ووسوسة الجنة نحن لا ندري كيف تتم ، ولكنا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة . ونعرف أن المعركة بين آدم وإبليس قديمة قديمة ؛ وأن الشيطان قد أعلنها حربا تنبثق من خليقة الشر فيه ، ومن كبريائه وحسده وحقده على الإنسان ! وأنه قد استصدر بها من الله إذنا ، فأذن فيها - سبحانه - لحكمة يراها ! ولم يترك الإنسان فيها مجردا من العدة . فقد جعل له من الإيمان جنة ، وجعل له من الذكر عدة ، وجعل له من الاستعاذة سلاحا . . فإذا أغفل الإنسان جنته وعدته وسلاحه فهو إذن وحده الملوم !
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس " .
وأما الناس فنحن نعرف عن وسوستهم الشيء الكثير . ونعرف منها ما هو أشد من وسوسة الشياطين !
رفيق السوء الذي يتدسس بالشر إلى قلب رفيقه وعقله من حيث لا يحتسب ومن حيث لا يحترس ، لأنه الرفيق المأمون !
وحاشية الشر التي توسوس لكل ذي سلطان حتى تتركه طاغية جبارا مفسدا في الأرض ، مهلكا للحرث والنسل !
والنمام الواشي الذي يزين الكلام ويزحلقه ، حتى يبدو كأنه الحق الصراح الذي لا مرية فيه .
وبائع الشهوات الذي يتدسس من منافذ الغريزة في إغراء لا تدفعه إلا يقظة القلب وعون الله .
وعشرات من الموسوسين الخناسين الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها ، ويدخلون بها من منافذ القلوب الخفية التي يعرفونها أو يتحسسونها . . وهم شر من الجنة وأخفى منهم دبيبا !
والإنسان عاجز عن دفع الوسوسة الخفية . ومن ثم يدله الله على عدته وجنته وسلاحه في المعركة الرهيبة !
وهناك لفتة ذات مغزى في وصف الوسواس بأنه( الخناس ) . . فهذه الصفة تدل من جهة على تخفيه واختبائه حتى يجد الفرصة سانحة فيدب ويوسوس . ولكنها من جهة أخرى توحي بضعفه أمام من يستيقظ لمكره ، ويحمي مداخل صدره . فهو - سواء كان من الجنة أم كان من الناس - إذا ووجه خنس ، وعاد من حيث أتى ، وقبع واختفى . أو كما قال الرسول الكريم في تمثيله المصور الدقيق : " فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا غفل وسوس " . .
وهذه اللفتة تقوي القلب على مواجهة الوسواس . فهو خناس . ضعيف أمام عدة المؤمن في المعركة .
ولكنها - من ناحية أخرى - معركة طويلة لا تنتهي أبدا . فهو أبدا قابع خانس ، مترقب للغفلة . واليقظة مرة لا تغني عن اليقظات . . والحرب سجال إلى يوم القيامة ؛ كما صورها القرآن الكريم في مواضع شتى ، ومنها هذه الصورة العجيبة في سورة الإسراء :
" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس ، قال : أأسجد لمن خلقت طينا ؟ قال : أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا . قال : اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا . واستفزز من استطعت منهم بصوتك ، وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد ، وعدهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " . .
وهذا التصور لطبيعة المعركة ودوافع الشر فيها - سواء عن طريق الشيطان مباشرة أو عن طريق عملائه من البشر - من شأنه أن يشعر الإنسان أنه ليس مغلوبا على أمره فيها فإن ربه وملكه وإلهه مسيطر على الخلق كله وإذا كان قد أذن لإبليس بالحرب فهو آخذ بناصيته . وهو لم يسلطه إلا على الذين يغفلون عن ربهم وملكهم وإلهم فأما من يذكرونه فهم في نجوة من الشر ودواعيه الخفية فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها يستند ودواعيه الخفية فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها . يستند إلى الرب الملك الإله . والشر يستند إلى وسواس خناس يضعف عن المواجهة ويخنس عند اللقاء وينهزم أمام العياذ بالله . .
