في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

6

والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .

وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات ، وبلغت إلى آفاق ، لولا أنها وقعت بالفعل ، لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق . .

والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم . . أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم ، وتسكن إليه أرواحهم ، ويثوبون إليه ويطمئنون له ، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .

( يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين ! ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ) . . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع ، ومن مال يختصون به كهذا الفيء ، فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا . ولا يقول : حسدا ولا ضيقا . إنما يقول : ( شيئا ) . مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم ، فلا تجد شيئا أصلا .

( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . . والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا .

( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) . . فهذا الشح . شح النفس . هو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه ، فقد وقي هذا المعوق عن الخير ، فانطلق إليه معطيا باذلا كريما . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

{ الذين تبوَّؤا الدار } : هم الأنصار الذين سكنوا المدينة .

{ ولا يجدون في صدورهم حاجة } : الحاجة هنا : الحسد والغيظ .

{ مما أوتوا } : مما أُعطي المهاجرون من الفيء .

{ ويؤثِرون } : ويقدمون غيرهم على أنفسهم ، ولو كان بهم خَصاصة : ولو كانوا فقراء .

{ ومن يوقَ شح نفسه } : ومن يحفظ نفسه من البخل والحرص على المال . المفلحون : الفائزون .

ثم مدح اللهُ تعالى الأنصار وأثنى عليهم ثناء عاطرا حين طابت أنفسهم عن الفيء ، ورضوا أن يكون للمهاجرين من إخوانهم ، وقال : إنهم مخلصون في إيمانهم ، ذوو صفات كريمة ، وشيم جليلة ، تدلّ على كرم النفوس ، ونبل الطباع .

( 1 ) فهم يحبّون المهاجرين ، وقد أسكنوهم معهم في دورهم ، وآخَوهم ، وبعضهم نزل لأخيه من المهاجرين عن بعض ماله .

روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال المهاجرون :

« يا رسول الله ما رأينا مثلَ قوم قِدمنا عليهم : حُسْنَ مواساةٍ في قليل ، وحسنَ بذل في كثير ! لقد كفونا المئونة ، وأشركونا في المهيّأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ، قال : لا ، ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم » .

والمهيأ : كل ما يريح الإنسان من مكان أو طعام . فعلّمهم الرسول الكريم أن يثنوا على إخوانهم الأنصار ويدعوا لهم مقابل ما أكرموهم به .

( 2 ) وهم لا يحسّون في أنفسهم شيئا مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره .

( 3 ) ويؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ويقدّمونهم ، ولو كان بهم حاجة ، وهذا منتهى الكرم والإيثار ، وغاية التضحية . ولذلك ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم ارحم الأنصارَ وأبناء الأنصار .

ثم بين الله تعالى أن الذي ينجو من البخل يفوز برضا الله ويكون من المفلحين فقال : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } .

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اتقوا الشحّ ، فإن الشح قد أهلكَ من كان قَبلكم ، حَملَهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلّوا محارمهم » رواه الإمام أحمد والبخاري في : الأدب المفرد ، والبيهقي .

وقال الرسول الكريم : « لا يجتمعُ الإيمانُ والشحُّ في قلبٍ عبدٍ أبداً » رواه الترمذي وأبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه .

وليس المراد من تقوى الشح الجودَ بكل ما يملك ، وإنما أن يؤديَ الزكاة ، ويَقري الضيف ويعطي ما يستطيع كما روي عن الرسول الكريم أنه قال : « بَرِئَ من الشحّ من أدى الزكاةَ وقَرَا الضيف ، وأعطى في النائبة » .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

