وبعد هذه النداءات المتكررة للذين آمنوا ؛ وأخذهم إلى ذلك الأفق السامي الوضيء من الآداب النفسية والاجتماعية ؛ وإقامة تلك السياجات القوية من الضمانات حول كرامتهم وحريتهم وحرماتهم ، وضمان هذا كله بتلك الحساسية التي يثيرها في أرواحهم ، بالتطلع إلى الله وتقواه . .
بعد هذه المدارج إلى ذلك الأفق السامق ، يهتف بالإنسانية جميعها على اختلاف أجناسها وألوانها ، ليردها إلى أصل واحد ، وإلى ميزان واحد ، هو الذي تقوم به تلك الجماعة المختارة الصاعدة إلى ذلك الأفق السامق :
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . إن أكرمكم عند الله أتقاكم . إن الله عليم خبير ) . .
يا أيها الناس . يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا ، المتفرقون شعوبا وقبائل . إنكم من أصل واحد . فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا .
يا أيها الناس . والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم . . من ذكر وأنثى . . وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل . إنها ليست التناحر والخصام . إنما هي التعارف والوئام . فأما اختلاف الألسنة والألوان ، واختلاف الطباع والأخلاق ، واختلاف المواهب والاستعدادات ، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق ، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات . وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله . إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم ، ويعرف به فضل الناس : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) . . والكريم حقا هو الكريم عند الله . وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين : ( إن الله عليم خبير ) . .
وهكذا تسقط جميع الفوارق ، وتسقط جميع القيم ، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة ، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر ، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان .
وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض ؛ وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس . ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون : ألوهية الله للجميع ، وخلقهم من أصل واحد . كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته : لواء التقوى في ظل الله . وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس ، والعصبية للأرض ، والعصبية للقبيلة ، والعصبية للبيت . وكلها من الجاهلية وإليها ، تتزيا بشتى الأزياء ، وتسمى بشتى الأسماء . وكلها جاهلية عارية من الإسلام !
وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها ، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة : راية الله . . لا راية الوطنية . ولا راية القومية . ولا راية البيت . ولا راية الجنس . فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام .
قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب . ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم ، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان " .
وقال[ صلى الله عليه وسلم ] عن العصبية الجاهلية : " دعوها فإنها منتنة " .
وهذه هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي . المجتمع الإنساني العالمي ، الذي تحاول البشرية
في خيالها المحلق أن تحقق لونا من ألوانه فتخفق ، لأنها لا تسلك إليه الطريق الواحد الواصل المستقيم . . الطريق إلى الله . . ولأنها لا تقف تحت الراية الواحدة المجمعة . . راية الله . .
الشعوب : جمع شعب وهو الحيّ العظيم المنتسب إلى أصل واحد كربيعة ومُضَر ، والقبيلة دونه ، وسُمي الشَعب شَعباً لتشعب القبائل منه كتشعب الأغصان من الشجرة .
بعد أن أدّب الله تعالى المؤمنين بالآداب الرفيعة بيّن هنا أن الناسَ جميعاً من أبٍ واحد وأمٍ واحدة ، فكيف يسخَر الأخ من أخيه أو يغتابه أو يظلمه ! ؟ وبين للناس أن القرآن يدعو إلى أمةٍ إنسانية واحدة ، وعالمٍ واحدٍ يسوده العدل والمحبة ، وأعلن هنا حقوقَ الإنسان بصرف النظرِ عن لونه وجنسه ، فالناس إخوة في النسَب ، كرامتُهم محفوظة ، والإنسان مخلوق الله المختار ، وهو خليفته في الأرض .
يا أيها الناس : إنّا خلقناكم متساوين من أصلٍ واحد هو آدم وحواء ، وجعلناكم جموعا عظيمة ، شعوباً وقبائل متعددة ، لتتعارفوا وتتعاونوا على ما فيه خيرُكم وصلاحكم ، إن أكرَمَكُم عند الله وأرفعَكم منزلة في الدنيا والآخرة هو اتقاكم له وأنفعكم لخلْقِه ، { إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ } بكم وبأعمالكم وبباطن أحوالكم ، فاجعلوا التقوى زادَكم لمعادِكم .
{ يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى } من آدم وحواء عليهما السلام فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب ومن هذا قوله :
الناس في عالم التمثيل أكفاء *** أبوهم آدم والأم حواء
وجوز أن يكون المراد هنا أنا خلقنا كل واحد منكم من أب وأم ، ويبعده عدم ظهور ترتب ذم التفاخر بالنسب عليه والكلام مساق له كما ينبئ عنه ما بعد ، وقيل : هو تقرير للأخوة المانعة عن الاغتياب وعدم ظهور الترتب عليه على حاله مع أن ملاءمة ما بعد له دون ملاءمته للوجه السابق لكن وجه تقريره للأخوة ظاهر .
{ وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ } الشعوب جمع شعب بفتح الشين وسكون العين وهم الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد ، وهو يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة بفتح العين وقد تكسر تجمع البطون ، والبطن تجمع الأفخاذ ، والفخذ تجمع الفصائل ، فخزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصى بطن وهاشم فخذ والعباس فضيلة ؛ وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها ، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل النسب واللغة ، ونظم ذلك بعض الأدباء فقال :
قبيلة فوقها شعب وبعدهما *** عمارة ثم بطن تلوه فخذ
وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته *** ولا سداد لسهم ماله قذذ
وذكر بعضهم العشيرة بعد الفصيلة فقال :
اقصد الشعب فهو أكثر حي *** عدداً في الحساب ثم القبيلة
ثم يتلوهما العمارة ثم البطن *** ثم الفخذ وبعد الفصيلة
ثم من بعدها العشيرة لكن *** هي في جنب ما ذكرنا قليله
وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة مقام العمارة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ ولم يذكر ما يخالفه ، وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل ، وأيد كون الشعوب في العجم ما في حديث مسروق أن رجلاً من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية ؛ فإن الشعوب فيه فسرت بالعجم لكن قيل : وجهه على ما تقدم أن الشعب ما تشعب منه قبائل العرب والعجم فخص بأحدهما ، ويجوز أن يكون جمع الشعوبي وهو الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم فضلاً على غيرهم كيهود ومجوس في جمع المجوسي واليهودي ، ومنهم أبو عبيدة وكان خارجياً وقد ألف كتاباً في مثالب العرب ، وابن غرسية وله رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب ، وقد رد عليه علماء الأندلس برسائل عديدة .
وقيل : الشعوب عرب اليمن من قحطان والقبائل ربيعة ومضر وسائر عدنان ، وقال قتادة . ومجاهد . والضحاك : الشعب النسب الأبعد والقبيلة الأقرب ، وقيل : الشعوب الموالي والقبائل العرب ، وقال أبو روق : الشعوب الذين ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم { لتعارفوا } علة للجعل أي جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضاً فتصلوا الأرحام وتبينوا الأنساب والتوارث لا لتفاخروا بالآباء والقبائل ، والحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر والسكوت في معرض البيان .
وقرأ الأعمش { لتتعارفوا } بتاءين على الأصل ، ومجاهد . وابن كثير في رواية . وابن محيصن بإدغام التاء في التاء ، وابن عباس . وأبان عن عاصم { وَقَبَائِلَ لتعارفوا } بكسر الراء مضارع عرف ، قال ابن جني : والمفعول محذوف أي لتعرفوا ما أنتم محتاجون إليه كقوله :
وما علم الإنسان إلا ليعلما *** أي ليعلم ما علمه وما أعذب هذا الحذف وما أغربه لمن يعرف مذهبه .
/ واختير في المفعول المقدر قرابة بعضكم من بعض ، وقوله تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } تعليل للنهي عن التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف الحقيقي كأنه قيل : إن الأكرم عند الله تعالى والأرفع منزلة لديه عز وجل في الآخرة والدنيا هو الأتقى فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى . وقرأ ابن عباس { أن } بفتح الهمزة على حذف لام التعليل كأنه قيل : لم لا تتفاخروا بالأنساب ؟ فقيل : لأن أكرمكم عند الله تعالى أتقاكم لا أنسبكم فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بها .
وفي «البحر » أن ابن عباس قرأ { وَأَن أَكْرَمَكُمْ } بفتح الهمزة فاحتمل أن يكون { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ } الخ معمولاً { لتعارفوا } وتكون اللام في { لتعارفوا } لام الأمر وهو أجود من حيث المعنى ، وأما إن كانت لام كي فلا يظهر المعنى إذ ليس جعلهم شعوباً وقبائل لأن يعرفوا أن أكرمهم عند الله تعالى أتقاهم فإن جعلت مفعولاً { لتعارفوا } محذوفاً أي لتعرفوا الحق لأن أكرمكم عند الله أتقاكم ساغ في اللام أن تكون لام كي اه وهو كما ترى .
{ إِنَّ الله عَلِيمٌ } بكم وبأعمالكم { خَبِيرٌ } بباطن أحوالكم . روي أنه لما كان يوم فتح مكة أذن بلال على الكعبة فغضب الحرث بن هشام . وعتاب بن أسيد وقالا : أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة فنزلت .
وعن ابن عباس سبب نزولها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن فلانة فوبخه النبي عليه الصلاة والسلام وقال : إنك لا تفضل أحداً إلا في الدين والتقوى ونزلت . وأخرج أبو داود في مراسيله . وابن مردويه . والبيهقي في سننه عن الزهري قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا : يا رسول الله أنزوج بناتنا موالينا ؟ فأنزل الله تعالى : { رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى } الآية .
قال الزهري : نزلت في أبي هند خاصة وكان حجام النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية ابن مردويه من طريق الزهري عن عروة عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال : أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ونزلت : { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس } الآية في ذلك ، وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاماً أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله عليه الصلاة والسلام فاشتراه رجل فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عند كل صلاة ففقده فسأل عنه صاحبه فقال : محموم فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقال : هو لما به فجاءه وهو في ذمائه فتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت ، وفي القلب من صحة هذا شيء والله تعالى أعلم .