وهذا أكمل تصور للحقيقة القائمة عن الخير والشر كما أنه أفضل تصور يحمي القلب من الهزيمة ويفعمه بالقوة والثقة والطمأنينة . .
والحمد لله أولا وأخيرا . وبه الثقة والتوفيق . . وهو المستعان المعين . . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ من } شر { الجنة والناس } يعنى الجن والإنس ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله : { الّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ } يعني بذلك : الشيطان الوسواس ، الذي يوسوس في صدور الناس : جنهم وإنسهم .
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أما وسواس الجِنة فهو وسواس الشيطان على ما قدمناه . وأما وسواس الناس ففيه وجهان : أحدهما : أنها وسوسة الإنسان من نفسه ، قاله ابن جريج . الثاني : أنه إغواء من يغويه من الناس .
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
{ من الجنة } أي : من الجن . وقوله : { والناس } أي : ومن الناس . والمعنى : أنه أمره بالاستعاذة من شياطين الجن والإنس ، والشيطان كل متمرد ، سواء كان جنيا أو إنسيا ...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
{ من الجنة والناس } بيان للذي يوسوس ، وأنهم نوعان : إنس وجن . فالجني يوسوس في صدور الإنس ، والإنسي أيضا يوسوس في صدور الإنس . فالموسوس نوعان : إنس وجن ، فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب . وهذا مشترك بين الجن والإنس ، وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن ، والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة ؛ لأنه يدخل في ابن آدم ، ويجري منه مجرى الدم ....
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ من الجنة } أي الجن الذين في غاية الشر والتمرد والخفاء { والناس } أي أهل الاضطراب والذبذبة ، سواء كانوا من الإنس أو الجن ، فيكون المعنى أن الجن مسلط بعضهم على بعض ، كما هم مسلطون على الإنس أو الجن ، فيدخل شيطان الجن في الجني كما يدخل في الإنسي ، ويوسوس له ...
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة ، أنه يقدم أحد الاسمين المتلازمين في آية ، لسر من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام ، ثم يؤخر ذلك المقدم في آية أخرى ، لسر آخر : فيقدم السماء على الأرض في مقام ، ويؤخرها عليها في مقام آخر . ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن ، في آية الأنعام ؛ لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء ، وهي من الإنس أظهر ، ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح . شياطين الإنس أخطر : وفي آية " الناس " قدم الجنة على الناس ؛ لأن الحديث عن الوسوسة ، وهي من شياطين الجن أخفى وأدق ، وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمر : فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد ، فيربى عليه ويكون شرا منه ؛ لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به ؛ ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جني لإنسي ، ويوسوس إليه بتنفيذها ، فتتولد منها فتن ، ويتمادى شره من قرن إلى قرن ، ومن جيل إلى جيل . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ووسوسة الجنة نحن لا ندري كيف تتم ، ولكنا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة . ونعرف أن المعركة بين آدم وإبليس قديمة قديمة ؛ وأن الشيطان قد أعلنها حربا تنبثق من خليقة الشر فيه ، ومن كبريائه وحسده وحقده على الإنسان ! وأنه قد استصدر بها من الله إذنا ، فأذن فيها - سبحانه - لحكمة يراها ! ولم يترك الإنسان فيها مجردا من العدة . فقد جعل له من الإيمان جنة ، وجعل له من الذكر عدة ، وجعل له من الاستعاذة سلاحا . . فإذا أغفل الإنسان جنته وعدته وسلاحه فهو إذن وحده الملوم ! ....