قوله تعالى : { والذين تبوؤوا الدار والإيمان } وهم الأنصار تبوؤا الدار توطنوا الدار ، أي : المدينة ، اتخذوها دار الهجرة والإيمان ، { من قبلهم } أي أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين . ونظم الآية : والذين تبوؤا الدار من قبلهم أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم ، وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان تبوء . { يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة } حزازة وغيظاً وحسداً ، { مما أوتوا } أي مما أعطى المهاجرين دونهم من الفيء ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار فطابت أنفس الأنصار بذلك ، { ويؤثرون على أنفسهم } أي يؤثرون على إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم ، { ولو كان بهم خصاصة } فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون ، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الله بن داود عن فضل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستضافه فبعث إلى نسائه هل عندكن من شيء ؟ فقلن ما معناه : إلا الماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يضم أو يضيف هذا ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، فانطلق به إلى امرأته فقال : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ما عندنا إلا قوت الصبيان ، فقال : هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك ، إذا أرادوا عشاءً ، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ، ونومت صبيانها ، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته ، فجعلا يريانه أنهما يأكلان ، فباتا طاويين ، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما ، فأنزل الله عز وجل : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحكم بن نافع ، أنبأنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل ، قال : لا ، فقالوا : تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة ، قالوا : سمعنا وأطعنا .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان عن يحيى بن سعد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : " دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين ، فقالوا : لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، قال : أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ، فإنه سيصيبكم أثرة بعدي " . وروي عن ابن عباس قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ، فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها ، فأنزل الله عز وجل :{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } " . والشح في كلام العرب : البخل ومنع الفضل . وفرق العلماء بين الشح والبخل . روي أن رجلاً قال لعبد الله بن مسعود : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، فقال : وما ذاك ؟ قال : أسمع الله يقول : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وأنا رجل شحيح ، لا يكاد يخرج من يدي شيء ، فقال عبد الله : ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله عز وجل في القرآن ، ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل . وقال ابن عمر : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له . وقال سعيد بن جبير : الشح هو أخذ الحرام ومنع الزكاة . وقيل : الشح هو الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم . قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ، ولم يدعه الشح إلى أن يمنع شيئاً من شيء أمره الله به فقد وقاه شح نفسه .

أخبرنا الإمام محمد بن أبي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو سعيد خلف ابن عبد الرحمن بن أبي نزار ، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن حزاز الفهندري ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق السعدي ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا القعنبي ، حدثنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن القاسم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنبأنا أبي وشعيب قالا : أنبأنا الليث عن يزيد بن الهادي عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن يزيد عن القعقاع هو ابن اللجلاج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً " .

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

{ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم } هم الأنصار والدار هي المدينة لأنها كانت بلدهم والضمير في قبلهم للمهاجرين ، فإن قيل : كيف قال تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان وإنما تتبوأ الدار أي : تسكن ولا يتبوأ الإيمان ؟ فالجواب من وجهين :

الأول : أن معناه تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان فهو كقولك : فعلفتها تبنا وماء باردا : تقديره : علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا .

الثاني : أن المعنى أنهم جعلوا الإيمان كله موطن لهم لتمكنهم فيه كما جعلوا المدينة كذلك .

فإن قيل : قوله : { من قبلهم } يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان ، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه لأنها كانت بلدهم ، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل ، لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار . فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنه أراد بقوله : { من قبلهم } من قبل هجرتهم .

والآخر : أنه أراد تبوءوا الدار مع الإيمان معا أي : جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين ، لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوئ الدار فيكون الإيمان على هذا مفعولا معه ، وهذا الوجه أحسن لأنه جواب عن هذا السؤال وعن السؤال الأول ، فإنه إذا كان الإيمان مفعولا معه لم يلزم السؤال الأول ، إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفا على الدار .

{ ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتوا } قيل : إن الحاجة هنا بمعنى الحسد ، ويحتمل أن تكون بمعنى الاحتجاج على أصلها والضمير في يجدون للأنصار ، وفي أوتوا للمهاجرين ، والمعنى : أن الأنصار تطيب نفوسهم بما يعطاه المهاجرون من الفيء وغيره ، ولا يجدون في صدورهم شيئا بسبب ذلك .