وقد دلت على أنه لا ينبغي التفاخر بالأنساب وبذلك نطقت الأخبار . أخرج ابن مردويه . والبيهقي في «شعب الإيمان » . وعبد بن حميد . والترمذي . وغيرهم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه فلما خرج لم يجد مناخاً فنزل على أيدي الرجال فخطبهم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، وقال : الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس الناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله الناس كلهم بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأثنى } إلى قوله تعالى : { خَبِيرٌ } ثم قال : أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ، وأخرج البيهقي . وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } ألا هل بلغت ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : فليبلغ الشاهد الغائب ، وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بابآئها كلكم لآدم وحواء كطف الصاع بالصاع وإن أكرمكم عند الله أتقاكم فمن أتاكم ترضون دينه وأمانته فزوجوه " وأخرج أحمد . وجماعة نحوه لكن ليس فيه { فَمَنْ * ءاتاكم } الخ .
وأخرج البزار عن حذيفة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان " وأخرج الطبراني . وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" يقول الله يوم القيامة أيها الناس إني جعلت نسباً وجعلتم نسباً فجعلت أكرمكم عند الله أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا : فلان بن فلان وفلان أكرم من فلان وإني اليوم أرفع نسبي واضع نسبكم ألا إن أوليائي المتقون " وأخرج الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه نحوه مرفوعاً .
وأخرج أحمد . والبخاري في تاريخه . وأبو يعلى . والبغوي . وابن قانع . والطبراني . والبيهقي في «شعب الإيمان » عن أبي ريحانة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزاً وكبراً فهو عاشرهم في النار " وأخرج البخاري . والنسائي عن أبي هريرة قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم ؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فعن معادن العرب تسألوني ؟ قالوا : نعم قال : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى . وفي الآية إشارة إلى وجه رد التفاخر بالنسب حيث أفادت أن شرف النسب غير مكتسب { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] وأنه لا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة لاتحاد ما خلقا منه ، ولا من جهة الفاعل لأنه هو الله تعالى الواحد ، فليس للنسب شرف يعول عليه ويكون مداراً للثواب عند الله عز وجل ، ولا أحد أكرم من أحد عنده سبحانه إلا بالتقوى وبها نكمل النفس وتتفاضل الأشخاص ، وهذا لا ينافي كون العرب أشرف من العجم وتفاوت كل من العرب والعجم في الشرف ، فقد ذكروا أن الفرس أشرف من النبط ، وبنو إسرائيل أفضل من القبط . وأخرج مسلم . وغيره عن واثلة بن الأسقع قال : " قال صلى الله عليه وسلم إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم " لأن ذلك ليس إلا باعتبار الخصال الحميدة ، فشرف العرب على العجم مثلاً ليس إلا باعتبار أن الله تعالى امتازهم على من سواهم بفضائل جمة وخصال حميدة كما صحت به الأحاديث ، وقد جمع الكثير منها العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه مبلغ الإرب في فضائل العرب ، ولا نعني بذلك أن كل عربي ممتاز على كل عجمي بالخصال الحميدة بل إن المجموع ممتاز على المجموع ، ثم إن أشرف العرب نسباً أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها لأنهم ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح به جمع من الفقهاء . وأخرج الطبراني عن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل بني آدم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم " وفي رواية له عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه «كل ابن أنثى كان عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأنا عصبتهم وأنا أبوهم » ونوزع في صحة ذلك ، ورمز الجلال السيوطي للأول بأنه حسن ، وتعقب وليس الأمر موقوفاً على ما ذكر لظهور دليله . وقد أخرج أحمد . والحاكم في «المستدرك » عن المسور بن مخرمة ولا كلام فيه قال : " قال صلى الله عليه وسلم فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها وأن الأنساب كلها تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري " وحديث بضعية فاطمة رضي الله تعالى عنها مخرج في «صحيح البخاري » أيضاً ، قال الشريف السمهودي : ومعلوم أن أولادها بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة منه صلى الله عليه وسلم ، وهذا غاية الشرف لأولادها ، وعدم انقطاع نسبه صلى الله عليه وسلم جاء أيضاً في حديث أخرجه ابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعاً بلفظ " كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري " والذهبي وإن تعقبه بقوله : فيه ابن وكيع لا يعتمد لكن استدرك ذلك بأنه ورد فيه مرسل حسن ، ويعلم مما ذكر ونحوه كما قال المناوي عظيم نفع الانتساب إليه صلى الله عليه وسلم ، ولا يعارضه ما في أخبار أخر من حثه عليه الصلاة والسلام لأهل بيته على خشية الله تعالى واتقائه سبحانه وأنه عليه الصلاة والسلام لا يغني عنهم من الله تعالى شيئاً حرصاً على إرشادهم وتحذيراً لهم من أن يتكلوا على النسب فتقصر خطاهم عن اللحوق بالسابقين من المتقين ، وليجتمع لهم الشرفان شرف التقوى وشرف النسب ، ورعاية لمقام التخويف خاطبهم عليه الصلاة والسلام بقوله : " لا أغني عنكم من الله شيئاً " والمراد لا أغنى عنكم شيئاً بمجرد نفسي من غير ما يكرمني الله تعالى به من نحو شفاعة فيكم ومغفرة منه تعالى لكم ، وهو عليه الصلاة والسلام لا يملك لأحد نفعاً ولا ضراً إلا بتمليك الله تعالى ، والله سبحانه يملكه نفع أمته والأقربون أولى بالمعروف .
