( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما . قل : ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة . والله خير الرازقين ) . .
عن جابر - رضي الله عنه - قال : " بينا نحن نصلي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إذ أقبلت عير تحمل طعاما ، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلا اثنا عشر رجلا ، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . فنزلت : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ) . . "
وفي الآية تلويح لهم بما عند الله وأنه خير من اللهو ومن التجارة . وتذكير لهم بأن الرزق من عند الله ( والله خير الرازقين ) . .
وهذا الحادث كما أسلفنا يكشف عن مدى الجهد الذي بذل في التربية وبناء النفوس حتى انتهت إلى إنشاء تلك الجماعة الفريدة في التاريخ . ويمنح القائمين على دعوة الله في كل زمان رصيدا من الصبر على ما يجدونه من ضعف ونقص وتخلف وتعثر في الطريق . فهذه هي النفس البشرية بخيرها وشرها . وهي قابلة أن تصعد مراقي العقيدة والتطهر والتزكي بلا حدود ، مع الصبر والفهم والإدراك والثبات والمثابرة ، وعدم النكوص من منتصف الطريق . والله المستعان
{ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } عن جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة ، فجاءت عير من الشام ؛ فانفتل الناس إليها حتى لم يبق بالمسجد إلا اثنا عشر رجلا ، فنزلت الآية . وكانت العير تحمل طعاما إلى المدينة ، والوقت وقت غلاء وشدة ، وكان من عادتهم إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق ؛ وهو المراد باللهو في الآية . ويروى أن هذه الحادثة وقعت ثلاث مرات ، وأنه صلى الله عليه وسلم قال بعد الثالثة : ( والذي نفسي بيده لو اتبع آخركم أو لكم لالتهب عليكم الوادي نارا ) . " انفضوا إليها " تفرقوا عنك إليها ؛ من الفض ، وهو كسر الشيء والتفريق بين أجزائه ؛ كفض ختم الكتاب . وقيل : إن الذي سوغ لهم الخروج وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، أنهم ظنوا أن الخروج بعد تمام الصلاة جائز ، لا لانقضاء المقصود وهو الصلاة . وقد كان صلى الله عليه وسلم أول الإسلام يصلى الجمعة قبل الخطبة كالعيدين ، فلما وقعت هذه الواقعة ونزلت الآية قدم الخطبة وأخر الصلاة . { وتركوك } على المنبر{ قائما } تخطب . ثم وعظهم الله بقوله : { ما عند الله } من الثواب على الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم{ خير من اللهو } مما يلهيكم عن الطاعة ، وعن البقاء مع الرسول{ ومن التجارة } التي تبتغون منها الربح والمنافع العاجلة ، ولن يفوتك ما قدر لكم من الرزق والنفع إذا أقمتم على طاعته . { والله خير الرازقين } . والله أعلم .
{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا } أي : خرجوا من المسجد ، حرصًا على ذلك اللهو ، و [ تلك ] التجارة ، وتركوا الخير ، { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } تخطب الناس ، وذلك [ في ] يوم جمعة ، بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ، إذ قدم المدينة ، عير تحمل تجارة ، فلما سمع الناس بها ، وهم في المسجد ، انفضوا من المسجد ، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب استعجالًا لما لا ينبغي أن يستعجل له ، وترك أدب ، { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ } من الأجر والثواب ، لمن لازم الخير وصبر نفسه على عبادة الله .
{ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ } التي ، وإن حصل منها بعض المقاصد ، فإن ذلك قليل منغص ، مفوت لخير الآخرة ، وليس الصبر على طاعة الله مفوتًا للرزق ، فإن الله خير الرازقين ، فمن اتقى الله رزقه من حيث لا يحتسب .
منها : أن الجمعة فريضة على جميع المؤمنين ، يجب عليهم السعي لها ، والمبادرة والاهتمام بشأنها .
ومنها : أن الخطبتين يوم الجمعة ، فريضتان{[1099]} يجب حضورهما ، لأنه فسر الذكر هنا بالخطبتين ، فأمر الله بالمضي إليه والسعي له .
ومنها : مشروعية النداء ليوم الجمعة ، والأمر به .