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتكرير كلمة { الناس } في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى واحد إظهارٌ في مقام الإِضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى ومِلكه وإلهيته للناس كلهم كقوله تعالى : { يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب } [ آل عمران : 78 ] . وأما تكريره المرة الثالثة بقوله : { في صدور الناس } فهو إظهار لأجل بُعد المعاد . وأما تكريره المرة الرابعة بقوله : { من الجنة والناس } فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس ، وذلك غير ما صَدْق كلمة { الناس } في المرّات السابقة .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تنبيه على حقيقة هامّة هي إن «الوسواس الخناس » لا ينحصر وجوده في مجموعة معينة ، ولا في فئة خاصّة ؛ بل هو موجود في الجن والإنس . . . في كل جماعة وفي كل ملبس ، فلابدّ من الحذر منه أينما كان ، والاستعاذة بالله منه في كل أشكاله وصوره . أصدقاء السوء ، والجلساء المنحرفون ، وأئمة الظلم والضلال ، والولاة الجبابرة الطواغيت ، والكتاب والخطباء الفاسدون ، والمدارس الإِلحادية... ملاحظات:
ـ لماذا نستعيذ بالله ؟ ! الإَنسان معرض للانحراف في كل لحظة ، وحين يأمر الله نبيّه أن يستعيذ به من شر «الوسواس الخناس» ، فإن ذلك دليل على إمكان الوقوع في شراك الموسوسين الخناسين . مع أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مأمن من الانحراف بفضل الله ومدده الغيبي ، وخضوعه التام لله ، فالآيات تأمره أن يستعيذ بالله من شرّ الوسواس الخناس ، فما بالك بغيره من النّاس ! ولا يجوز للإِنسان أن ييأس أمام مخاوف الموسوسين . فملائكة الله تهبّ للأخذ بناصية المؤمنين والسائرين على طريق الله . فالمؤمنون ليسوا وحيدين في ساحة صراع الحق مع الباطل ؛ بل ملائكة الله في عونهم :{ إن الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة } . ولكن ، على أي حال ، لا يجوز للإِنسان أن يغتَرّ وأن يحسب نفسه غنياً عن الموعظة والتذكير والإِمداد الإِلهي . يجب الاستعاذة به سبحانه دائماً ، ويجب أن يكون الإِنسان على وعي وحذر باستمرار .
ـ لماذا تكررت كلمة «النّاس» ؟ في سبب تكرار كلمة «النّاس» في السّورة ، قيل : إن كل واحدة منها لها معنى خاص . ولكن يظهر أن التكرار تأكيد على عمومية هذه الصفات الثلاث الإِلهية ، وهي في المواضع الثلاثة بمعنى واحد .
اعلم أن لهذه السورة لطيفة أخرى : وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي أنه رب الفلق ، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات ، وهي الغاسق والنفاثات والحاسد. وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة : وهي الرب والملك والإله، والمستعاذ منه آفة واحدة ، وهي الوسوسة ، والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب ، فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن ، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين ، وهذا تنبيه على أن مضرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وفي هذ السورة دعوةٌ إلى الإنسان ليستعيذ من هذا الوسواس الخنّاس الذي يشكِّل خطراً على التزامه الفكري والعملي ، وعلى سلامته في الدنيا والآخرة . وليتطلّع إلى الله رَبِّ النَّاسِ وملِك النّاس وإِلَهِ النَّاسِ ، ليجد فيه العون كلّ العون ، والقوّة كل القوّة ، وليستشعر ضعف هذا الوسواس الخنّاس أمام الله ، وأمام الوسائل التي وضعها بين يدي الإنسان ليحميه من شرّه ، ولينقذه من حبائله ومن مكره وخداعه ووسوسته وتثبيطه ، ومن كل مكائده . وهذا هو أسلوب التربية الروحية الوجدانية التي يريد الإسلام أن يؤكدها في شخصية الإنسان المؤمن ، ليؤكد قوّة الموقف لديه ، وثبات الإيمان في نفسه ، واستقامة الطريق في حياته . وهو أن يرجع إلى الله في إحساسٍ عميقٍ بقوّته التي تحميه من قوّة الآخرين ، وبرحمته التي تفيض على روحه حبّاً وأماناً وسلاماً وخيراً وبركةً ، فتمنحه الطمأنينة الروحية ، والثبات الواقعي في الحياة .