فعلى هذا لا بأس بقول الرجل : أنا من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التحدث بالنعمة أو نحو ذلك من المقاصد الشرعية . وقد نقل المناوي عن ابن حجر أنه قال نهيه صلى الله عليه وسلم عن التفاخر بالأنساب موضعه مفاخرة تقتضي تكبراً واحتقار مسلم ، وعلى ما ذكرناه أولاً جاء قوله عليه الصلاة والسلام : " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل " الحديث ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب " إلى غير ذلك ، ومع شرف الانتساب إليه عليه الصلاة والسلام لا ينبغي لمن رزقه أن يجعله عاطلاً عن التقوى ويدنسه بمتابعة الهوى ، فالحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن ، والسيئة في نفسها سيئة وهي من أهل بيت النبوة أسوأ ، وقد يبلغ اتباع الهوى بذلك النسيب الشريف إلى حيث يستحي أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما ينكر نسبه . وعليه قيل لشريف سيء الأفعال :
قال النبي مقال صدق لم يزل *** يحلو لدى الأسماع والأفواه
إن فاتكم أصل امرىء ففعاله *** تنبيكم عن أصله المتناهي
وأراك تسفر عن فعال لم تزل *** بين الأنام عديمة الأشباه
وتقول إني من سلالة أحمد *** أفأنت تصدق أم رسول الله
ولا يلومن الشريف إلا نفسه إذا عومل حينئذٍ بما يكره وقدم عليه من هو دونه في النسب بمراحل ، كما يحكي أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه كان فاسقاً ظاهر الفسق وكان هناك موسى أسود تقدم في العلم والعمل فأكب الناس على تعظيمه فاتفق أن خرج يوماً من بيته يقصد المسجد فاتبعه خلق كثير يتبركون به فلقيه الشريف سكران فكان الناس يطردونه عن طريقه فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال : يا أسود الحوافر والمشافر يا كافر أنا ابن كافر ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذل وأنت تجل وأهان وأنت تعان فهم الناس بضربه فقال الشيخ : لا تفعلوا هذا محتمل منه لجده ومعفو عنه وإن خرج عن حده ، ولكن أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك فرؤي بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت وسواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحت ؛ وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا معي ما يعمل مع أبيك ، ولهذا ونحو قيل :
ولا ينفع الأصل من هاشم *** إذا كانت النفس من باهلة
أي لا ينفع في الامتياز على ذوي الخصال السنية إذا كانت النفس في حد ذاتها باهلية ردية ومن الكمالات عرية ، فإن باهلة في الأصل اسم امرأة من همدان كانت تحت معن بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان فنسب ولده إليها ، وقيل : بنو باهلة وهم قوم معروفون بالخساسة ، قيل : كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية وكانوا يأخذون عظام الميتة يطبخونها ويأخذون دسوماتها فاستنقصتهم العرب جداً حتى قيل لعربي أترضى أن تكون باهلياً وتدخل الجنة فقال : لا إلا بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي ، وقيل :
إذا قيل للكلب يا باهلي *** عوى الكلب من شؤم هذا النسب
ولم يجعلهم الفقهاء لذلك أكفاء لغيرهم من العرب لكن لا يخلو ذلك من نظر ، فإن النص أعني «إن العرب بعضهم أكفاء لبعض » لم يفصل مع أنه صلى الله عليه وسلم كان أعلم بقبائل العرب وأخلاقهم وقد أطلق ؛ وليس كل باهلي كما يقولون بل فيهم الأجواد ، وكون فصيلة منهم أو بطن صعاليك فعلوا ما فعلوا لا يسري في حق الكل اللهم إلا أن يقال : مدار الكفاءة وعدمها على العار وعدمه في المعروف بين الناس فمتى عدوا الباهلية عاراً وشاع استنقاصها فيما بينهم وأبتها نفوسهم اعتبر ذلك وإن لم يكن عن أصل أصيل ، وهذا نظير ما ذكروا فيما إذا اشترى الشخص داراً فتبين أن الناس يستشئمونها أنه بالخيار مع قول الجل من العلماء بنفي الشؤم المتعارف بين الناس اعتباراً لكون ذلك مما ينقص الثمن بين الناس وإن لم يكن له أصل فتأمله ، وبالجملة شرف النسب مما اعتبر جاهلية وإسلاماً ، أما جاهلية فأظهر من أن يبرهن عليه ، وأما إسلاماً فيدل عليه اعتبار الكفاءة في النسب في باب النكاح على الوجه المفصل في كتب الفقه ، ولم يخالف في ذلك فيما نعلم إلا الإمام مالك . والثوري . والكرخي من الحنفية ، وبعض ما تقدم من الأخبار يؤيد كلامهم لكن أجيب عنه في محله ، وكذا يدل عليه ما ذكروه في بيان شرائط