ومنها : النهى عن البيع والشراء ، بعد نداء الجمعة ، وتحريم ذلك ، وما ذاك إلا لأنه يفوت الواجب ويشغل عنه ، فدل ذلك على أن كل أمر ولو كان مباحًا في الأصل ، إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب ، فإنه لا يجوز في تلك الحال .
ومنها : الأمر بحضور الخطبتين{[1100]} يوم الجمعة ، وذم من لم يحضرهما ، ومن لازم ذلك الإنصات لهما .
ومنها : أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة الله ، وقت دواعي النفس لحضور اللهو [ والتجارات ] والشهوات ، أن يذكرها بما عند الله من الخيرات ، وما لمؤثر رضاه على هواه .
تم تفسير سورة الجمعة ، ولله الحمد والثناء{[1101]} .
ولما كان التقدير مما ينطق به نص الخطاب : هذه أوامرنا الشريفة{[65376]} وتقديساتنا العظيمة وتفضلاتنا الكريمة العميمة ، فما لهم إذا نودي لها{[65377]} توانى{[65378]} بعضهم في الإقبال إليها ، وكان قلبه متوجهاً نحو البيع ونحوه من الأمور الدنيوية عاكفاً عليها{[65379]} ساعياً بجهده إليها فخالف قوله أنه أسلم لرب العالمين فعله هذا ، عطف عليه قوله : { وإذا رأوا } أي بعد الوصول إلى موطنها المريح ومحلها الفسيح الشرح المليح ، والاشتغال بشأنها العالي { تجارة } أي حمولاً هي{[65380]} موضع للتجارة . ولما ذكر ما من شأنه إقامة المعاش أتبعه ما هو أنزل منه وهو ما أقل شؤونه البطالة التي لا{[65381]} يجنح إليها ذو قدر ولا يلقي لها باله فقال : { أو لهواً } أي ما يلهي عن كل نافع .
ولما كان مطلق الانفضاض قبيحاً لأنه لا يكون إلا تقرباً{[65382]} على حال سيئ ، من الفض وهو الكسر بالتفرقة ، والفضاض ما تفرق من الشيء عند الكسر ، ويقال :فض الفم والطلع : كسرهما ، فكيف{[65383]} إذا كانت علته قبيحة ، قال تعالى معبراً به : { انفضوا } أي نفروا متفرقين من العجلة .
ولما كان سبب{[65384]} نزول الآية أنه كان أصاب الناس جوع وجهد ، فقدم دحية الكلبي رحمه الله تعالى بعير تحمل الميرة ، وكان في عرفهم أن يدخلوا في مثل ذلك بالطبل والمعازف والصياح ، وكان قصد بعض المنفضين العير ، وبعضهم ما قارنها من اللهو ، ولكن قاصد التجارة هو{[65385]} الأكثر ، أنث الضمير فقال معلماً بالاهتمام بها لأن اللهو مسبب{[65386]} عنها : { إليها } وللدلالة على أنه إذا ذم قاصدها مع ما فيها من النفع{[65387]} والإنسان لا بد له من إصلاح معاشه لقيام حاله{[65388]} ولا سيما والحاجة إذ ذاك شديدة ، كان الذم لقصد اللهو من باب الأولى .
ولما كان ذلك حال الخطبة التي هي جديرة بشدة الإصغاء إليها والاتعاظ بها في صرف النفس عن الدنيا والإقبال على الآخرة قال : { وتركوك } أي تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلاً ، قال جابر رضي الله عنه : أنا أحدهم ، ودل على مشروعية القيام بقوله : { قائماً } فالواجب خطبتان : قائماً يفصل بينهما بجلوس ، والواجب فيهما أن يحمد الله تعالى ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله تعالى ، هذه الثلاثة واجبة في الخطبتين معاً ، ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن وفي الثانية أن يدعو للمؤمنين ، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لم تصح الخطبة عند الشافعي رضي الله عنه ، ولجواز الجمعة خمس شرائط : الوقت{[65389]} وهو وقت الظهر ، والعدد وهو الأربعون ، والإمام والخطبة{[65390]} و{[65391]}دار الإقامة ، فإن فقد شرط وجبت{[65392]} الظهر ، ولا تبتدأ الخطبة إلا بعد تمام ، وبقاء هذا العدد شرط إلى آخر الصلاة ، فإن{[65393]} انفض بعضهم ثم عاد ولم يفته شيء من الأركان صحت .