{ ويؤثرون على أنفسهم } أي : يؤثرون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الاحتياج والخصاصة هي الفاقة ، وروي : أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار قال للأنصار : " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه " فقالوا : بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة ، وروي أيضا : أن سببها أن رجلا من الأنصار أضاف رجلا من المهاجرين فذهب الأنصاري بالضيف إلى منزله فقالت له امرأته : والله ما عندنا إلا قوت الصبيان فقال لها : نومي صبيانك وأطفئي السراج ، وقدمي ما عندك للضيف ونوهمه نحن أنا نأكل ولا نأكل ففعلا ذلك فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : عجب الله من فعلكما البارحة نزلت الآية .

{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } شح النفس هو البخل والطمع وفي هذا إشارة إلى أن الأنصار وقاهم الله شح أنفسهم فمدحهم الله بذلك ، وبأنهم يؤثرون على أنفسهم وبأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون وأنهم يحبون المهاجرين .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (9)

ولما مدح المهاجرين وأعطاهم فطابت نفوس الأنصار بذلك وكانوا في كل حال معه صلى الله عليه وسلم كالميت بين يدي الغاسل ، مهما شاء فعل ، ومهما أراد منهم صار إليه ووصل ، أتبعه مدحهم جبراً لهم وشكراً لصنيعهم فقال عاطفاً على مجموع القصة : { والذين تبوؤ } أي جعلوا بغاية جهدهم { الدار } الكاملة في الدور وهي التي أعدها الله في الأزل للهجرة وهيأها للنصرة وجعلها دائرة على جميع البلدان محيطة بها غالبة عليها محل إقامتهم وملابستهم وصحبتهم وملازمتهم لكونها أهلاً لأن يعود إليها من خرج منها فلا يهجرها{[63915]} أصلاً ، فهي محل مناه وليست موضعاً{[63916]} يهاجر منه{[63917]} لبركتها أو خيرها .

ولما كان المراد الإبلاغ في مدحهم ، قال مضمناً " تبوؤا " معنى لازم : { والإيمان } أي و{[63918]}لابسوه وصحبوه وخصوه بالصحبة ولزموه لزوماً هو كلزوم المنزل الذي لا غنى لنازله عنه ، ويجوز أن يكون الإيمان{[63919]} وصفاً للدار بإعادة العاطف للإشارة إلى{[63920]} التمكن في كل من الوصفين فيكون كأنه قيل : تبوؤا المدينة التي هي الدار وهي الإيمان لأنها محل تمكن الإيمان وانتشاره وظهوره في سائر البلدان فلشدة ملابستها{[63921]} له{[63922]} سميت به ، ويجوز أن يكون المعنى : ومحل الإيمان إشارة إلى أنهم ما أقاموا بها لأجل أن أموالهم بها بل محبة في الإيمان علماً منهم بأنه لا يتم بدره ، ويكمل شرفه وقدره ، وتنشر أعلامه ويقوى ذكره إلا بها ، ولولا ذلك لهجروها{[63923]} وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان حله ، فهو مدح لهم بأنه متصفون بالهجرة بالقوة مع اتصافهم بالنصرة بالفعل{[63924]} .

ولما كان انفرادهم بإقامة الإيمان في الدار المذكورة قبل قدوم المهاجرين عليهم مدحاً تاماً ، قال مادحاً لهم بذلك دالاً بإثبات الجارّ على أنهم لم يستغرقوا زمان القبل من حين إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمرين{[63925]} : { من قبلهم } أي قبل هجرة المهاجرين لأن وصفهم بالهجرة لم يكن إلا بعد إيجادها فالأنصار جمعوا التمكن في الإيمان إلى التمكن في الدار من قبل أن يجمع المهاجرون بينهما بالهجرة .