الإمامة العظمى من أنه يشترط فيها كون الإمام قرشياً ، وقد أجمعوا على ذلك كما قال الماوردي ، ولا اعتبار بضرار . وأبي بكر الباقلاني حيث شذا فجوزاها في جميع الناس ، وقال الشافعية : فإن لم يوجد قرشي أي مستجمع لشروط الإمامة اعتبر كون الإمام كنانياً من ولد كنانة بن خزيمة ، فإن تعذر اعتبر كونه من بني إسماعيل عليه السلام ، فإن تعذر اعتبر كونه من جرهم لشرفهم بصهارة إسماعيل عليه السلام إلى غير ذلك ، ومع هذا كله فالتقوى التقوى فالاتكال على النسب وترك النفس وهواها من ضعف الرأي وقلة العقل ، ويكفي في هذا الفصل قوله تعالى لنوح عليه السلام في ابنه كنعان : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح } [ هود : 46 ] وقوله عليه الصلاة والسلام : " سلمان منا أهل البيت " فالحزم اللائق بالنسيب أن يتقي الله تعالى ويكتسب من الخصال الحميدة ما لو كانت في غير نسيب لكفته ليكون قد زاد على الزبد شهداً وعلق على جيد الحسناء عقداً ؛ ولا يكتفي بمجرد الانتساب إلى جدود سلفوا ليقال له : نعم الجدود ولكن بئس ما خلفوا ، وقد ابتلى كثير من الناس بذلك فترى أحدهم يفتخر بعظم بال وهو عري كالإبرة من كل كمال . ويقول : كان أبي كذا وكذا وذاك وصف أبيه فافتخاره به نحو افتخار الكوسج بلحية أخيه ، ومن هنا قيل :
واعجب شيء إلى عاقل *** أناس عن الفضل مستأخره
إذا سئلوا ما لهم من علا *** أشاروا إلى أعظم ناخره
وقال الفاضل السري عبد الباقي أفندي العمري :
أقول لمن غدا في كل وقت *** يباهينا بأسلاف عظام
أتقنع بالعظام وأنت تدري *** بأن الكلب يقنع بالعظام
لم يجدك الحسب العالي بغير تقى *** مولاك شيئاً فحاذر واتق الله
وابغ الكرامة في نيل الفخار به *** فأكرم الناس عند الله أتقاها
وأكثر ما رأينا ذلك الافتخار البارد عند أولاد مشايخ الزوايا الصوفية فإنهم ارتكبوا كل رذيلة وتعروا عن كل فضيلة ومع ذلك استطالوا بآبائهم على فضلاء البرية واحتقروا أناساً فاقوهم حسباً ونسباً وشرفوهم أماً وأباً وهذا هو الضلال البعيد والحمق الذي ليس عليه مزيد ، ولولا خشية السأم لأطلقنا في هذا الميدان عنان كميت القلم على أن فيما ذكرنا كفاية لمن أخذت بيده العناية والله تعالى أعلم .
{ 13 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
يخبر تعالى أنه خلق بني آدم ، من أصل واحد ، وجنس واحد ، وكلهم من ذكر وأنثى ، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء ، ولكن الله [ تعالى ] بث منهما رجالاً كثيرا ونساء ، وفرقهم ، وجعلهم شعوبًا وقبائل أي : قبائل صغارًا وكبارًا ، وذلك لأجل أن يتعارفوا ، فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه ، لم يحصل بذلك ، التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون ، والتوارث ، والقيام بحقوق الأقارب ، ولكن الله جعلهم شعوبًا وقبائل ، لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها ، مما يتوقف على التعارف ، ولحوق الأنساب ، ولكن الكرم بالتقوى ، فأكرمهم عند الله ، أتقاهم ، وهو أكثرهم طاعة وانكفافًا عن المعاصي ، لا أكثرهم قرابة وقومًا ، ولا أشرفهم نسبًا ، ولكن الله تعالى عليم خبير ، يعلم من يقوم منهم بتقوى الله ، ظاهرًا وباطنًا ، ممن يقوم بذلك ، ظاهرًا لا باطنًا ، فيجازي كلا ، بما يستحق .
وفي هذه الآية دليل على أن معرفة الأنساب ، مطلوبة مشروعة ، لأن الله جعلهم شعوبًا وقبائل ، لأجل ذلك .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الناس إنا أنشأنا خلقكم من ماء ذكر من الرجال، وماء أنثى من النساء...
وقوله:"وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا "يقول: وجعلناكم متناسبين، فبعضكم يناسب بعضا نسبا بعيدا، وبعضكم يناسب بعضا نسبا قريبا فالمناسب النسب البعيد من لم ينسبه أهل الشعوب، وذلك إذا قيل للرجل من العرب: من أيّ شعب أنت؟ قال: أنا من مضر، أو من ربيعة. وأما أهل المناسبة القريبة أهل القبائل، وهم كتميم من مضر، وبكر من ربيعة، وأقرب القبائل الأفخاذ، وهما كشيبان من بكر، ودارم من تميم، ونحو ذلك.. عن ابن عباس وَجَعلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الجُمّاع، والقبائل: البطون...
عن سعيد بن جُبَير وَجَعلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الجمهور، والقبائل: الأفخاذ...
عن مجاهد، قوله: شُعُوبا قال: النسب البعيد. وَقَبائِلَ دون ذلك...