ولما كان هذا فعل من سفلت{[65394]} همته عن سماع كلام الحق من الحق ، أمره{[65395]} صلى الله عليه وسلم بوعظهم إلهاباً لهم إلى الرجوع إلى تأهلهم للخطاب ولو بالعتاب قال : { قل } أي لهم ترغيباً في الرجوع إلى ما كانوا عليه من طلب الخير من معدنه : { ما عند الله } أي المحيط بجميع صفات الكمال من الأعراض العاجلة في الدنيا من واردات القلوب وبوادر الحقيقة ، الحاصل من سماع الخطبة الآمر بكل خير ، الناهي عن كل شر{[65396]} ، المفيد لتزكية الباطن وتقويم{[65397]} الظاهر والبركة في جميع الأحوال والآجلة في الآخرة مما لا{[65398]} يدخل تحت الوصف { خير } ولما قدم التجارة أولاً اهتماماً بها ، قدم هنا ما كانت سبباً له{[65399]} {[65400]}ليصير كل{[65401]} منهما مقصوداً بالنهي فقال : { من اللهو } ولما بدأ به لإقبال الأغلب في حال الرفاهية عليه قال معيداً الجار للتأكيد : { ومن التجارة } أي وإن عظمت .
ولما كان من عنده الشيء قد لا يعطيه بسهولة {[65402]}وإذا أعطاه{[65403]} لا يعطيه إلا من يحبه قال : { والله } أي ذو الجلال والإكرام وحده { خير الرازقين * } لأنه يرزق متاع الدنيا لسفوله ولكونه زاداً إلى الآخرة البر والفاجر والمطيع والعاصي ، ويعطي من يريد ما لا يحصيه العد ولا يحصره الحد ، وأما المعارف الإلهية والأعمال الدينية الدال عليها رونق الصدق وصفاء الإخلاص وجلالة المتابعة فلا يؤتيها إلا الأبرار وإن كانوا أضعف الناس وأبعدهم من ذلك ولا يفوت أحداً ، أقبل على ما شرعه شيئاً كان ينفعه فلا تظنوا أن الغنى في البيع والتجارة إنما هو في متابعة أمر من أحل البيع وأمر به وشرع ما هو{[65404]} خير منه تزكية وبركة ونماء في الظاهر والباطن ، روى صاحب الفردوس{[65405]} عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قال يوم الجمعة " اللهم أغنني بحلالك عن حرامك {[65406]}وبطاعتك عن معصيتك{[65407]} وبفضلك عمن سواك سبعين مرة لم تمر به جمعتان حتى يغنيه الله تعالى " وأصل الحديث أخرجه أحمد{[65408]} والترمذي{[65409]} - وقال حسن - عن علي رضي الله عنه ، وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فأقبلوا على متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم و{[65410]}ألزموا هديه واستمسكوا بغرزه{[65411]} تنالوا خيري الدارين بسهولة ، فقد رجع آخر السورة كما ترى على أولها بما هو من{[65412]} شأن الملك من الرزق وإنالة الأرباح والفوائد ولا سيما إذا كان قدوساً وتبكيت من أعرض عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللازم منه استمرار الإقبال عليه ودوام الإقامة بين يديه ، لأنه لا يدعوهم إلا لما يحييهم من الصلاة والوعظ الذي هو{[65413]} عين تنزيه الله وتسبيحه
{ يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة }[ آل عمران : 164 ] يزكيهم ربهم ويرزقهم{[65414]} من فضله{[65415]} إنه كريم وهاب - والله أعلم بالصواب{[65416]} .
فقد رجع آخر السورة كما ترى على أولها بما هو من شأن الملك من الرزق وإنالة الأرباح والفوائد ولا سيما إذا كان قدوساً وتبكيت من أعرض عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللازم منه استمرار الإقبال عليه ودوام الإقامة بين يديه ، لأنه لا يدعوهم إلا لما يحييهم من الصلاة والوعظ الذي هو عين تنزيه الله وتسبيحه
{ يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة }[ آل عمران : 164 ] يزكيهم ربهم ويرزقهم من فضله إنه كريم وهاب - والله أعلم بالصواب .