطئ عدة ما حرم الله ، فيحل ما حرم الله ، يعني : ويحرم ما أحل الله .