وقال بعضهم: الشعوب: الأفخاذ...
وقال آخرون: الشعوب: البطون، والقبائل: الأفخاذ... وقال آخرون: الشعوب: الأنساب...
وقوله: "لِتَعارَفُوا" يقول: ليعرف بعضكم بعضا في النسب، يقول تعالى ذكره: إنما جعلنا هذه الشعوب والقبائل لكم أيها الناس، ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده، لا لفضيلة لكم في ذلك، وقُربة تقرّبكم إلى الله، بل أكرمكم عند الله أتقاكم...
وقوله: "إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقاكُمْ" يقول تعالى ذكره: إن أكرمكم أيها الناس عند ربكم، أشدّكم اتقاء له بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتا ولا أكثركم عشيرة...
وقوله: "إنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الناس ذو علم بأتقاكم عند الله وأكرمكم عنده، ذو خبرة بكم وبمصالحكم، وغير ذلك من أموركم، لا تخفى عليه خافية.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى} يخرّج تأويل الآية إلى وجهين:
أحدهما: إنا خلقناكم جميعا من أصل واحد، وهو آدم حواء عليهما السلام فيكونون جميعا إخوة وأخوات، وليس لبعض الإخوة والأخوات الافتخار والفضيلة على بعض بالآباء والقبائل التي جُعلت لهم؛ إنما القبائل وما ذكر للتعارُف، والفضيلة والكرامة في ما ذكر: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} معا لو كان في ذلك فضيلة وافتخار. فالكل في النسبة إليهم على السواء، فلا معنى لانفراد البعض بالافتخار.
والثاني: يحتمل: إنا خلقنا كل واحد منكم من الملوك والأتباع والحر والعبد والذّكر والأنثى من ماء الذكر والأنثى، فليس لأحد على أحد من تلك الجهة التي يفتخرون بها الافتخار والفضيلة؛ إذ كانوا جميعا من نطفة مَدَرة مُنتِنة، تستقذرها الطباع. ذكر هذا ليتركوا التفاخر والتطاول بالأنساب والقبائل، والله أعلم...
ثم قوله تعالى: {لتعارفوا} أي جعل فيكم هذه القبائل ليعرف بعضكم بعضا بالنسبة إلى القبائل والأفخاذ!؛ فيقال: فلان التّيميّ، والهاشميّ، إن كل أحد لا يُعرف إلا بأبيه وجدّه...
ثم قال عز وجل: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} بيّن الله تعالى بما به تكون الفضيلة والكرامة، وهو التقوى لا في ما يرون، ويفتخرون بذلك، وهو النسبة إلى الآباء والقبائل...
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}. بدأ بذكر الخلق من ذَكَرٍ وَأنثى وهما آدم وحواء، ثم جعلهم شعوباً يعني متشعبين متفرقين في الأنساب كالأمم المتفرقة نحو العرب وفارس والروم والهند ونحوهم، ثم جعلهم قبائل وهم أخصّ من الشعوب نحو قبائل العرب وبيوتات العجم، ليتعارفوا بالنسبة، كما خالف بين خِلَقِهِمْ وصُوَرِهم ليعرف بعضهم بعضاً. ودل بذلك على أنه لا فضل لبعضهم على بعض من جهة النسب، إذ كانوا جميعاً من أب وأم واحدة؛ ولأن الفضل لا يستحق بعمل غيره، فبيّن الله تعالى ذلك لنا لئلا يفخر بعضنا على بعض بالنسب، وأكّد ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ}، فأبان أن الفضيلة والرفعة إنما تُستحق بتقوى الله وطاعته...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
فبين أن الشعوب والقبائل للتعارف لا للافتخار...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أن الحكمة التي من أجلها رتبكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض. فلا يعتزى إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد، وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب. ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله تعالى فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم}...
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}...
فذلك إشارة إلى أن الجنس واحد، فإن كل واحد خلق كما خلق الآخر من أب وأم...
. إذا جاء الشرف الديني الإلهي، لا يبقى لأمر هناك اعتبار، لا لنسب ولا لنشب، ألا ترى أن الكافر وإن كان من أعلى الناس نسبا، والمؤمن وإن كان من أدونهم نسبا، لا يقاس أحدهما بالآخر، وكذلك ما هو من الدين مع غيره، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينا عالما صالحا، ولا يصلح لشيء منها فاسق، وإن كان قرشي النسب، وقاروني النشب...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} أي: إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الناس} أي كافة المؤمن وغيره {إنا} على عظمتنا وقدرتنا {خلقناكم} أي أوجدناكم عن العدم على ما أنتم عليه من المقادير في صوركم وما أنتم عليه من التشعب الذي يفوت الحصر، وأخرجنا كل واحد منكم {من ذكر} هو المقصود بالعزم والقوة {وأنثى} هي موضع الضعف والراحة، لا مزية لأحد منكم في ذلك على آخر، ولا فخر في نسب...
. {وجعلناكم} أي بعظمتنا {شعوباً} تتشعب من أصل واحد...
{لتعارفوا} أي ليعرف الإنسان من يقاربه في النسب ليصل من رحمه ما يحق له، لا لتواصفوا وتفاخروا...