قوله تعالى : { من الجنة والناس }
أخبر أن الموسوس قد يكون من الناس .
قال الحسن : هما شيطانان : أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية .
وقال قتادة : إن من الجن شياطين ، وإن من الإنس شياطين ، فتعوذ بالله من شياطين الإنس والجن . وروي عن أبي ذر أنه قال لرجل : هل تعوذت بالله من شياطين الإنس ؟ فقال : أو من الإنس شياطين ؟ قال : نعم ؛ لقوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين{[16620]} الإنس والجن }[ الأنعام : 112 ] . . الآية .
وذهب قوم إلى أن الناس هنا يراد به الجن . سموا ناسا كما سموا رجلا في قوله : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن }{[16621]} [ الجن : 6 ] ، وقوما ونفرا{[16622]} . فعلى هذا يكون " والناس " عطفا على " الجنة " ، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين . وذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدث : جاء قوم من الجن فوقفوا . فقيل : من أنتم ؟ فقالوا : ناس من الجن ، وهو معنى قول الفراء .
وقيل : الوسواس هو الشيطان . وقوله : " من الجنة " بيان أنه من الجن " والناس " معطوف على الوسواس . والمعنى : قل أعوذ برب الناس من شر الوسواس ، الذي هو من الجنة ، ومن شر الناس . فعلى هذا أمر بأن يستعيذ من شر الإنس والجن . والجِنة : جمع جني ، كما يقال : إنس وإنسي . والهاء لتأنيث الجماعة . وقيل : إن إبليس يوسوس في صدور الجن ، كما يوسوس في صدور الناس . فعلى هذا يكون { في صدور الناس } عاما في الجميع . و{ من الجنة والناس } بيان لما يوسوس في صدره . وقيل : معنى { من شر الوسواس } أي الوسوسة التي تكون من الجنة والناس ، وهو حديث النفس . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به " . رواه أبو هريرة ، أخرجه مسلم . فالله تعالى أعلم بالمراد من ذلك .
{ من الجنة والناس } هذا بيان لجنس الوسواس ، وأنه يكون من الجن ومن الناس ، ثم إن الموسوس من الإنس يحتمل أن يريد من يوسوس بخدعه وأقواله الخبيثة فإنه شيطان كما قال تعالى : { شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] ، أو يريد به نفس الإنسان ؛ إذ تأمره بالسوء ، فإنها أمارة بالسوء ، والأول أظهر . وقيل : { من الناس } معطوف على { الوسواس } كأنه قال : أعوذ من شر الوسواس من الجنة ومن شر الناس ، وليس الناس على هذا ممن يوسوس ، والأول أظهر وأشهر .
فإن قيل : لم ختم القرآن بالمعوذتين ، وما الحكمة في ذلك ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : قال شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : لما كان القرآن من أعظم النعم على عباده ، والنعم مظنة الحسد ، فختم بما يطفئ الحسد من الاستعاذة بالله .
الثاني : يظهر لي أن المعوذتين ختم بهما ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهما : " أنزلت علي آيات لم ير مثلهن قط " ، كما قال في فاتحة الكتاب : " لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها " ، فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها ، واختتم بسورتين لم ير مثلهما ، ليجمع حسن الافتتاح والاختتام ، ألا ترى أن الخطب والرسائل والقصائد وغير ذلك من أنواع الكلام إنما ينظر فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها .
الوجه الثالث : يظهر لي أيضا أنه لما أمر القارئ أن يفتتح قراءته بالتعوذ من الشيطان الرجيم ، ختم القرآن بالمعوذتين ليحصل الاستعاذة بالله عند أول القراءة ، وعند آخر ما يقرأ من القراءة ، فتكون الاستعاذة قد اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء ، وليكون القارئ محفوظا بحفظ الله الذي استعاذ به من أول أمره إلى آخره ، وبالله التوفيق ، لا رب غيره .