ولما ابتدأ ذكرهم هذا الابتداء الجليل ، أخبر عنهم بقوله : { يحبون } أي على سبيل التجديد والاستمرار ، وقيل العطف على المهاجرين ، وهذه{[63926]} حال فيكون هذا حكماً بالمشاركة { من هاجر } وزادهم محبة فيهم وعطفاً عليهم بقوله : { إليهم } لأن القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه ، والدليل الشهودي على ما أخبر الله {[63927]}عنهم به{[63928]} من المحبة أنهم شاطروا المهاجرين في أموالهم وعرضوا عليهم أن يشاطروهم نساءهم على شدة غيرتهم ، فأبى المهاجرون المشاطرة في النساء وقبلوا منهم الأموال .

ولما أخبرهم بالمحبة ورغبهم في إدامتها ، عطف على هذا الخبر ما هو من ثمراته فقال : { ولا يجدون } أي{[63929]} أصلاً { في صدورهم } التي هي مساكن قلوبهم فتصدر منها أوامر{[63930]} القلوب فضلاً عن أن{[63931]} تنطق ألسنتهم . ولما كان المراد نفي الطلب منهم لما خص به المهاجرين ، وكان الحامل على طلب ذلك الحاجة ، وكان كل أحد{[63932]} يكره أن ينسب إلى الحاجة وإن أخبر بها عن نفسه في وقت ما لغرض قال : { حاجة } موقعاً اسم السبب على المسبب { مما أوتوا } أي المهاجرون من الفيء وغيره من أموال بني النضير وغيرهم من أي مؤت كان فكيف إذا كان المؤتي هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وإذا لم يجدوا حاجة تدعوهم إلى الطلب فلأن لا يجدوا حسداً ولا غيظاً من باب الأولى ، فهذه الآية من أعظم حاث على حسن الإخاء محذر من الحسد والاستياء . ولما أخبر عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الإخبار بتحليهم بالفضائل{[63933]} فقال : { ويؤثرون } عظم ذلك بقصر الفعل فصار المعنى : يوقعون الأثرة وهي اختيار{[63934]} الأشياء الحسنة لغيرهم تخصيصاً لهم بها لا على أحبائهم مثلاً بل { على أنفسهم } فيبذلون لغيرهم { كائناً{[63935]} } من كان ما في أيديهم ، وذكر النفس دليل على أنهم في{[63936]} غاية النزاهة من الرذائل لأن النفس إذا ظهرت كان القلب أطهر ، وأكد ذلك بقوله : { ولو كان } أي كوناً هو في غاية المكنة { بهم }{[63937]} أي خاصة لا بالمؤثر{[63938]} { خصاصة } أي فقر وخلل في الأحوال وحاجة شديدة تحيط بهم من كل جانب ، من خصائص البناء وهي{[63939]} فرجه .

ولما كان التقدير : فمن كان كذلك فهو من الصادقين : عطف عليه{[63940]} قوله : { ومن } ولما كان المقصود النزاهة عن الرذيلة من أي جهة كانت ، وكان علاج الرذائل صعباً جداً ، لا يطيقه الإنسان إلا بمعونة من الله شديدة ، بنى للمفعول{[63941]} قوله : { يوق شح نفسه } أي يحصل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس ، وقاية تحول بينه وبينها ، فلا يكون مانعاً لما عنده ، حريصاً على ما {[63942]}عند غيره{[63943]} حسداً ، قال ابن عمر رضي الله عنه : الشح أن تطمح عين الرجل فيما{[63944]} ليس له ، قال صلى الله عليه وسلم{[63945]} : " اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، حملهم{[63946]} على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " .

ولما كان النظر إلى{[63947]} التطهير من سفساف الأخلاق عظيماً ، سبب عنه إفهاماً لأنه{[63948]} لا يحصل ما سببه عنه بدونه قوله { فأولئك } : أي العالو المنزلة { هم } أي خاصة لا غيرهم { المفلحون * } أي{[63949]} الكاملون في الفوز بكل مراد ، قال القشيري : وتجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة{[63950]} والأكابر ، ومن أسرته{[63951]} الأخطار وبقي في شح نفسه فهو في مصارفة معاملته ومطالبة الناس في استيفاء حظه ، فليس له من مذاقات هذه الطريقة شيء .