. {إن أكرمكم} أيها المتفاخرون {عند الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه ولا كريم إلا من أكرمكم بكرمه ولا كمال لأحد سواه {أتقاكم} فذلك هو الذكر الذي يصح أصله باقتدائه بأبيه آدم عليه السلام فلم يمل إلى الأنوثة وإن كان أدناكم نسباً ولذلك أكده...
. {إن الله} أي المحيط علماً وقدرة {عليم} أي بالغ العلم بالظواهر {خبير} محيط العلم بالبواطن والسرائر أيضاً...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى أنه خلق بني آدم، من أصل واحد، وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، ولكن الله [تعالى] بث منهما رجالاً كثيرا ونساء، وفرقهم، وجعلهم شعوبًا وقبائل أي: قبائل صغارًا وكبارًا، وذلك لأجل أن يتعارفوا، فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه، لم يحصل بذلك، التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون، والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوبًا وقبائل، لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها، مما يتوقف على التعارف، ولحوق الأنساب، ولكن الكرم بالتقوى، فأكرمهم عند الله، أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة وانكفافًا عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقومًا، ولا أشرفهم نسبًا، ولكن الله تعالى عليم خبير، يعلم من يقوم منهم بتقوى الله، ظاهرًا وباطنًا، ممن يقوم بذلك، ظاهرًا لا باطنًا، فيجازي كلا، بما يستحق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد هذه النداءات المتكررة للذين آمنوا؛ وأخذهم إلى ذلك الأفق السامي الوضيء من الآداب النفسية والاجتماعية؛ وإقامة تلك السياجات القوية من الضمانات حول كرامتهم وحريتهم وحرماتهم، وضمان هذا كله بتلك الحساسية التي يثيرها في أرواحهم، بالتطلع إلى الله وتقواه..
بعد هذه المدارج إلى ذلك الأفق السامق، يهتف بالإنسانية جميعها على اختلاف أجناسها وألوانها، ليردها إلى أصل واحد، وإلى ميزان واحد، هو الذي تقوم به تلك الجماعة المختارة الصاعدة إلى ذلك الأفق السامق:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير)..
يا أيها الناس. يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا، المتفرقون شعوبا وقبائل. إنكم من أصل واحد. فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا.
يا أيها الناس. والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم.. من ذكر وأنثى.. وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل. إنها ليست التناحر والخصام. إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات. وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله. إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم، ويعرف به فضل الناس: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).. والكريم حقا هو الكريم عند الله. وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين: (إن الله عليم خبير)..
وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان.
وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض؛ وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس. ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون: ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد. كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله. وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت. وكلها من الجاهلية وإليها، تتزيا بشتى الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء. وكلها جاهلية عارية من الإسلام!
وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة: راية الله.. لا راية الوطنية. ولا راية القومية. ولا راية البيت. ولا راية الجنس. فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام.
قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: "كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب. ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان".
وقال [صلى الله عليه وسلم] عن العصبية الجاهلية: " دعوها فإنها منتنة".
وهذه هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي. المجتمع الإنساني العالمي، الذي تحاول البشرية
في خيالها المحلق أن تحقق لونا من ألوانه فتخفق، لأنها لا تسلك إليه الطريق الواحد الواصل المستقيم.. الطريق إلى الله.. ولأنها لا تقف تحت الراية الواحدة المجمعة.. راية الله..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من واجبات المعاملات إلى ما يجب أن يراعيه المرء في نفسه، وأعيد النداء للاهتمام بهذا الغرض، إذ كان إعجابُ كل قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشياً في الجاهلية... فكان ذلك يجرّ إلى الإحن والتقاتل وتتفرع عليه السخرية واللمز والنبز والظن والتجسس والاغتياب الواردة فيها الآيات السابقة، فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود إذ كثر الداخلون في الإسلام.
فعن أبي داود أنه روى في كتابه « المراسيل» عن الزهري قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة (من الأنصار) أن يزوجوا أبا هند (مولَى بني بياضة قيل اسمه يَسار) امرأةً منهم فقالوا: تزوج بناتنا موالينَا، فأنزل الله تعالى: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا} الآية. وروي غير ذلك في سبب نزولها.
ونُودوا بعنوان {الناس} دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صُدّر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد، أي أنهم في الخلقة سواء ليتوسل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل وإلى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى فقيل: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}. فمن أقدم على القول بأن هذه الآية نزلت في مكة دون بقية السورة اغترّ بأن غالِب الخطاب ب {يا أيها الناس} إنما كان في المكي.
والمراد بالذَكَر والأنثى: آدم وحواء أبَوَا البشر، بقرينة قوله {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم "أنتم بنو آدم وآدم من تراب " كما سيأتي قريباً. فيكون تنوين (ذكر وأنثى) لأنهما وصفان لموصوف فقرر، أي من أب ذكر ومن أم أنثى.
ويجوز أن يراد ب {ذكر وأنثى} صنف الذكر والأنثى، أي كل واحد مكون من صنف الذكر والأنثى...
واقُتصر على ذكر الشعوب والقبائل لأن ما تحتها داخل بطريق لحن الخطاب.