وشرح الآية أن{[63952]} الأنصار كانوا لما قدم عليهم المهاجرون قسموا دورهم وأموالهم بينهم وبينهم ، فلما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير خطب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ما صنعوا بالمهاجرين من إنزالهم إياهم وأثرتهم على أنفسهم ، ثم قال " إن أحببتم{[63953]} قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليّ من بني النضير " ، وكان المهاجرون{[63954]} على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم ، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم ، فقال السعدان رضي الله عنهما : بل يقسم بين المهاجرين خاصة ويكونون في دورنا{[63955]} كما كانوا ، وقالت الأنصار : رضينا وسلمنا ، وفي رواية أنهم{[63956]} قالوا : اقسم فيهم{[63957]} هذه خاصة واقسم لهم{[63958]} من أموالنا ما شئت ، فنزلت{[63959]} { ويؤثرون على أنفسهم } - الآية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : جزاكم الله خيراً يا معشر الأنصار " ، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال العنزي : جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت *** بنا نعلنا في الواطئين فزلت

أبوا أن يملونا ولو أنا أمنا *** تلاقي الذي يلقون منا لملت{[63960]}

فهم لعمري الحقيقون باسم إخوان الصفا ، وخلان المروءة والوفاء ، والكرامة والاصطفا{[63961]} ، ورضي الله عنهم وعن تابعيهم من الكرام الخلفا والسادة والحنفا{[63962]} .


[63915]:- من ظ وم، وفي الأصل: فلا يهجر.
[63916]:- من ظ وم، وفي الأصل: مواضعا.
[63917]:- من ظ وم، وفي الأصل: منها.
[63918]:- زيد من ظ وم.
[63919]:- زيد من م.
[63920]:- زيد من م.
[63921]:- زيد في الأصل: إن، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63922]:- زيد من م.
[63923]:- من ظ وم، وفي الأصل: لهجروا.
[63924]:- من ظ وم، وفي الأصل: والفعل.
[63925]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالأمر هم.
[63926]:- من ظ وم، وفي الأصل: هذا.
[63927]:- من ظ وم، وفي الأصل: به عنهم.
[63928]:- من ظ وم، وفي الأصل: به عنهم.
[63929]:- زيد من ظ وم.
[63930]:- من ظ وم، وفي الأصل: أومن.
[63931]:- زيد من ظ وم.
[63932]:- من ظ وم، وفي الأصل: واحد.
[63933]:- من ظ وم، وفي الأصل: على الفضائل.
[63934]:- من ظ وم، وفي الأصل: الاختيار.
[63935]:- من ظ وم، وفي الأصل: الاختيار.
[63936]:- زيد من ظ وم
[63937]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[63938]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[63939]:- زيد من ظ وم.
[63940]:- زيد من ظ وم.
[63941]:- من ظ، وفي الأصل وم: المفعول.
[63942]:- من ظ وم، وفي الأصل: عنده.
[63943]:- من ظ وم، وفي الأصل: عنده.
[63944]:من ظ، وم، وفي الأصل: لما.
[63945]:- أخرجه مسلم في الصحيح: أبواب البر.
[63946]:- من ظ وم، وفي الأصل: حملوا.
[63947]:- زيد من ظ و م.
[63948]:- من ظ وم، وفي الأصل: بأنه.
[63949]:- زيد من ظ.
[63950]:- زيد من ظ وم.
[63951]:- من ظ وم، وفي الأصل: سرته.
[63952]:- زيد من ظ وم.
[63953]:- من ظ وم، وفي الأصل: جيتم.
[63954]:- من ظ وم، وفي الأصل: المهاجرين.
[63955]:- من ظ، وفي الأصل وم: دونها.
[63956]:- زيد من ظ وم.
[63957]:- من ظ وم، وفي الأصل: منهم.
[63958]:- من ظ وم، وفي الأصل: بهم.
[63959]:- من ظ وم، وفي الأصل: فنزل.
[63960]:- زيد في ظ: انتهى.
[63961]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[63962]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.