وتجاوز القرآن عن ذكر الأمم جرياً على المتداول في كلام العرب في تقسيم طبقات الأنساب إذ لا يدركون إلا أنسابهم.
وجعلت علة جَعْل الله إياه شعوباً وقبائل وحكمتهُ من هذا الجَعل أن يتعارف الناس، أي يعرِف بعضهم بعضاً.
والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجاً إلى الأعلى، فالعائلة الواحدة متعارفون، والعشيرة متعارفون من عائلات إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون والبطون مع العمائِر، والعمائِر مع القبائل، والقبائل مع الشعوب لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها.
فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاماً محكماً لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل ثم بينه وبين جماعات أكثر. وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم.
والمقصود: أنكم حرَّفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل بِسبب تناكر وتطاحن وعدوان...
وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام كما قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة.
ولما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكونوا إخوة وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يَغِين على نُورها في نفوسهم من السخرية واللمز والتنابز والظن السوء والتَجسِس والغيبة، ذكَّرهم بأصل الأخوة في الأنساب التي أكدتها أخوة الإسلام ووحدة الاعتقاد ليكون ذلك التذكير عوناً على تبصرهم في حالهم، ولما كانت السخرية واللمز والتنابز مما يحمل عليه التنافس بين الأفراد والقبائل جمع الله ذلك كله في هذه الموعظة الحكيمة التي تدل على النداء عليهم بأنهم عَمدوا إلى هذا التشعيب الذي وضعتْه الحكمة الإلهية فاستعملوه في فاسد لوازمه وأهملوا صالح ما جعل له بقوله: {لتعارفوا} ثم وأتبعه بقوله: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} أي فإن تنافستم فتنافسوا في التقوى كما قال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26].
والخبر في قوله: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني ليتوصل من ذلك إلى إرادة اكتساب الفضائل والمزايا التي ترفع بعض الناس على بعض كناية بمرتبتين. والمعنى المقصود من ذلك هو مضمون جملة {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فتلك الجملة تتنزل من جملة {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} منزلة المقصد من المقدمة والنتيجةِ من القياس ولذلك فصلت لأنها بمنزلة البيان.
وأما جملة {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} فهي معترضة بين الجملتين الأخريين.
والمقصود من اعتراضها: إدماج تأديب آخر من واجب بث التعارف والتواصل بين القبائل والأمم وأن ذلك مراد الله منهم.
ومن معنى الآية ما خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إذ قال: " يا أيها الناس ألاَ إن ربكم واحد وأن أباكم واحد لا فضل لعَربي على عجمي ولا لِعجمي على عربي ولا لأسودَ على أحمرَ ولا لأحمرَ على أسود إلا بالتقوى"...
وجملة {إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وإنما أخّرت في النظم عن جملة إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة لأنهم لما تساوَوا في أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة كان الشأن أن لا يفضُل بعضهم بعضاً إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته ولذلك ناط التفاضل في الكرم ب {عند الله} إذ لا اعتداد بكرم لا يعبأ الله به.
والمراد بالأكرم: الأنْفَس والأشَرف، كما تقدم بيانه في قوله: {إني ألقي إلى كتاب كريم} في سورة [النمل: 29].
والأتقى: الأفضل في التقوى وهو اسم تفضيل صيغ من اتَّقى على غير قياس.
وجملة {إن الله عليم خبير} تعليل لمضمون {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} أي إنما كان أكرمكم أتقاكم لأن الله عليم بالكرامة الحق وأنتم جعلتم المكارم فيما دون ذلك من البطش وإفناء الأموال في غير وجه وغير ذلك الكرامة التي هي التقوى خبير بمقدار حظوظ الناس من التقوى فهي عنده حظوظ الكرامة فلذلك الأكرم هو الأتقى، وهذا كقوله: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم: 32] أي هو أعلم بمراتبكم في التقوى، أي التي هي التزكية الحق. ومن هذا الباب قوله: {الله أعمل حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124].
علم أن قوله: {إن أكرمكم عند الله اتقاكم} لا ينافي أن تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مما شأنه أن يكون له أثر تزكية في النفوس مثل حسن التربية ونقاء النسب والعرافة في العلم والحضارة وحسن السمعة في الأمم وفي الفصائل، وفي العائلات، وكذلك بحسب ما خلده التاريخ الصادق للأمم والأفراد فما يترك آثاراً لأفرادها وخلالاً في سلائلها قال النبي صلى الله عليه وسلم « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»
فإن في خلق الأنباء آثاراً من طباع الآباء الأدنَيْن أو الأعَليْن تكون مهيئة نفوسهم للكمال أو ضده وأن للتهذيب والتربية آثاراً جمّة في تكميل النفوس أو تقصيرها وللعوائد والتقاليد آثارها في الرفعة والضعة وكل هذه وسائل لإعداد النفوس إلى الكمال والزكاء الحقيقي الذي تخططه التقوى.
وجملة {إن الله عليم خبير} تذييل، وهو كناية عن الأمر بتزكية نواياهم في معاملاتهم وما يريدون من التقوى بأن الله يعلم ما في نفوسهم ويحاسبهم عليه.